ربط التيار العلماني المتطرف مفهوم "الحداثة" بنقض القيم ومناهضة المرجعية الاسلامية كأساس للتشريعات الاجتماعية. بدأت إرهاصات هذا المفهوم مع إسقاط أتاتورك للخلافة الاسلامية العثمانية سنة 1923بدعم من الدول الاستعمارية، ثم اشتهرت الكتابات العربية الناقدة نقدا لاذعا ومباشرا للقرآن والسنة النبوية والتراث الاسلامي عموما. نستحضر نماذج عديدة أشهرها في الشرق العربي نموذج سلامة موسى القبطي (1887-1958) والأديب العربي طه حسين (1898-1973) في كتاباته الأولى عكس كتاباته الأخيرة والماركسي اللينيني السوري جلال العظم في كتابه "الثالوث المحرم: دراسات في الدين والجنس والصراع الطبقي"، وفي المغرب عبد الله العروي في كتابه "الايديولوجيا العربية " وكتابه" العرب والفكر التاريخي"، ومحمد عابد الجابري لكن بحدة أخف وأقل في كتاباته الأولى "نحن والتراث" و"نقد العقل العربي" عكس كتاباته الأخيرة التي دافع فيها عن الشريعة بطريقته الفلسفية. كان المفهوم الشائع في هذه الكتابات آنذاك هو " التنوير" والذي على أساسه قسمت الناس الى قسمين " تنويري" و"ظلامي". بعد انحسار هذا المفهوم بفعل تنامي المد الاسلامي وسيطرته شبه الكاملة على المشهد الثقافي ومنازعته للتيار العلماني في الجامعات وفي مواقعه السياسية والثقافية، انتقل التيار المتطرف من التنظير إلى الفعل والسلوك الاستفزازي واستعمال السلطة السياسية في أعلى مستوياتها لتبني سلوكات جريئة ومستفزة وفي مشاهد سياسية متتالية وغريبة عن المجتمع المغربي : 1) المشهد الأول حاول التيار العلماني المتطرف في بداية القرن الواحد والعشرين فرض توجههم عن طريق تقديم وزير متطرف في حكومة اليوسفي مشروع قانون تبناه اليوسفي نفسه سمي ب " خطة العمل من أجل إدماج المرأة في التنمية " يدعو إلى إلغاء القانون الاسلامي في الإرث وإباحة الإجهاض والتنصيص على حرية المتزوجة في أن تتصرف في جسدها والفتاة والمرأة بصفة عامة، وإلغاء الزواج الشرعي وإلغاء الدروس الدينية في البرامج التعليمية تفعيلا لمبدأ علمانية الدولة إلى غير ذلك من القضايا الغريبة التي طرحت بجرأة وتبنتها آنذاك جميع الأحزاب اليسارية وجميع النقابات اليسارية بوقاحة لم يعرف لها العالم العربي والاسلامي مثيلا ؛ لكن هذا المشروع تم وأده في مهده بعد معارك وطيسة على طول المغرب وعرضه مع التيار الاسلامي بجميع مكوناته التقليدية والحديثة تُوج الانتصار فيها للأخير بأكبر مظاهرة في الدارالبيضاء تقدر بمليون مشارك، وحنت السلطة رأسها للمرجعية الاسلامية والتوافق على وثيقة مدونة الأسرة على علاتها. المشهد الثاني: استغل التيار العلماني المتطرف الأحداث الإجرامية التي عرفتها الدارالبيضاء يوم 16 ماي 2003 والتي ليس من المستبعد أن تكون من صنع حزب سري نافذ غاية النفوذ. استغلها استغلالا بشعا لاسترجاع أنفاسه ضدا على كل ماله صلة بالمرجعية الاسلامية، وطرح بقوة مفهوم "الحداثة " بتقسيم جديد للناس الى : "حداثي" و "ارهابي" محاولا خندقة كل من ليس حداثيا بالمفهوم العلماني في صف الارهابين . بفعل تلك الأحداث تمكن التيار الاستئصالي من خلال حزبه السري من السيطرة على وسائل الاعلام الرسمية للهجوم على جميع التيارات الاسلامية التقليدية والحديثة المدنية والحكومية ، وتجرأ على النقد المباشر للنصوص الدينية والدعوة الى المراجعة الجذرية للمناهج التعليمية وإلغاء التعليم الديني كلية في المدرسة والجامعات وامتدت مطالبهم من على منبر القناة الثانية إلى إغلاق المدارس العتيقة، والمطالبة بحل حزب العدالة والتنمية وجميع الحركات الاسلامية المعروفة بالوسطية والاعتدال، وذهب بعيدا بالتطاول على المؤسسة الملكية من خلال الندوات في الاعلام الرسمي والقناة الثانية على الخصوص باتهامها وتحميلها مسؤولية التطرف الاسلامي، والدعوة الى تغير الدستور والتنصيص على الفصل بين الدين والدولة. وكان التوجه الاعلامي العام للحزب السري هو الترويج الفج للمقاربة الاستبدادية للرئيس المخلوع بنعلي في تونس وادعاء صلاحيتها وإعداد الدولة لتطبيقها على جميع المستويات. كانت لهذه الحملة الشرسة آثار نفسية سلبية على عموم المثقفين والسياسيين الرسمين ووزير الداخلية على الخصوص، من هذه الآثار مزايدتهم الاستئصالين باستعمال مصطلح "الحداثة" بجانب مصطلح " النهج الديمقراطي"، كمصطلح يرمز في المغرب إلى التيار اليساري المتطرف، خوفا من أن ينالهم الاستئصاليون بأذى، وطمعا في الانعام الأوربي عليهم بلقب "الحداثي". ولم تهدأ العاصفة إلا بعد أزيد من شهرين وبعد طول انتظار الشعب المغربي، وحتى ظن المغاربة أن انقلابا أبيض قد حدث في المغرب ، بعد أن خطب الملك محمد السادس في عيد العرش مدافعا عن الخيارات التاريخية للشعب المغربي ، وردا على التيار العلماني بقوله : "إن قضية علاقة الدين بالدولة قضية محسومة في الدستور"، ورغم ذلك لم يستطع الخطاب نفسه أن يتخلص من المصطلحين "الحداثة" و"النهج الديموقراطي" لكن تم تجريدهما من حمولتهما الاستئصالية. 3) المشهد الثالث هو خروج الحزب السري إلى العلن وتأسيس حزب ديكتاتوري غست سنة 2009 يصبو إلى السيطرة المطلقة على كافة دواليب الدولة ومنظمات المجتمع المدني هذه المرة على غرار مقاربة حسني مبارك المسترة وراء فقهاء السلطة وفتاوي شرعنة الاستبداد والإباحية رغم صعوبة تخريجاتها في المغرب، حاول هذا الحزب أن يوهم الناس أنه تصالح مع الهوية الاسلامية وأنه جمع بين الأصالة والمعاصرة، وهو في الحقيقة بعنوان حزبه يتهم نفسة بمعاداته للأصالة ويزكي التهمة بعناصره القيادية الذكورية والنسوانية المعروفة بالعداء للقيم الاسلامية. وافتضحت خطورة هذا الحزب في تصريح زعيمه المتسرع إلياس العماري بالدفاع عن مشروعية الحفل العلني للشواذ جنسيا وافتخاره بماركسيته اللينينية وقوله يوم لوحت له السيطرة المطلقة على المشهد السياسي: "خياري الفكري والسياسي ضد أسلمة الدولة والمجتمع وسأصارع فكريا وسياسيا هذا المشروع ومن مختلف المواقع" (أسبوعية "الحياة الجديدة" عدد: 125، نقلا عن هسبريس 28 يناير 2011)، قال هذا الكلام في نفس الوقت الذي يتبجح فيه بصداقته للملك، وقاله في عز نشوته بقوته الاستبدادية ويده الطولى على دواليب الدولة ووزارة الداخلية بالخصوص. اختفى هذا المشهد وتوارى زعماء الاستبداد إلى السرية مرة أخرى بفعل حركة 20 فبراير وما أعقبها من الاصلاحات الدستورية ثم الانتخابات وصعود العدو الأول حزب العدالة والتنمية إلى الدرجة الثانية من سدة الحكم ليصارعوا البقاء على الحياة والحفاظ على مصالحهم بحذر والتحكم عن بعد لا تخفى أبوابه ولا فصوله عن أحد. 4) المشهد الرابع والخطير هو "حداثة" الإباحية وتدوير المؤخرات والنهود العارية باسم مؤسسة الدولة؛ عبارة عن سلوكات فاضحة للمتطرفين العلمانيين تعبر عن حالة اختناق شديدة في نفَسِهم المناهض للإصلاح ومحاربة الفساد. بدأ هذا المشهد بدعمهم المادي والمعنوي لعيوش مخرج الفيلم البونوغرافي بنية عرضه على عامة الناس في القاعات السينمائية والقنوات الرسمية وكل الوسائل المتاحة، ثم تلاه فورا مشهد حقير وسخيف حير المغاربة أن يكون تحت الرعاية السامية وهو عرض السهرة الإباحية في المهرجان المسمى "موازين" لجمعية صديق الملك وكاتبه الخاص منير الماجيدي "مغرب الثقافات"، وأخطر من ذلك عرض القناة الثانية لتلك المشاهد الإباحية؛ كل ذلك تحديا للقانون الجنائي المغربي في فصوله 483 و497 و502، وتحديا لمشاعر الأسر الكريمة؛ وهي السهرة التي استُقدم وهُرّب لها عمدا باغيات أمريكيات يتقن تدوير مؤخراتهن العارية تماما في مشاهد غريبة ليست فقط مخلة للآداب العامة بل هي كلها إيحاءات جنسية مفضوحة؛ تلى هذا مشهد آخر وهو الترويج باسم الحرية وحقوق الانسان لفوضى جنسية عارمة لكنها منظمة ومقصودة بتوالي الإباحيين والشواذ جنسيا على منصة "موازين" وبتعري الشاذات جنسيا في رحاب مسجد حسان تحديا لفقه المرابطين مؤسسي الفقه المالكي والمذهب الأشعري، ثم استقدام وتهريب الشواذ جنسيا ضحايا السياحة الجنسية من مراكش إلى شوارع عاصمة سوس العالمة لعرض أجسادهم في شوارعها تحديا لعلماء سوس وساكنته المحافظة. ولا شك أن كل ذلك خُططَ له ليكون موازيا مع الدفاع عن هذه "الحداثة" في المنتديات الثقافية وفي فضاء الحواة المهربين القناة الثانية وإذاعاتهم. خلاصة الموضوع أن هذه المشاهد المخزية هي التطبيق العملي ل "الحداثة" عند العلمانيين المتطرفين وهي من حيث إيحاءاتها ومضامينها المعرفية هي العداء للشريعة الاسلامية بقيمها وأخلاقها وقوانينها؛ ويتبين هذا من نوع القضايا التي يؤسسون لها باستمرار على جميع المستويات كالدعوة إلى اعتماد "المقاربة حسب النوع " في قضايا الاسرة والحياة الاجتماعية والثقافية؛ وهي من حيث المرجع الفلسفي فلسفة مادية متطرفة وغير مقبولة في كثير من الدول الغربية وتصنفها خارج الحرية وحقوق الانسان الواجب من الدولة رعايتها وشرعنتها. ترى هذه الفلسفة أن الذكر لا يولد ذكرا بإطلاق ولا تولد الأنثى أنثى، وأن التمايزات الوظيفية بينهما إنما هي من انتاج المجتمع أي ليست طبيعية ولا فطرية، وعلى أساس هذه النظرية يجب إعادة النظر في تقسيم الأدوار بينهما ، وكذلك إعادة النظر في مفهوم الأسرة بحيث يمكن أن يشمل علاقات أخرى كالعلاقة الجنسية خارج البيت الزوجية، وعلاقة ذكر / ذكر وعلاقة أنثى / أنثى من الناحية الجنسية، كما تقول خطة المرأة السالفة الذكر؛ وهي قضايا مازالت إلى زمننا "مغرب السخافات" تشكل مركز اهتمام التيار العلماني المتطرف في برامجه السياسية والثقافية والحقوقية بالمقارنة مع المشاكل الحقيقية التي يعيشها مجتمعنا والتي يتحمل هذا التيار، في ظل سيطرته لعقود من الزمن على المواقع الحساسة في الدولة، مسؤولية تفاقمها كمشكلة البطالة ومشكلة الفقر ومشكلة الأمية ومشكلة الحريات السياسية ومشكلة الفساد الإداري ومشكلة الاختلاس للمال العام وغيرها من المشاكل الحقيقية. ولا شك ان هذه المشاكل يتحمل فيها التيار العلماني المتطرف مسؤولية كبيرة؛ كما أن حكوماته المتعاقبة فشلت فشلا ذريعا في التخفيف – على الأقل – من أثارها على كرامة المواطنين. لعل ترويج العلمانيين المتطرفين الفج لمصطلحهم "الحداثة " في زمن "مغرب السخافات" يعوض لهم الخسارة الكبيرة التي منوا بها في تجارتهم السياسية والثقافية؛ لكن "حداثتهم" ستفقد صدقيتها قريبا وبالتأكيد في المحيط الداعم لها وفي صفوف المروجين لها خوفا أو طمعا قبل غيرهم، والحقيقة أن العلمانيين المتطرفين أنفسهم سيقعون، باسم "الحداثة" الإديولوجية المعادية للقيم والاخلاق الاسلامية، خارج "الحداثة" التقنية والاجتماعية التي يتبناها الإسلاميون والقوميون وعموم المواطنيين، والحقيقة أيضا أن المجتمع سيفقد البعض منهم بخبراتهم ومهاراتهم العالية مع الأسف، بسبب بسيط وحسب خبرة أحد الحداثيين العرب المسمى أدونيس : "إن الحركة الحداثية تمتلئ بالحواة المهربين" (نسب هذه القولة لأدونيس إدوارد الخراط في كتابه " شعر الحداثة في مصر" القاهرة .ط 1999 ص 262 ). ونضيف: لا بركة في الحواة المهربين! قال تعالى "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " (الشعراء: 227).