كان أطول وأضخم وأهم قطار أرسلته في حياتي، وسهرنا كلنا على إعداده وعلى سلامته، يوم كنت (سككيا منسيّا كالعادة، مكلّفا بأمن القطار)، هو قطار »المسيرة الخضراء المظفّرة سنة 1975.. اشتغلنا عليه طيلة أربعة أيام بليلها ونهارها، ولم نذق لا طعم الأكل ولا طعم النوم، نظرا لجسامة المهمة وقدسية الحدث التاريخي.. وقبل أن أعطي إشارة الانطلاق لهذا القطار الفريد من نوعه وأنا خائف لا خوف جبن وعدم كفاءة ولكنّه خوف من الأعطاب التقنية خلال حدث وطني، ومحطّة تاريخية حاسمة؛ قلت لقاطرة الجرّ أمام زملاء يبتسمون : (لا تخذلينا يا صديقتي)، ثم انطلق القطار نحو (مراكش) تحفّه رعاية الله.. بقيت في المكتب أنتظر مكالمة من المحطة المجاورة كي تخبرني رسميا بأن القطار مرّ من هناك سالما كاملا، وكان عليّ أن أنتظر (40) دقيقة، كانت هي الأطول في حياتي، أي والله !.. ولما عادت تلك القاطرة (DF.106) قبّلتها وهي لا زالت إلى يومنا هذا تشتغل دون كلل أو خلل وقد لقبها الزملاء ب (صديقتنا المخلصة)، وهي فعلا صديقتنا في الوطنية والإخلاص، ولم تخذلنا في قضيتنا الوطنية، كما خذلنا رجال ونسوة وأقارب وجيران، ودول وبلدان.. فتحية لزملائي السككيين المنسيين منذ ذلك الحين... كانت الروح الوطنية طاغية بشكل ملفت وكان الكل يشتغل دون اعتبار للوقت ودون أخذ عطلة، وقد ارتبط النهار بالليل والمواطنون يتدافعون أمام مكاتب التطوع للمشاركة في المسيرة الخضراء المظفرة.. كانت لحظات فتح مبين، وانبثق التاريخ دفعة واحدة، وتعبّأ المغاربة قاطبة في وقت لم تكن فيه أحزاب تعبّئ، أو جمعيات تؤطر، واجتاز المغاربة الحدود الوهمية، واستكملوا دون حرب وحدتهم الترابية وحطّم الجدار قبل جدار برلين بسنين طويلة.. بعد ذلك توصّل كل الذين خدموا دون كلل أثناء الإعداد للمسيرة تهنئة رسمية كان كاتب هذه السطور واحدا منهم، وهي تهنئة أعتزّ بها وأفخر.. لم نتلقّ امتيازات، لم نحصل على ترقيات استثنائية أو على حقائب مملوءة بالأوراق النقدية، كما تلقّاها خونة الوطن، وأعداء وحدتنا الترابية.. ما كان بودّي قول هذا، حسبي الله؛ ولكن الظروف والأحداث أجبرتني على ذلك فمعذرة ! لقد تحدّثت »النهار المغربية« الغراء في عددها ليوم الجمعة11دجنبر 2009، وفي صفحتها الأولى عن الذين يسترزقون باسم الوطن، وعن الانتهازيين، كما تحدثت عن الوطنيين المزيفين، أولئك الذين يمنّون على الوطن (بالكلامولوجيا)، ثم يطلبون أو ينالون أجرا لا يتناسب مع ما قدّموه للوطن إن هم قدّموا شيئا أصلا.. هنا والآن..، في هذا الوطن العزيز، تجد الغشّاشين يرقّون ويستجاب لطلباتهم، وينالون حقوقا كان غيرهم أجدر بها وأحق.. تجد في المؤسسات في الإدارات أناسا لا وطنية لهم، ولا ضمير ولا كفاءة يكافؤون على دناءتهم ويرقون فيما المظلومون الصامتون هم الذين يتكفّلون بكل الأعباء وينجزون كل المهام وعلى أكتافهم تقوم الإدارة وبعرقهم الصبيب يرقّى آخرون، ويقدّمون إلى الملأ بصفتهم وطنيين شرفاء وخدّاما أكفاء.. وإذا ما تقدّم المظلوم بطلب، إما لجمود سلمه أو شلل أصاب رتبته، أو أراد الالتحاق بزوجته، أو .. فإنهم ينامون على طلبه، ويعرقلون حتّى يبقى المظلوم في موقعه، لأن لهم فيه مصلحة ومآرب شتّى، لأنه هو الأصل في ترقيتهم وهو الذي يغطي عجزهم و »مصيبة« المظلوم تكمن في وطنيته، وفي كفاءته وفي إخلاصه لوطنه.. هذه حقيقة لا يجادل فيها إلا كذاب ومنافق حقير.. فأموال الشعب ووسائل الدولة وامتيازات الإدارة تمنح للانتهازيين ولذويهم ولأبنائهم، ولعشيرتهم، ولأصحاب »البسطون« ، ولأتباع الجمعيات، وأشياع الأحزاب، ولخدام الأسر المحظوظة، ثم الأموال للخونة وللانتهازيين والمنافقين، ويبقى الإهمال والنسيان يطالان الوطنيين الصامتين الصادقين، وقد ورث عنهم أبناؤهم تبعات هذا الإهمال تماما كما ورث أبناء المخلصين شقاء وصبر المخلصين..