اطلعتُ على دراسة نشرت قبل مدة ليست باليسيرة، لباحثة مغربية تعالج مشكلة الفقر من رؤية إسلامية، وبقي عندي في ملف ضم بعض الانتقادات لِما حققته الباحثة في حلقة من حلقات دراستها، ولم يتهيأ نشره حينذاك، ولما كان الأمر مما يحتاج إلى رفع إشكال، ووقعت يدي عليه قبل أيام، رأيت من الواجب تبيين ما أشكل من الأمر ورفعه، ولذا فلا يعد هذا لما باعد الزمان بيننا ردّا بقدر ما هو تصويب لوجهة نظر، ومعالجة للفكرة في حد ذاتها، والغرض النصيحة وتصحيح المفاهيم. في سياق هذه الدراسة وقع الخلط بين مصطلحي الفقر والزهد، أو كما صوبتُه في العنوان: الفقر والافتقار، مما خرج بالباحثة إلى رمي منهج سديد في الافتقار والتذلل والتزكية على أنه إظهار للفقر والتواكل والدونية، ومن ثم في نظرها كان له أبعد من دلالة على خلل في العقيدة إلى غيره مما لم يستقم معناه ولم يتضح، لأمرين: أولا: لأن البون شاسع بين الحالين أو المقامين، لغة واصطلاحا، فليس هنالك أدنى علاقة بين الفقر المادي والزهد والافتقار، لأن ذاك بالمعنى الأول قد يكون بسبب أو بلا سبب، وهو في حقيقته يحتاج إلى تمحيص وبحث، لكنه في المعنى الثاني أمر مشروع ومؤسَّس له بكليات الشرع والأمر لا يحتاج إلى بيان. ثانيا: الاقتصارعلى نموذجين من مدرسة التصوف ( الإمامين الغزالي وابن عجيبة) ورميهما بالتأسيس لهذا المسلك في الافتقار ( والمنعوت عند الباحثة بالفقر والتواكل) غير سديد، وأبعد ما يكون عن الصواب، لأنه أمر يطول استقصاؤه في حال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم من سادات الأمة، وهو منهج قائم على التزكية والمجاهدة ولا علاقة له بمنزع عقدي كما تسميه التواكل أو ضعف اليقين لأنه مفر من التواكل والدونية وتعلق بالله وارتقاء إليه تعالى وهجر للسفاسف والترف ولهو الحياة، وهذا لا شك أيضا قد دعا القرآن إليه وقرره ولربما دعوته إليه أصرح كما الدعوة إلى التنعم وأخذ الزينة أبين وأوضح. وبهذا يكون قولها ( والذي رأيت من الأمانة العلمية نقله لتباعد الزمان بيننا وبين نشره) فيما يأتي، مما يحتاج إلى رفع إشكال، إذ تقول: " ولعل مسعى الابتعاد عن الكسب من باب (دع تسلم) كان أقرب الطرق في نظر البعض إلى النجاة المفترضة في الآخرة، ومن ذلك اعتبار الغزالي في "الإحياء": " ترك الاشتغال بالمال وفراغ القلب للذكر والتذكر والتذكار والفكر والاعتبار أسلم للدين وأيسر للحساب وأخف للمسألة وأجزل للثواب وأعلى للقدر أضعافا" ومنْ فهمه هذا، بلور نصحه للسالكين في قوله: " ترك الاشتغال بالمال أروح لبدنك وأقل لتعبك وأنعم لعيشك وأرضى لبالك وأقل لهمومك"... والعجيب أن أفكار الغزالي وغيره ممن خلطوا بين الزهد والفقر خرجت من عباءة الفكرة إلى الممارسة والعمل، حتى عُلم عن أكابر الأقوام وسادتهم من جنح إلى الدونية والتواكل، ونموذج ابن عجيبة المغربي (ق19) ليس إلا واحدا من هؤلاء، فحين اهتدى إلى احتراف التسول بتطوان، وكان من أعيانها، كانت غايته إذلال نفسه وتحقير ذاته حتى توافق أفعاله مذهبه في الزهد وكتاباته في التصوف، بعد أن قسم السؤال (التسول) إلى واجب ومندوب، وحسبه مما تجري عليه الأحكام الخمسة، وحتما ساهم كغيره في بث قيم مشوهة أفسدت على الناس الفهم الأصيل الذي يوافق كليات التشريع ومقاصده بل وحتى ظواهره، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي"، ويذم الفقر في قوله: " اليد العليا خير من اليد السفلى" ويشجع على الكسب كيفما كان، ويفضله على السؤال في قوله: " لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه" اه كلامها
الظاهر أن الأستاذة وقع لها خلط استدعى الجمع بين متناقضين، مما أخرج طروحاتها من سياق معالجة الفقر من وجهة رؤية إسلامية، إلى وجهة نظر شخصية ليس إلا، وأقولها دون تحفظ، لأنه كان ينبغي الإلمام بكلام الغزالي في سياقه، وفعل ابن عجيبة في مساقه، وكله أمر لا يخرج عن حدود المشروع المعهود المؤسس على الكليات السلوكية، المستنبطة من كليات التشريع، والمستوحاة من فعل السلف والصحابة رضي الله عنهم، إذ الأمر بهجر التنعم والحرص على وجه المبالغة لا الاكتفاء لا غبار عليه، وأما احتراف وسيلة لإصلاح النفس إن ظهر فيها ما يوميء إلى التجرد فهي وسيلة إلى أشرف مقصود وهو التربية على الافتقار والتذلل، خصوصا وأن صاحبها في غنى عما يتوسل إليه وعما يسأله الناس، ناهيك عن وسائل أخرى تضمن إلى حدما الارتقاء بسلوك صاحبها، فقد نقل عياض عن ابن مهدي قال سمعت مالكا يقول: لو علمت أن قلبي يصلح بالجلوس على كناسة لجلست عليها. وقد نص الغزالي في الإحياء على أن علاج القلب بمثل هذا مطلوب، والمقصود علاج الرياء والشهوة الخفية بعلم وعمل. وأحيلُ الباحثة فقط فيما ساقته من مناهج على دراسة أصل أصيل تناوله أهل العلم في الأصول والفروع، وتكلم عليه الإمام الشاطبي في المقاصد وهو ترك التوسع في المباحات، ولعله باب وأي باب في التوفيق بين مقاصد الخلق والحق. وأحيلها أيضا على مناهج ومدارج التزكية التي لا تبعد عن حقيقة التجريد، باعتباره مقاما مخصوصا لا يرتقيه إلا من صفا مشربه ونما مدركه الروحي والعقلي، فلا يلتفت إلا إلى الجوهر، وله أصل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الإرشاد والتسليك لحارثة: عرفت فالزم. ومن أمثلة هذا وذاك: ما قرره الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري من شهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر"، هذا الصحابي بصدقه مع الله خالف فقه جمع من الصحب الكرام إذ كان ينبذ المال وأهله، حتى قال: " بشر الكانزين بمكاو من نار تكوى بها جنوبهم وجباههم ..." أو كما قال. فالشاهد أن ذاك منهج حضر عند جمع من الصحابة مفاده صدق السريرة والزهد في الدنيا ومتاعها، فلا ينبغي التسرع بوصفها قيما مشوهة ولها أصل، كما لتحقيق الترفه في الحياة أصل وقد يُغلّب أحد الطرفين على الآخر، وكل يستمد قوته من مقصدية التشريع وأحوال الواقع وسلطان التزكية والتصفية فلا تنبغي العجلة. حين نتمسك بزمام كليات التشريع ومقاصده لا بد من فقه موازنة، يقدم فيه حسب الواقع والوقائع الراجح على المرجوح، فقد يكون من باب موافقة كليات الشريعة الدعوة إلى ترك اللذات والشهوات وعدم الانغماس في جمع المال، وسد ذريعة إعلان النعمة وعدم التقاعس عن الواجب، لأن حدود الواجب لا تنضبط وضوابط الامتلاك قلّما تراعى بين الناس، ولهذا أمر عمر رضي الله عنه أحد الصحابة حين أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم أرضا، أن يأخذ منها ما يكفيه ويرد الباقي إلى بيت مال المسلمين. وفي ذات الوقت يفرق في مناهج التزكية بين المراتب والمنازل، فلا يستوي من جاهد وكابد، مع من أخلد وإلى دنياه استند. الافتقار أن يُجرد العبد قلبه من كل حظوظ الدنيا وأهوائها، وهو ما عناه ابن القيم: أن حقيقة الفقر ألا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثم ملك واستغناء مناف للفقر. وفي هذا المعنى يروى عنه أيضا: بحثت عن باب أدخل منه إلى الله، فطرقت باب الصلاة فإذا عليه كثير، وطرقت باب الصيام فإذا عليه كثير، فطرقت باب الذل والافتقار فإذا هو فارغ لا يعرفه سوى القليل من عباد الله. وهذا دافع تربية النفس ومجاهدتها، فإن كان جمع المال مرغوب فيه فبقدر ما ينتفع به المرء ليس إلا، وفي مقابله الدعوة إلى تزكية النفس ولو على حساب نبذ المال والظهور، قال تعالى: " قد أفلح من زكاها"، ووسائل التزكية تحقق صفاء السجية ونقاء السريرة، وفي التملك يقال: من عوفي من رؤية الملك لنفسه لم يتلوث باطنه. فالفقر إذا كان بمعنى الافتقار عُدّ محمدة، وكل الوسائل المفضية إلى تحقيق هذا المقام سواء بالتجرد أو ذم النفس أو التحلل من المال فهي عين التذلل وهو منهج عند الصحب الكرام وأقرهم الشرع على ذلك بنصوص كلية، فلا يؤخذ كلام الغزالي على إطلاقه كما فهمته الأستاذة إلا بقدر علاج القلب وقد سبق قوله أن ذاك مطلوب ومرغوب، ولا سلوك ابن عجيبة كذلك وقولها بأنه احترف التسول وهو من أعيان تطوان حجة عليها إذ منه يؤخذ أنه لم يحترف التسول لذاته بقدر ما هو وسيلة إلى مجاهدة النفس ومعاكسة هواها، وهي ظرفية في سلوك أهل الله،[1] ولعل الأمر يحتاج إلى تفصيل ليس هنا محل بسطه ومن ذاق أحوالهم ودنا من أعتابهم عرف، فلا يحق هذا الإطلاق حتى يصل المرء في معرفة أحوالهم حال الصفّاق الأفّاق.. [1] وكان من الأليق أن تعرض الباحثة لاحتراف الفقر بالتسول المنشود به جمع المال في واقعنا والغنى بوسائل أضحت شاهدة على قمة الاحترافية والمباهاة بين فقراء في الظاهر أثرياء في الباطن بدل ما قررته.