بعد أن أصبحت فضاءً جغرافياً واجتماعياً مميزاً، للتحركات الجهادية في أوروبا، باتت فرنسا أحد أهم الممولين للمحاربين وللمتعاطفين مع توجيهات الحركات الإسلامية المتطرفة والعنيفة العاملة أو الناشطة حالياً في سورياوالعراق أيضاً (هذا دون غض النظر عن بقاع أخرى يشعر فيها بمثل هذا الحضور في مناطق أخرى من العالم). وفرنسا مجتمع أغلبيته من غير المسلمين، وفيه تتمازج هويته السياسية -غالب الأحيان- مع الدفاع عن علمانية عنيدة من الزاويتين القانونية والثقافية. أما الهدف البعيد، فهو إقامة دولة تجمع مسلمي العالم كله، دولة تضم الناس جميعاً، نساءً ورجالاً حتى الذين يعيشون في أوروبا. وهذا ما يفسره المنظرون للجهاد باعتبار هؤلاء جنوداً في جيش يعيش حالة حرب دائمة. إن التطرف ولأنه يشكل صدى للعديد من الإشكاليات الثقافية التي تطال بنتائجها مجمل الحقول التي تكوّن المجتمع الفرنسي (السياسي، الأمني، العسكري، الدبلوماسي، الاقتصادي، الجامعي، الثقافي، الديني، الاجتماعي...) وبالرغم مما يثيره من اختلافات معرفية، فإن التطرف هذا وبمتخيل جهادي لدى بعض الفرنسيين، يجب أن يعتبر واقعة اجتماعية كلية بالمعنى الذي أشار إليه مارسيل ماوس. هذا يعني أنه حين ندرس الأُطر المنطقية لهذا النوع من الالتزام، فإن علينا أن نتناوله بالدراسة في إطار علم اجتماع العنف السياسي والديني. هكذا، وبسبب تعدد العوامل إلى حد أقصى، وتعدد النماذج والظواهر والحلول المقدمة سلفاً من أجل فهم ظاهرة المقاتلين الفرنسيين الذين التزموا العمل الجهادي فلا بد لنا من أن نطرح السؤال أول الأمر حول علم اجتماع الظاهرة التي تتعلق بشخصيات وتطورات الفاعلين الذين يعنيهم الأمر. بعد ذلك لا بد من التطرق إلى أهم الحقول التي تدور في إطارها اليوم إشكاليات تفسير هذا النمط من التطرف ومن بناء جهاز أمني، عسكري وأيديولوجي تكون وظيفته الاحتراز من بعض الدعوات القتالية والقضاء على الشبكات والمجموعات التي يتكون وسطها الالتزام الجهادي ويتعزز. تبعاً للتقديرات الأكثر مصداقية، ثمة (1550) فرنسياً قد التزموا إلى الآن في حركات توصف بالجهادية (والتي تهدف، بالرغم من النقاش بين مختلف المجموعات التي تعلن التزامها بهذه الأيديولوجيةإلى إقامة شكل جديد من أشكال السيادة وسط مجتمعات تتشكل في غالبيتها من المسلمين، يقوم هذا الشكل على إلغاء كل شكل من أشكال الارتباط السياسي الديني، إذا كان هذا الشكل خارج إطار الخلافة). تشغل فرنسا المرتبة الخامسة عالمياً بين البلدان التي تمد هذه الجماعات بالمقاتلين، وهي الأولى حين يتعلق الأمر بالأمم الأوروبية (بقيمة مطلقة على الأقل). بالرغم من الوجود المتنامي لعدد النساء في فرق الفرنسيين الذين اختاروا الانتقال إلى الشرق الأوسط بهدف التضامن مع الحركات الجهادية ومدهم بالمساعدات (العسكرية، الطبية، الاجتماعية، والاقتصادية...)، فإن العدد الأوفر ما زال يتشكل من الذكور، وبشكل خاص من الشباب، بل الشباب الصغار، علماً بأن ثقل الأحداث أو الصغار قد ازداد منذ عام 2012 (نجد العشرات من حالات الأشخاص الذين يقل عمرهم عن "18" سنة الآن، وقد انتقل بعضهم إلى سوريا، أو قد التحقوا بالشبكات الجهادية داخل فرنسا). أضف إلى ذلك أنه لا بدّ من لفت النظر إلى تطورين يتعلقان بالأصول السوسيولوجية لهؤلاء الجهاديين الفرنسيين. أولاً: يتحدر غالبيتهم من عائلات إسلامية ومهاجرة (ينتمي هؤلاء إلى أجيال ولدت في فرنسا، أو نشأت فيها من الناحية الاجتماعية)، أي إن أهلهم أو أجدادهم قد تركوا المغرب (الجزائر بالدرجة الأولى، ثم المغرب وأخيراً تونس) وأتوا إلى فرنسا. أما الجهاديون الذين قدموا من السواحل (الأفريقية) فهم أقلية، (والذين يتحدرون من أصول تركية يشكلون حالات شاذة). إن الوجه الغالب على الحركة الجهادية الفرنسية هو وجه يرتبط بشدة بالعالم العربي، ذلك أن ممثلي هذه الأيديولوجية يتميزون برابط عائلي وسيري (حتى لو كان متخيلاً) مع هذا الجزء من العالم. مع ذلك فإن فرنسا تتميز بجانب آخر مهم جداً، ذلك أن ما بين (25%) إلى (35%) من الفاعلين الجهاديين إنما يتقاسمون مع أقرانهم المتحدرين من أُسر مهاجرة مسلمة الانتماء إلى الأجيال نفسها مع أنهم قد ولدوا خارج المرجعية لهذه الديانة. بعبارة أخرى: لقد تحولوا إلى الإسلام واعتنقوا الإيمان الإسلامي بعد مسيرات مختلفة نسبياً ولكنها متشابهة على صعيد الانجذاب إلى أشكال أصولية ومتطرفة في هذا الانتماء. يتميز أعضاء هذه الفئات بميزة على جانب من الأهمية، ذلك أن فرنسا تتميز أيضاً هنا بنصيب مهم من هذه الوجوه وسط الفرق الجهادية مقارنةً بالعديد من البلدان (ففي بلجيكا نجد على سبيل المقارنة) ما بين (6%) إلى (8%) من الجهاديين الذين ولدوا خارج أُسر مسلمة. بالانتماء إلى أوساط اجتماعية فقيرة اقتصادياً ومبعدة، يوفر هؤلاء الجهاديون (إن كانوا مسلمين بالتوارث أو بالتحول إلى الإسلام) الوجهين الأساسيين للجماعات في هذه الأيام. إن الانتساب إلى الحركات الجهادية ليس جديداً، وفرنسا بالذات تشكل صورة عن البلد الذي حاز في ذلك سبقاً على صعيد أوروبي، ذلك أنه بالإمكان معاينة أول حالات التطرف (حتى لو استعملنا التعبير بشكل مغاير) وسط آثار الحرب التي جعلت النظام العسكري في الجزائر يواجه مجموعات إسلامية مسلحة حاولت محاربته طيلة عقد التسعينيات، كما يتضح ذلك من مسيرة خالد كلكال بطل أحداث صيف عام 1995، والذي انتهى الأمر بمقتله بعد هربه لعدة أسابيع في وقت لاحق. مع ذلك فإن وجه المحاربين الحاليين يبدو أكثر تشرذماً من الناحية السوسيولوجية مع هذه النزعة الأقلوية التي تزداد نمواً، والتي تعتبر الأشخاص ومنذ البداية مبعدين لا عن المرجعية الإسلامية وحسب، بل هم لا علاقات صداقة تربطهم مع مسلمين. يُسهل لنا هذا البعد الاستمرارية الأصولية– العنيفة بشكل نسبي (أقله على صعيد المسيرة السوسيولوجية). وإذا كان البعد التخيلي قد اصطبغ بقيَم وبمعايير تأخذ من الإسلام الأصولي النزعة والمتطرف، فإن دراسة سيرة الحياة الشخصية للجهاديين توضح لنا الضعف الكامل في الاندماج بمؤسسات دينية، أو حتى بالتشكيلات السياسية المؤسساتية. ثم إن القوانين المتواترة عن السلفية المعاصرة، ستجد نفسها وسط العمل الجهادي دون أن يكون القائلون بها قد تلقوا تنشئة اجتماعية وسط جماعاتهم (حيث إدانة الإرهاب والرغبة بقلب الأنظمة هي من الشعارات المكتسبة عامة، وهذا ما يستوجب عداء الجهاديين)، إن هذه الظاهرة تعزز فرضية كون التطرف الكامن في بعض أشكال الحركة الأصولية هو الذي يكسب السبق. وبالفعل حتى لو أمكن تفعيل المخيال السلفي من جانب القائمين على الجهاد المسلح، فإنه لا بدّ لنا أن نلاحظ أن وجوده قبل الانتقال إلى الحركة الجهادية هو أبعد ما يكون تركيزاً على احترام الإيعازات الدينية. يتميز الإخوة كواشي الذين قاموا بالاعتداء على صحيفة "شارلي إيبدو" في يناير 2015، أو السيد أحمد غلام الذي خطط للاعتداء على عدة كنائس في باريس وفي فلجويف في السنة نفسها، إنما يتميزون بمستوى ضعيف من الممارسة بالتوازي مع السعي إلى الفداء الأخلاقي والاجتماعي الذي يعتبر أمراً يتشارك فيه كل الجهاديين الفرنسيين، الذين يعتبرون أن العمل العنيف سيؤدي إلى العفو عن ماضيهم. وإذا ترتب علينا بذلك أن نذكر عنصراً مشتركاً، فهذا لن يكون إلا الماضي الإجرامي لأكثر من نصف عدد هؤلاء الجهاديين، حيث تكون نتائج استعمال السلاح والأعمال التي يقوم بها الجانحون حاسمة في كل مرة يكون الهدف الإرهابي (على الأرض الفرنسية) والنضالي (بالنسبة لمن ينجح منهم بالوصول إلى مسرح الصراع، سواءً كان في سوريا أو العراق) بديلاً عن الدوافع العلمانية الأكثر تقليدية، إنه إغراء الكسب.