الأستاذ عبد الرحيم الوالي تحت عنوان "مُقَاوَمَاتُ "الدولة العميقة" أم أعطاب النخبة السياسية؟"، كتب الأستاذ عبد الرحيم الوالي مقالا تحليليا بالغ الأهمية، شرّح فيه معضلة النخبة السياسية وأعطابها في المغرب، وذلك من خلال الوقوف على جملة من التجارب الفاشلة التي يتشارك فيها اليساريون والاسلاميون الذين دبروا الشأن العام بالبلاد، منذ ما سمي ب"حكومة التناوب التوافقي" برئاسة عبد الرحمان اليوسفي وصولا إلى حكومات العدالة والتنمية سواء في عهد بنكيران أو العثماني الذي يقود تربة ثالثة باسم الحزب "البيجيدي" . مقال الاستاذ عبد الرحيم الوالي خلص إلى ان مشكلتنا في المغرب، ليست مع "الدولة العميقة" المزعومة كما يدعي الاسلاميون واليساريون على حد سواء، بل مع هذه النخبة التي تقول ما لا تفعل، كما أن مشكلتُنا في هذا البلد يضيف الوالي كانت، وما تزال، مع ذلك الجوع السرمدي لدى هذه النخبة لأنها بكل بساطة استطابت المكاتب المكيفة الوتيرة، والفيلات الفخمة، والسيارات الفارهة، والأطباق الدسمة، والكؤوس المختومة، وكلما شعر أفرادها بأن هناك ما يهدد نعيمهم خرجوا مهللين ب"التحكم"..إنها أزمة نُخبة سياسية فاقدة تماما للمصداقية كما يقول الاستاذ عبد الرحيم الوالي، فلنقرأ بتمعن ما جاء في مقاله القيّم: مُقَاوَمَاتُ "الدولة العميقة" أم أعطاب النخبة السياسية؟ تُجمع الأطراف الكبرى في الدينامية السياسية بالمغرب الراهن على وجود خللٍ في هذه الدينامية نفسها. وليست شواهدُ الإقرار بهذا الواقع هي ما ينقص على كل حال. فالجميع يُعلنُ تَبَرُّمَه من أعطابٍ معينة في مفاصل العملية السياسية في البلاد. وفي أكثر من مناسبة وجَّه الملك نقداً لاذعا للنخبة السياسية معتبراً أنها لا تقوم بالدور المطلوب منها سياسياً ودستورياً. والنخبة السياسية بدورها لم تكُفَّ عن الشكوى من وجود قوة معينة تُقاوم كل محاولة للإصلاح والنهوض بأوضاع المغرب والمغاربة. ومثلما اشتكى الوزير الأول في حكومة التناوب التوافقي، عبد الرحمن اليوسفي، من وجود "جيوب للمقاومة"، شكَا عبد الإله بنكيران، رئيس أول حكومة بعد دستور 2011، من "التماسيح" و"العفاريت"، و"التحكُّم"، و"الدولة العميقة"، واختزلت أطرافٌ أخرى كُلَّ ذلك في لفظ سحري هو "المخزن". رُبَّما كان من السهل، في زمن حكومة عبد الرحمن اليوسفي، أن نتمَثَّل ما كان يقصده ب"جيوب المقاومة". فقد كانت المواجهة حينها واضحة بين المُعارضة السابقة من جهة، وما كان يُعرف ب"الأحزاب الإدارية"، ومعها ما كان يُطلَقُ عليه "الحزب السري"، من جهة أخرى. آنذاك، كان المغرب خارجاً لِتَوِّه من تسعينيات استهلها بالرصاص والدم بعد أن ودَّع ثمانينيات لم تكن أقل دماءً ولا رصاصا، وقبلها سبعينيات وستينيات خلفت وراءها رصيداً لا يقل عن كل ذلك مأساويةً. وكان من المفهوم تماماً أن تقف القوى المستفيدة من الوضع السابق أمام كل مشروع للتغيير تقوده القوى المناهضة لها، والتي كانت قد انتقلت من موقع المعارضة إلى موقع تسيير الشأن العام. كيف غرق االيساريون المغاربة فيمستنقع الامتيازات والإثراء غير المشروع، والزبونية، والريع غير أن الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي نفسَه، على ما يبدو، لم يكن قد رأى جيوب مقاومة أخرى كانت تنمو إلى جانبه. فضمن "الاشتراكيين" الذين كانوا آنذاك بجواره في الحكومة وزيرٌ شاعَ أنه كان ينفق من المال العام، يوميا، ما يُعادل أجرة مغربي كادح على الورد والشوكولاتة. وبعد ذلك بسنوات شاع أيضاً أن "اشتراكياً" آخر داخل المؤسسة التشريعية صار، بقدرة قادر، من كبار مُلاَّك الأراضي حتى أنه استحقَّ على ذلك لقب "عبد واخذ الأراضي" من فنان ساخر معروف. ومن المضحك أنه بعد انتشار اللقب دبَّج الرجل "بيان حقيقة" وبعث به إلى جريدة يومية فأخرجته على صدر صفحتها الأولى بعنوان عريض يقول: "لَسْتُ عبد واخذ الأراضي"، وصار الأمرُ أكثر سخرية من السخرية نفسها. أمَّا "اشتراكي" آخر، كان يعمل قبل الاستوزار برتبة عون في وزارة الفلاحة، فقد نشرت وسائل الإعلام غير ما مرة أنه أصبح يملك ضيعة على مد البصر لتربية الخيول الأصيلة. وخارج حزب الوزير الأول الذي كان يشتكي من "جيوب المقاومة"، لم يكن "الاشتراكيون" أقل حرصا على تحصيل الثروات ومراكمة الامتيازات والهفوات أيضاً. ولم يكن أدنى ذلك خروجُ وزير "اشتراكي" يوماً ما من مقر وزارته على عَجَل في اتجاه مقر البرلمان، لا لكي يجيب عن هموم الأمة وقضاياها، وإنما ليفك معصم ابنه من أصفاد شرطي قيَّده إلى شُبَّاك المؤسسة التشريعية بسبب اعتدائه على مواطن. وبعدها وقف ذات الوزير أمام وسائل الإعلام وكأن شيئا لم يكن. وحينما سُئل عن النازلة قال للصحافيين بأنه مضطر للانصراف لأنه لديه ما يفعله "لصالح القضية الوطنية" (هكذا!!!). وشيئاً فشيئاً، غرقت النخبة "اليسارية"، التي كانت تشكل صلب المعارضة السابقة، في مستنقع الامتيازات والإثراء غير المشروع، والزبونية، والريع، وغير ذلك من الممارسات التي ظلت تتظاهر بإدانتها والوقوف في وجهها. وكان من الطبيعي تماما، أمام هذا، أن تفقد أحزاب المعارضة السابقة بريقها ومصداقيتها لدى الجماهير، وأن ينفرط عقدها، وتنحسر شعبيتُها، ويلتحق أغلب الذين كانوا يصوتون لفائدتها بمعسكر اليأس والعزوف الانتخابي والعدمية السياسية. بل إن السواد الأعظم من قواعدها قد رَكَنَ هو الآخر إلى الإحباط واللامبالاة. وانشقَّ أكبرُ تلك الأحزاب وأكثرُها جماهيريةً، وتفرَّقَ شِيَعاً وطوائف يدعو بعضُها إلى "مسيرة الحُفَاة" ويذوبُ بعضُها الآخر في غطيط الغُفَاة، ولم يبق من اليسار المغربي سوى بعض الشظايا التي ظلت (وما تزال!) تردد ما تبقى من ترانيم "المقابر الجماعية" و"تسليم الرفات". المراهنة على فصيل آخر ضمن النخبة السياسية المغربية: الإسلاميون! هذا المشهد البئيس، الذي أنتجه جزءٌ من اليسار، وبمعيته اليمين التقليدي ممثلا في حزب الاستقلال، لم تحركه إلا عاصفة "الربيع العربي" عندما خرج الشباب المغربي يوم 20 فبراير 2011 ليقول إنه ليس عازفاً عن السياسة، وليس غافلا عمَّا كان يفعله يسار "السيجار والكافيار" ولا وطنيو الصالونات المخملية، بقدر ما أنه مُدركٌ تمام الإدراك لما يحتاجه المغرب والمغاربة من إصلاح عميق. ولولا ذلك الوعي السياسي الرفيع لدى الشباب المغربي حينها، والذي رفع مطالبه بكل مسؤولية وموضوعية واتزان، لكان المغرب قد انساق إلى الهاوية التي وقعت فيها بلدان أخرى. وأمام حالة الإنهاك الشديد التي صار عليها اليسار فلم يكن ثمة من مَخْرَج ممكن سوى المراهنة على فصيل آخر ضمن النخبة السياسية المغربية: الإسلاميون! فضائح الإسلاميين لاتزال طرية في الأذهان كما في الوجدان ومثلما اشتكى اليوسفي، الاشتراكي، من "جيوب المقاومة" صرخَ الإسلامي، عبد الإله بنكيران، من عضَّات "التماسيح" وألاعيب "العفاريت". لكنه، مثل اليوسفي تماماً، لم ينتبه إلى أن التماسيح والعفاريت لم تكن خارج حزبه الذي "اختاره الله" حسب قوله ل"إنقاذ البلاد"، ولا خارج حلفائه الذين اختارهم هو نفسُه ليشُدَّ بهم أزره ويُثَبِّتَ بهم الأقدام في الحكومة. وعوض ما وعد به الجماهير الغاضبة في ربيع 2011 وما بعده لم يفعل بنكيران وصحبُه سوى أنهم غرقوا في قصص العشق. وبدل إخراج مشاريع لمعالجة الوضع المتأزم أصبحت الحكومة "الإسلامية" ومشتقاتُها تُخرج "الكُوبلات"، من "الكُوبل الحكومي" إلى "الكوبل النقابي" مرورا ب"الكوبل الدعوي" الذي ذهب لتأدية نافلة النكاح على الشاطئ، مباشرة بعد فريضة الصبح، عملاً بالقول المأثور "خير البر عاجله"، حتى أن حكومته نالت من المغاربة، عن جدارة واستحقاق، لقب "حكومة بوكو غرام". ولم يقف الأمر عند الغراميات الحكومية، والدعوية، والنقابية، وإنما امتد إلى التوظيفات المشبوهة التي لم تكن أُولاَها ولا آخرها فضيحة توسُّط وزير في الحكومة لنجل زعيم "حركة التوحيد والإصلاح" لدى مؤسسة بنكية. وبدل تطوير برامج لتشغيل الشباب المغربي المُعطَّل اجتهد الإسلاميون في توظيف الأبناء والأقارب والزوجات، واستماتوا في تمكين هؤلاء وأولئك من مقاعد البرلمان، بينما تبرعوا على جماجم المحتجين من أبناء الشعب بحفلات "الزرواطة". ولم يجد بنكيران، الإسلامي، أي حرج في التصريح علانية، وأمام البرلمان، بأن تلك الولائم الدَّسمة التي أُكرم بها أبناء الشعب كانت بتعليمات منه كرئيس للحكومة. وبينما يُحرم أبناء الموظفين الصغار من المنح الجامعية كان نجل رئيس الحكومة يتمتع بمنحة سمينة دافع عنها نفسُ الأب الإسلامي ب"جبهة" قلَّ نظيرُها. ولو أننا مضينا في تعداد فضائح الإسلاميين وحكومتيهم لما وَسِعَ ذلك الحيزُ المتاح لنا هنا. لكنْ، يُعفينا من ذلك التعداد أن كل ما فعلوه بالمغاربة، من الزيادات الصاروخية في الأسعار، إلى ضرب الوظيفة العمومية عبر سَنِّ التوظيف بالتعاقد، مروراً بفضيحة ما سُمي ب"إصلاح التقاعد"، وفضيحة ملايير المحروقات، وغيرها، ما يزال طرياً في الأذهان كما في الوجدان. المغرب يعاني من أزمة نُخبة سياسية فاقدة تماما للمصداقية وبعد؟! هل كانت مشكلتُنا في هذا البلد، وما تزال، مع "الدولة العميقة" المزعومة أم مع هذه النخبة التي تقول ما لا تفعل؟ هل كانت مشكلتُنا في هذا البلد، وما تزال، مع ذلك الجوع السرمدي لدى هذه النخبة أم مع "التماسيح والعفاريت"؟ ما هو المشروع الذي قدمه هؤلاء لفائدة الجماهير الشعبية وعرقلته هذه "الدولة العميقة" أو تلك "التماسيح والعفاريت"؟ لم نسمع حتى الآن وزيرا واحدا قال يوما ما بأنه قدم مشروعاً من هذا القبيل وأن هذا المشروع قد تمت عرقلته من طرف هذا المستشار الملكي أو ذاك أو حتى من طرف الملك نفسه. بل لعل التحقيق في ملف "الحسيمة منارة المتوسط" قد أثبت العكس من ذلك تماما، وهو أن المشاريع التنموية التي دشنها الملك قد تمت عرقلتُها من طرف هذه النخبة بغاية المزايدة بها انتخابياً. وإذا كان هناك ما لا نعلمه في هذا الباب فإن الواجب الأخلاقي يفرض على مَنْ يعلم أن يُخبر الرأي العام، سيما وأن الملك قد قال علانية بأن على المسؤولين تحمُّل مسؤولياتهم والكف عن التشكي من وجود موانع تحول دون قيامهم بواجباتهم، أو تقديم استقالاتهم التي لا يمنعهم منها أحد. فما الذي منع "مناضلينا" الأشاوس من تقديم استقالاتهم إذا كانت هناك، بالفعل، "دولة عميقة" و"تماسيح وعفاريت" تعرقل صُنْع الجنة الموعودة على هذه الأرض؟ لم ولن يحدث شيء من هذا لأنهم، ببساطة، استطابوا المكاتب المكيفة الوتيرة، والفيلات الفخمة، والسيارات الفارهة، والأطباق الدسمة، والكؤوس المختومة. وكلما شعروا بأن هناك ما يهدد نعيمهم ذاك خرجوا مهللين ب"التحكم" كما فعل "الرفيق الحاج". لكنَّه، حين سُئل عن مصدر "التحكم"، نسي ماركس ولينين واستنجد بعادل الميلودي ومضى يُردد أمام الصحافيين: "والو! والو!" إنها أزمة نُخبة سياسية فاقدة تماما للمصداقية. وربما لن تكون آخرُ القرائن على ذلك فضيحة نائب الكاتب العام للجمعية المغربية لمحاربة الرشوة والذي كان (أعزَّكُم الله!) بطل فضيحة الرشوة لولوج قسم الماستر بإحدى كليات مدينة فاس.