جلس راعي الغنم إلى جذع شجرة التوت ، و كلبه ، أمامه ،باسط ذراعيه بالوصيد ، ينتظر أي إشارة. من صاحبه للانطلاق كالسهم لإرجاع أي غنم قاصية إلى القطيع . كان الراعي مطمئنا لغنمه بحراسة هذا الكلب ، فأرخى كل جسمه و بدأ ينصت للطيور و هي تسر بما شاهدته إلى شجرة التوت ، تقفز من فنن إلى آخر، تشقشق و تغرد . و تساءل الراعي : " لماذا تختار الطيور شجرة التوت هاته ، تأوي إليها و تبني فيها أعشاشها و تستأمنها على فراخها لتطير خماصا و تعود بطانا ؟ و دائما على الأغصان تتغازل و تتزاوج ،و تباركها الشجرة بالرقص و التصفيق ؟ ". أخذت الراعي سِنَةٌ من النوم ، قطعتها هزة خفيفة ، جعلته ينظر يمينا و يسارا شبه مذعور ، ليعود إلى شروده و غفوته ، لكنه أحس بهزة ثانية ، فانتفض و نهض واقفا لاستجلاء الأمر .. احتار و لم يفهم ، فعاد إلى جلسته ، و ما كاد يجلس حتى غاص في نوم عميق من شدة التعب ، متوسدا ذراعه اليمنى . سمع الراعي صوتا خافتا أفزعه ، فهم بالهرب لكنه سقط على وجهه ، لم يتمكن من زحزحة رجليه ، نظر إليهما مكبلتين بعروق شجرة التوت ، أراد أن يصرخ ، أن يطلب النجدة ، لم يستطع .. فأحس بالنهاية المرعبة مع قعقعة الأغصان الغاضبة و فحيح العروق المجنونة ،كيف تجعله يغوص في الأرض شيئا فشيئا ، و الكلب ينظر إليه مرة و إلى الغنم أخرى ببرودة شديدة . كان ينتظر منه أن يتحرك ، أن ينبح ، أن يفعل أي شيء لنجدته ، لكن الكلب ربض في مكانه و وضع رأسه على قائمتيه الأماميتين الممدودتين ، و نام نصف نومة . انتفض جذع الشجرة بقوة هذه المرة ،حتى أحس الراعي أن الشجرة همت بسحقه ،صرخ صرخة ميتة لم تتعد حلقه ، و أغمض عينيه ، و شبك ذراعيه مخفيا رأسه بينهما لاتقاء أي ضربة محتملة .. مرت هنيهة ،فتح الراعي عينيه ببطء ، رأى لحاء شجرة التوت ينفرج عن عينين كبيرتين و أنف معقوف و شفتين غليظتين . تحركت الشفتان عن صوت كالرعد و صفير حاد ،استنفر أشجارا متباعدة ،زحفت مقعقعة ، و زادت من رعب الراعي و تيقن من الهلاك الوشيك . انتفضت شجرة التوت فسقطت أوراقها و طارت العصافير مرعوبة ، و قبضت على الراعي بغصنين قويين ، و هزته هزا شديدا حتى سقطت قبعته أرضا ، وتكلمت بكلام يشبه كلام القضاة في المحاكم : " تهمتك اليوم أيها الراعي ، أنك بترت كل أغصان الأشجار الحاضرة هنا و اجتثثت البعض و أحرقت البعض، و تلذذت بالنار تلتهم الأخضر و اليابس.. هل تعترف بالمنسوب إليك ؟ " . هز الراعي رأسه معترفا بعينين دامعتين طالبا تخفيف الحكم . اجتمعت الأشجار أكثر و تشابك ما بقي من أغصانها للتداول و إصدار الحكم . أوكلت شجرة التوت لشجيرة صغيرة مهمة النطق بالحكم . توسطت هذه الشجيرة الجميلة المكان و انبجست شفتاها عن كلام رقيق مسموع : " أيها الراعي ، بعد أن اعترفت بالمنسوب إليك ، ستبقى مكبل الرجلين حتى هذا المساء ، و في الغد ستبدأ عملية غرس عشرين شجرة ". هز الراعي رأسه بالموافقة و راقب الأشجار تتحرك مبتعدة ، لكنه أحس بيد تهزه ، ففتح عينيه ليجد نفسه قد استيقظ من حلم مزعج . نظر إلى شجرة التوت في كبريائها الطبيعي المشحون بالصمود و التحدي ، و قال لها : " صدقت و الله يا شجرة التوت ، و إني منفذ الحكم الآن " . و بدأ الراعي في عملية غرس الأشجار بحماس كبيرو الندامة تعصر قلبه على ما فعل.