يعرف الدخول المدرسي الحالي 2012/2013 موجة من الاكتظاظ تجتاح الاقسام الدراسية و تعيد الى السطح احدى الاعاقات المزمنة القديمة الجديدة للتعليم ببلادنا و التي تتكرر مع كل موسم دراسي و كأنه قضاء و قدر لا توجد هناك حيلة لدفعه او تفاديه ، و من الملاحظ هذه السنة ان الاكتظاظ كما افسد على شركاء المدرسة نكهة دخولهم المدرسي ، فإنه ايضا معضلة تحولت الى ثقب اسود بمنظومتنا التعليمية يبتلع كافة مشاريع التجديد الرامية الى تحسين مردرويتها و الرفع من قدرتها الانتاجية بل و يربك جميع الرهانات المتعلقة بكل عملية اصلاح تعيد الاعتبار للمؤسسة التعليمية الوطنية، و تبرهن على صدقية الشعارات الكبرى حول "مدرسة الجودة "أو "مدرسة النجاح" التي دأبت الادارة التربوية رفعها كل سنة . و يهمنا في هذه الورقة ان نتحدث عن نتائج ظاهرة الاكتظاظ بالتعليم الثانوي التاهيلي باعتباره مرحلة انتقالية دقيقة و خطيرة في إعداد مؤهلات المتمدرسين قصد انتقالهم الى التعليم العالي و متابعة دراساتهم الجامعية ، فما هو هذا الاكتظاظ الذي اضحت تعاني منه المدرسة العمومية ؟ و ما هي اسبابه لهذه السنة ؟ و كيف يؤثر سلبا على جودة التعليم بالسلك الثانوي التاهيلي ؟ الاكتظاظ في المفهوم و المقاربة اذا لم يكن هناك معيار علمي ثابت و تعريف متفق عليه حسب ما يؤخذ من السلوك الاجرائي للجهات المسؤولة عن اعداد الخريطة المدرسية لحظة انجازها لدليل هيكلة البنيات التربوية بمؤسسات التعليم العمومي ، الشيء الذي يجعل نسبة الاكتظاظ غير مستقرة للمعطيات المتغيرة كل موسم دراسي ، فان التعريف الحقيقي للاكتظاظ الذي ينبغي اعتماده كمرجع في اطار اعداد بنيات تربوية وظيفية و مهنية : "هو العدد من التلاميذ في القسم الواحد الذي بلغ من الكثرة حدا بحيث تصبح معه عملية التواصل و المراقبة التربوية للتلاميذ امرا صعبا او معقدا يخل بسير انشطة التدريس و يحول دون تحقيق الاهداف التربوية المتوخاة منها" . و هذا المفهوم او المقاربة انما يعتمد في تحديدهما على الجانب المهني و البيداغوجي المرتبط بحقل التدريس ، و ليس الجانب الاحصائي او العددي مما يجعل مفهوم الاكتظاظ فضفاضا غير متفق عليه حيث يمكن ان يرى البعض ان ما زاد على 25 تلميذا في القسم يعد اكتظاظا بينما قد يرى البعض الاخر ان الاكتظاظ لا يكون الا عند 30 أو 40 تلميذا . و بناء عليه فالمعيار الاحصائي للاكتظاظ ينبغي ان يؤسس على المعيار المهني و البيداغوجي فبمجرد ان يصبح عدد التلاميذ عاملا مخلا بعملية التواصل و المراقبة التربويين و بالسير السلس لأنشطة التدريس بالشكل الذي يساعد على تحقيق الاهداف التربوية المتوخاة اعتبر هذا العدد اكتظاظا غير محتمل و زائدا عن الحد الطبيعي . و يتأكد مع التجارب الميدانية في مجال التدريس ان القسم النموذجي الذي يحقق جودة التكوينات هو الذي لا يزيد عدده عن 21 تلميذا او 25 تلميذا في الحد الاقصى .. و يبدو ان هذه المقاربة في تعريف الاكتظاظ لاكراهات او أخرى ليست بوارد عند الجهات المشرفة على هندسة الخريطة المدرسية سواء على المستوى المركزي او الجهوي ، اذا ما تفحصنا على الاقل المؤشرات الفعلية التي تلوح في الميدان . و هو ما يجعل من ظاهرة الاكتظاظ بمدارسنا مشكلا بنيويا مزمنا و ملازما لها كملازمة الظل لصاحبه . و ان هناك اسبابا مباشرة من نوع خاص هي المسؤولة عن تفاقم هذه الظاهرة المعضلة سواء خلال هذا الموسم او المواسم الفارطة . فما هي اذن تلك الاسباب تحديدا؟ الاسباب المسؤولة عن اكتظاظ الاقسام الدراسية تعود موجبات الاكتظاظ و الاسباب المسؤولة عنه الى نسبة الخصاص العالية الى الاطر التربوية المؤهلة بالدرجة الاولى ، ثم الى البنيات الاستيعابية غير الكافية لتغطية الحاجة المتزايدة على الخدمة التعليمية بسبب الاعداد الهائلة من التلاميذ الآتية من التعليم العمومي يضاف اليها الأعداد الكبيرة من التلاميذ زبناء تعليم الخصوصي، حيث ليس بإمكان هذا الاخير استيعابها على مستوى الإعدادي و التاهيلي لمحدودية طاقته الاستيعابية . فتضطر الى العودة من جديد لإتمام تعليمها بالقطاع العمومي . و لحل هذه المعضلة المتمثلة في انعدام الموازاة بين نسبة التلاميذ المتزايد و نسبة الاطر التربوية و البنيات الاستيعابية المنخفضة ، يضطر القائمون على اعداد الخريطة المدرسية كل مرة الى اعطاء تعليماتهم من اجل توزيع تلك الاعداد الهائلة بتكديس الاقسام بأعداد من التلاميذ تتجاوز المعدل الطبيعي تربويا . و بهذا ينشأ الاكتظاظ بالمدارس .. و لا يبدو في الافق لحد الساعة ان الجهات المسؤولة عن قطاع التربية و التكوين مركزيا او جهويا قد و جدت لأسباب الاكتظاظ هذه حلا يمكن من تجاوزها أو معالجتها بشكل ناجع ، و ذلك للمقاربة المحاسبتية المعتمدة منذ سنوات ، و التدابير الخاصة بترشيد الموارد التي اضحت تقود السياسة التعليمية الوطنية على حساب المقاربة البيدغوجية و جودة التكوين الواجب توفيرها ، الشيء الذي يحط من مستوى رأسمال تعليمنا الوطني باستمرار ، و يعمق اثارا سلبية و مدمرة تعصف كل مرة بحق شركاء المدرسة من تلاميذ و فاعلين تربويين: اساتذة و اداريين في ظروف للعمل ملائمة تمكنهم من اجراء تكوين محترم ، و بالتالي تحميهم من الاجهاد العقيم و ممارسات التعليم والتعلم السطحية التي يسببها الاكتظاظ ،كما تؤمنهم من الاستفزازات و انواع الضغوطات التي تفرضها طبيعة المواجهة و دينامية العلاقات الاجتماعية في مجال التدريس . و لقد تولد عن هذا الوضع التعليمي المكتظ والمرتبك في ظل زيادة الحاجة الناجمة عن الاعداد الهائلة من التلاميذ ، أن اصبح الخصاص في الموارد البشرية كبيرا جدا ما لبثت ارقامه ترتفع ما بين موسم وآخر حيث تقدر احتياجات السنة الحالية بنحو 15 ألف أستاذ في المستويات الثلاثة، خصوصا في المستوى التأهيلي الثانوي ، و هو رقم كبير جدا يعود الى انخفاض نسبة تشغيل الاطر الجديدة و غياب مراكز للتكوين او اشتغالها بطاقات محدودة لا تسد الخصاص مقابل ارتفاع عدد المتمدرسين اثناء كل موسم دراسي جديد . و لمواجهة هذا الخصاص المهول لجأت الجهات المسؤولة على مستوى الأكاديميات الجهوية و النيابات الى عملية تقليص الاقسام بالزيادة من عدد التلاميذ في القسم الواحد ، و هي عملية ان كانت من ناحية تسمح بتوفير عدد اكبر من الاساتذة عن طريق ايجاد الفائض لتدبير و سد الخصاص في الجهات و المؤسسات الاخرى حيث بلغ فائض هذا الموسم بسبب سياسية الاقسام المكتظة 7 آلاف و 500 أستاذ عند بداية الدخول المدرسي، أي حوالي نصف الخصاص المسجل ، إلا انها من ناحية اخرى ، تسبب اكتظاظا مهولا بالأقسام الدراسية حيث يفوق عدد التلاميذ 48 تلميذا في القسم الواحد . و لنأخذ حالة التعليم الثانوي التاهيلي مثالا للتأمل ، و مؤشرا لملاحظة مدى الخطورة التي اصبحت تشكلها معضلة الاكتظاظ على جودة المخرجات التعليمية و شروط صناعة التفوق و التميز في عملية تأهيل الشباب : فبخصوص هذا المستوى التعليمي تجاوز عدد التلاميذ 48 تلميذا ليصل الى حدود 52 تلميذا في القسم الواحد في بعض المؤسسات من جهة طنجةتطوان. و هو امر مخل لا يطاق من منظور طبيعة العمل بالأسلاك التعليمية ما دون التعليم العالي، و يضرب عرض الحائط بكل الجهود المبذولة من اجل ارساء ما يسمى بمدرسة الجودة او النجاح التي راهن عليها الكل منذ صدور الميثاق الوطني للتربية و التكوين و البرنامج الاستعجالي اللذين جعل من العشرية الاولى للألفية الثالثة عشرية للنهوض بالمدرسة المغربية . و ذلك للنتائج التالية : النتائج الناجمة عن الاكتظاظ بالأقسام الدراسية التأهيلية ثمة نتائج كارثية تنشأ عن سياسة الاقسام المكتظة المتبعة من قبل صناع الخريطة المدرسية بالقطاع التربوي ، و لتشخيصها يمكن عرضها من خلال البيانات الآتية : اولا ان الاكتظاظ يخلق شروطا للعمل غير مريحة تتجاوز طاقة الفاعلين التربويين خاصة العاملين بميدان التدريس الذين على عاتقهم تقوم كل عملية تكوين او تأهيل جاد ، إذ عليهم ان يؤدوا من رصيد صحتهم الجسدية و النفسية فاتورة ما ينجم عن مأساة مشكل الاكتظاظ من حالات الصدام و الاعتداء الجسدي و المعنوي و حالات التوتر العصبي و الاستفزاز و الاحتقان النفسي نتيجة تدابير التهدئة و حفظ النظام الدراسي التي يلجا اليها هؤلاء في مواجهة اشكال العنف و حالات الشغب التي تندلع بشكل متزايد كلما زادت نسبة الاكتظاظ داخل الاقسام ، و هي سمة سلبية تسود عادة في فضاءات العمل الجماعي التي تعتمد على الكم البشري بصفة عامة كما تؤكد ذلك جملة الدراسات السيكو اجتماعية المجربة حول دينامية الجماعات داخل الاوساط المدرسية و غيرها . ثانيا ان نسبة الاكتظاظ العالية تحول دون امكانية إجراء تدبير فعال لمهام المتابعة و المؤازرة التربوية و الارشاد كما تحددها الشروط المهنية للعمل بالسلك الثانوي التاهيلي التي على الاستاذ انجازها لفائدة تلاميذه بشكل جاد و أمين ، مما يؤثر سلبا على ما يمكن ان يتخذه من قرارات على مستوى تشيخص الحالات و عمليات تقويم ملكات شركاء القسم و ما يبدونه من مجهودات و مشاركة فردية نظرا لعديد التلاميذ ، و لكون اصول الطبع تقضي بان "الشيء اذا زاد على حده انقلب الى ضده" أما قواعد الشرع فتقرر بوضوح تام ينسجم مع طبيعة الاشياء و منطقها أنه : "لا يكلف الله نفسا إلا و سعها" . في حين ان هذه الاقسام المكتظة الزائدة عن الحد تحمل الفاعلين التربويين ما يتجاوز وسعهم لكثرة التلاميذ الذين تدل المؤشرات الاحصائية على ان قسمهم الدراسي هو نتيجة لدمج (( قسمين في قسم )) بسب الخصاص و الحاجة الى الموارد و الاطر التربوية التي يعني منها القطاع المدرسي ، فيصبح الاستاذ الذي اسند اليه الاشتغال مع تسعة اقسام انما هو في الواقع بحكم سياسة تقليص عدد الاقسام و دمج بعضها في بعض بموجب الخصاص انما يشتغل مع 18 قسما . بل إن حالة الاكتظاظ أو "الثقب الأسود" الذي ابتليت به منظومتنا التربوية منذ سنوات تحيل بكيفية الية الى اشكالية المصداقية أو الحاجة الى اجراء "التقويم المهني" النزيه للمردودية و جودة العمل الذي على الجهات الادارية و المكلفة بالتفتيش التربوي القيام بها في حق الفاعلين التربويين ، و هذه مسألة شائكة لانعدام الصفة العلمية و الواقعية ، اذ كيف نحاسب شخصا على قصور قد يصدر منه في حالة اسناد مسؤولية ضمن شروط ميدانية تتجاوز قدرته و امكاناته على العمل و المناورة . ثالثا أن الاكتظاظ حتى و لو كان في معدلاته الدنيا يؤدي في الغالب الى اهدار زمن التعلم و صعوبة اجراء تواصل تربوي فاعل و بناء بين الاستاذ و جماعته ، و هو امر يعرقل السير العادي لأنشطة التدريس و يحول العملية التعليمية الى نوع من السطحية و العبثية تضيع معها اهداف التربية و التكوين . و يكرس اجواء تحرم التلاميذ من تكوين الجيد يؤهلهم للانتقال الى متابعة دراساتهم العليا ، و بالتالي فهو يفوت الفرصة على فئات عريضة من ابناء الشعب المغربي و انتظارات أولياء امورهم و حقهم في تعليم نموذجي و فعال لأبنائهم يحقق الجودة التي رفعتها الوزارة شعارا منذ أكثر من عشر سنوات . خصوصا بعد الخطاب الملكي الاخير الذي يعد خطابا تعليميا بامتياز يحمل المنظومة التربوية الوطنية مسؤولية اعداد الشباب و تأهيله للمستقبل و الاندماج الكامل في مسار التنمية للبلاد و المساهمة في بناء المجتمع الديمقراطي و الحداثي . و بالتالي فالاكتظاظ الذي تعرفه باحات المدارس و حجرات الدرس من شانه ان يجهض كل جهد يبذل في هذا الاتجاه ، بمعنى في اتجاه تمكين الشباب مرتادي اوراش التعليم من تطوير ملكاتهم الابداعية و استثمارها ضمن مناخات للعمل تتكافأ فيها الفرص و تسهم بالتالي في اعداد الكفاءات في مجالات التنمية على اختلاف ابعادها. ذلك ان مشروعا من النوع الذي يحث على اعداد الاجيال للمستقبل و الاندماج التنموي يقتضي بكل حزم ارساء ما يسمى في ادبيات الوزارة بمدرسة الجودة.علما بأن معايير "مدرسة الجودة " و هو ما يجب الدعوة إليه ، تستوجب بكل ارادة و حزم البدء بمحاربة ظاهرة الاكتظاظ المدرسي المهدر للطاقات و الامكانات، و آلا يتجاوز عدد التلاميذ في القسم الواحد ما بين 21 و 25 تلميذا في الحد الاقصى باعتبار ذلك مدخلا اوليا نحو أي ارتقاء او اصلاح مرتقب لأحوال التعليم ، و هو هدف فيما يبدو يبقى دونه خرط القتاد كما يقولون و لو في المنظور المتوسط ، و ذلك بالنظر الى المعطيات و الظروف الراهنة على الاقل التي تمر منها المنظومة التعليمية ببلادنا و ما تحبل به من اكراهات و اعاقات . فهل حان الوقت من اجل اقلاع تربوي جاد يضع حدا لهذا الاكتظاظ الثقب الاسود الذي يبتلع كل شيء يقف في طريقه من مشاريع للتجديد .. و مواثيق تربوية واعدة .. و مخططات استعجاليه او متأنية .. تهدف الى الرفع من جودة منتوج المدرسة الوطنية و يرد اعتبارها ؟