تصف الذاكرة الطنجاوية المدينة و كأنها عروس بزينة ليلة الدخلة، و تصور شوارعها بغاية الجمال و النظافة، ولا البساط الأحمر في مهرجان كان . و ما ذلك بكذب و لا بهتان، و لا بتكابر و لا تفاخر فارغ، و إنما هي حقيقة ما كانت عليه شوارع المدينة من زينة و نقاوة و أنوار و إقامات فاخرة، و محلات تجارية راقية، و مقاهي فخمة، و متجولون محترمون أنيقون بألبستهم العصرية - الرومية -، أو التقليدية - الحايك و الجلابة - التي عملت و بشكل كبير على الحفاظ على الهوية المغربية الجبلية للمدينة، وسط نظام دولي تديره ستة من أكبر الدول الغربية آنذاك. و تتذكر أجيال الستينات و أوائل السبعينات كيف كانت أزقة و شوارع المدينة تنظف باستمرار، و كيف كانت الأنوار تزينها و تضيء سمائها و تزيدها جمالا. و لا شك أن العديد من أبنائها اليوم يتحصرون على ما آلت إليه أغلب الشوارع من تردي واضح، و عشوائية في الترصيف و التجهير، و الترقيع الذي شوه العديد من الأماكن التي كانت بالأمس القريب غاية في الجمال و البهجة. و من منا لا يتذكر " سور المعكازين" المغري بموقعه الجذاب، المتمركز وسط أهم شارع بالمدينة " باستور"، و أشهر ساحة " فرنسا"، و أرقى مقهى آنذاك" باريس"، و بإطلالته الفريدة على الميناء و منه إلى الضفة الأخرى، و بحديقته المخضرة الجميلة، و بمراحيضة النقية. و من منا لا يتذكر تاج ساحة فرنسا، ثم النافورة التي أضفت على المدار جمالاً و روعة. و من منا لا يتذكر النجمة الخشبية التي كانت غاية في بساطة الهندسة، لكنها روعة في المنظر. و نقطة تحديد المكان، و مزارة لكل وافد جديدة لا يعرف من المدينة سوى ،سور المعكازين، و البلايا، و النجمة. رحمة الله عليهم جميعاً. إن ذاكرة المدينة غنية بصور يتأسف الغريب قبل القريب على التشوه الذي أصابها، حتى صار الناظر إليها يشك في كونها طنجة الماضي، لولا بعض المعالم التي لا زالت صامدة في وجه عقلية التخريب التي غيرت ملامحها، و أفقدتها جمالها و بهائها بصرف الملايير من السنتيمات و للأسف، دون تحقيق أدنى شيء يذكره اللسان، سوى ما نشهده من انتشار للعمران، و تعالٍ في البنيان، و تغييب لكل ما من شأنه أن يحفظ للمدينة المكانة التي اكتسبتها تاريخيا و جغرافيا. فصارت أقل حجما من كل ما يُتوقع لها أن تصير. و كيف لا و هي المدينة التي تحتضن اللقاءات و المؤتمرات تحت الخيام، و أرض " إيكسبو 2012 " الذي بإمكانه أن يتحول إلى أكبر قاعة للعروض و المؤتمرات بمرافق متنوعة، يحوم حولها التماسيح و العفاريت من بني آجورًٍ و إسمنتٍ ؟. كيف لا و جل الإدارات العمومية و المقاطعات تتخذ من بيوت مكترات بمبالغ ضخمة مقرات لها، فيما مساحات من أراضي المدينة تُفوت للشركات العقارية المحظوظة بدعوى توفير السكن الاقتصادي، لتصير بين العشية و الضحى أكبر بائعٍ للبقع الأرضية المعدة للعمارات بالمدينة ؟. كيف لا و لتزيين شوارع المدينة حتى تليق باستقبال عاهل البلاد اضطر المسؤولون إلى جلب المصابيح و الديكورات من مدن أخرى؟!. نعم، كانت طنجة قبل أيام قلائل على موعد مع المناضرة الثالثة للصناعة، و طبعا حظيت باستقبال عاهل البلاد، و لأجل ذلك كان على القائمين على تدبير شؤون المدينة تزيينها و تنظيفها و ترقيع شوارعها، و ذلك في الوقت الميت طبعاً و كعادتهم. بل و حتى أخر لحظة قبل وصول الملك إلى مكان انعقاد المناظرة، كان العمال لا يزالون يشطبون و يجففون الطرقات من الأتربة و مياه الأمطار. و كثير من السكان استحسنوا الحال الذي صارت عليه الشوارع الكبرى بعد تزيينها بالأضواء، و المصابيح الملونة، و الديكورات الكهربائية، و كذا تزيين الأشجار، و تبليط الأرصفة و ممرات الراجلين، لتتغير بذلك ملامح المدينة، و تعود بنا إلى ماض ليس ببعيد، حينما كانت الشوارع على ذلك المنوال أو أفضل. لكن القليل فقط من يعلم أن هذا المكياج مستعار من مدن أخرى كالمضيق و فاس و مراكش، و أن مآله الرجوع إلى أصحابه، لتعود بعدها حليمة إلى عادتها القديمة. أليس هذا ما يثلج الصدور، و يفرح القلوب، و يجعلنا نفتخر ( بحصاد ) سنين من هدر الأموال في كثرة الأقوال دون الأفعال؟، أليس هذا ما يجعلنا نطمئن على مستقبل مدينة تَصْرِفُ الملايين دعما لكم هائل من جمعيات هَزِّ الخَصْر، و تفتقر لأدنى شروط احتضان أصغر نشاط ؟. إنه واقع طنجة عاصمة ال" كاب نورط" السياحي، و القطب الاقتصادي الثاني، و عروس البوغاز، و بوابة المغرب نحو أوروبا، و ملتقى الثقافات... . إنها أسماء تعددت ، و يظل الحال واحد، مؤلم و محزن.