هذا بورتريه عن الفقيه الهسكوري الغني عن كل تعريف ..فيه تفاصيل تقال وتكتب لاول مرة ..هناك من يعرفها ومن عايشها وجايلها وهناك من لايعرف سوى مدرسة تحمل هذا الاسم ..عموما الجمال والتميز في هذا البورتريه هو أن صاحبته هي حفيدة الفقيه ..ظلت "تتوجع" كتابة وتفكيرا إلى أن استقرت بها ريشة التحبير على هذه الكلمات التي خطتها ..وقاتلت لكي تفتك نفسها من الذاتي محافظة على الموضوعي .. ملاحظة لابد منها ..سلمة الهسكوري طالبة متدربة بمركز الصحافيين الشباب ..وهي تطرق هذا الجنس الصحفي في تجربتها الفتية ..سفر ممتع في مسار وحيوات الهسكوري الجد الذي تستدعيه الهسكوري الحفيدة ..للرأي العام .... كتبت ..سلمى الهسكوري عند الحديث عن الفقيه الهسكوري يجرنا الحديث إلى تاريخ حافل بالنضال والكفاح في اجلاء العدو، والمثابرة في تغيير العقليات وزرع العلم والقيم والأخلاق، يجرنا إلى حب عميق للكتب والعلم، يجرنا إلى الكرم الحاتمي وحسن الضيافة حيث كان بيته قبلة للعلماء والمناضلين والوطنيين والفقراء وعابري السبيل، يجرنا إلى دماثة الأخلاق والتواضع والسعي الدؤوب والصبر لتحقيق النجاح. الفقيه الهسكوري الرجل الورع، التقي، الحازم الذي له هبة جعلت كل من عرفه يبدي له التقدير والاحترام، وهو من جهة ثانية الأب الحنون، العطوف، المتسامح مع تلامذته، المهتم بأدق تفاصيلهم وهمومهم، المشجع والمحفز لتفوقهم. العلامة الذي دافع وباستماتة من أجل إعداد جيل متعلم منفتح على كل العلوم، وضحى بالغالي والنفيس حتى في أكثر أزماته المالية شدة،وفي ظل التضييق الممارس عليه من قبل المستعمر من أجل تدريس أبناء هذه المدينة وإخراج جيل مثقف تستفيد منه الأجيال القادمة خلقا وعلما.
ولد الفقيه محمد ابن أحمد الهسكوري في 18 رمضان 1324ه الموافق لنونبر 1906م بآسفي، يعود أصله البعيد إلى مكناس حيث كانت تعرف عائلته بآل العيساوي لارتباطها الوثيق بالشيخ الكامل محمد بن عيسى، أما أصله القريب فيرجع إلى هسكورة حيث هاجرت أسرته إلى هذا القبيل واشتغلت بالتجارة ولها يعود نسبه. ولج الفقيه الكتاب في سن مبكر ظهرت فيه بوادر نجابته وتفوقه في حفظ القرآن حظي من خلالها بإعجاب وتقدير "فقيه الكتاب" فأصبح يقومه مكانه، ونظرا لشغفه بالعلم فقد جال جل كتاتيب المدينة، لينتقل إلى دراسة النحو والفقه والسيرة والتفسير والتوقيت وغيرها من العلوم التي أهلته للحصول على عدة إجازات شهد له فيها علماؤه بالنجابة والكفاءة والتفوق، إذ لم يمنعه كبر سنه من الزيادة في التجرع من ينابيع العلم، فقد حاز على إجازة من طرف العالم الموريطاني "محمد بن عبد الله البكر الشنكيطي" وسنه يقارب الأربعين، وإجازة عامة شاملة بشروطها المعتبرة من ذوي الشأن من قبل العلامة عبد الله الجراري، بالإضافة إلى إجازة وعمره يجاوز الخمسين من طرف الفقيه محمد التهامي الجعفري، فقد كان الهسكوري مؤمنا بقوله صلى عليه وسلم: "أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد". تقلد الفقيه في مسيرته الحياتية عدة أدوار تطوعية، وذلك غيرة على دينه ووطنه، ورغبة منه في إجلاء الركود والانحطاط والجهالة التي كانت متفشية في الزوايا آنذاك والتي كان للاستعمار دور هام في ترسيخها. فهو السلفي الذي كان من أوائل المنشئين للحركة الدينية الإصلاحية، التي كان هدفها القضاء على الخرافات والخزعبلات التي التصقت بعدد كبير من مريدي الزوايا في وقت كانت فيه هذه الأخيرة مرجعية للناس، وساهم في نشر تعاليم الدين السمحة من خلال قراءة للسيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين وبعض الكتب الحاثة على مكارم الأخلاق والتصوف، ونبذ كل ما هو دخيل على الدين من شعوذة وعادات لا تمت إليه بصلة، بإلقائه لدروس ليلية من أجل إنارة العقول وردها إلى جادة الصواب، شهدت توبة مجموعة من شيوخ هذه الزوايا والمتمثلة في الزاوية الحمدوشية،العيساوية.... قبل أن تتحول الحركة الدينية إلى حركة سياسية التي برز من خلالها دوره الوطني حتى النخاع الذي ضحى من أجل استقلال الوطن،حيث كان بيته مفتوحا للمناضلين والوطنيين تقام به معظم جلساتهم السرية والتنسيقية وتوزع المنشورات، وكان دائما من أوائل الموقعين على العرائض المقدمة ضد المستعمر، كما كان له دور في جمع الوطنيين المخلصين للتوقيع على وثيقة الاستقلال، وكذا كانت له يد في التنظيم المسلح إبان نفي محمد الخامس حيث كان يمد عائلات المعتقلين بموارد مالية سخية. وبالرغم من مسيرته الوطنية الحافلة فلم يتم أبدا اعتقاله نظرا لنباهته وخطواته المدروسة التي مكنته دائما من الإفلات من مخالب المستعمر. كان الهسكوري يقوم بدور الوعظ والإرشاد باعتباره خطيبا للجمعة والعيدين في "الجامع الكبير "ثم مسجد بياضة فيما بعد. كما كان له دور كبير في إصلاح ذات البين ومنع عدة عائلات من التشرد والضياع والطلاق فهو بمثابة البلسم المطيب لجميع الجروح،إذ كان لا يرد من يطرق بابه، بل كان يتصرف بروح خيرة طيبة نبيلة،يطغى عليها الحس الإنساني العالي جعلت الكل يكن له الود والاحترام. أما الدور الطلائعي والذي ترك له صيت في وسط الناس فهو دوره كرائد للتعليم الوطني الحر، حيث كانت له الأيدي البيض في إنشاء جيل بأكمله على العلم والفضيلة والأخلاق، في وقت كانت فرنسا تسيطر على التعليم العمومي وتعمل على زج العقول بحقائق كاذبة عن التاريخ المغربي والدين الإسلامي،و في وطأة تعسف المستعمر وتلصصه على كل كبيرة وصغيرة وإغلاقه لعدد كبير من الكتاتيب والمدارس التي كانت في طور الإنشاء، إلا أن هذا لم يقلل من عزيمة وتشبث العلامة بإنشاء مدرسة تقوم بنشر الوعي والفكر السليم،رغم ما تعرض له مرارا وتكرارا من مضايقات المستعمر وصل حدها إلى إغرائه بمنصب قاضي، إلا أن هذا لم يثن من إرادته بل زاده إصرارا لوعيه بأن النهضة تبدأ من التعليم.وبذلك ابتدأت مسيرته التعليمية بإنشائه لكتاب نصفه تقليدي والنصف الآخر عصري مجهز بطاولات وسبورة كان متداولا بين الناس باسم " الكتاب القرآني العلمي " الذي ضم مواد عصرية كالحساب والتاريخ والجغرافيا.. ليتوسع فيما بعد إلى مدرسة ابتدائية فإعدادية ثم ثانوية، حملت بعد الاستقلال اسم "الهداية الإسلامية" والتي شهدت وفود عدة أساتذة من المشرق للتدريس بها: مصريون،لبنانيون،عراقيون، فلسطينيون،سودانيون وغيرهم بالإضافة الى المغاربة والغربيين، الذين كان يغدق عليهم ماله في سبيل تدريس تلامذته وتطوير مناهج الدراسة بمؤسسته والسير بها قدما, حيث تخرج منها ثلة من المثقفين والأطر والذين من بينهم : - أساتذة جامعيون وباحثون أمثال: أحمد الجبلي ،حسن الفلكي وعبد اللطيف الشادلي...... - أطباء وصيادلة من أبرزهم: مولاي محمد اكديمات الطبيب الخاص للحسن الثاني وابنه صالح الهسكوري طبيب له صيت بمراكش ونور الدين الصديكي: صيدلي - قضاة ومحامون محنكون من بينهم: امحمد الشقوري و يوسف المغربي: قضاة، أحمد الخزامي: نقيب سابق للمحامين وبرلماني, بالإضافة إلى عدد كبير من أساتذة التعليم الثانوي والأساسي و المؤطرين التربويين والمكونين والذين من بينهم ابناؤه. ويعد الفقيه من أول الدعاة إلى تعليم المرأة فقد وجد لها مكانا في مدرسته وتخرجت على يده نساء أخذن مراكز القرار من أمثال: لطيفة الشقوري: قاضية بالمجلس الآعلى، جميلة الركوش:صيدلية، زهراء إخوان ونفيسة الذهبي: أستاذتان جامعيتان وغيرهن كثير. كان الفقيه في تعامله مع تلامذته مثال الأب الحازم تارة والحنون أخرى حيث كان يعتبر الطفل على حد قوله:"الطفل جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وهو قابل لكل نقش مائل إلى كل ما يمال به إليه" لذا كان يسعى إلى تقويم سلوكه، حيث كان شديد العناية بتلامذته: يهتم، يتابع،يترصد،يراقب،يهدد،يهش بعكازته على بعض المشاغبين والذين يراهم متمردين على ما يجب أن يتسم به تلامذته من الجنسين من أخلاقيات وآداب، يكافئ مجدهم حيث كان يرشهم بعطره المفضل "عطر الزهر" ويبعثه هدية لأوليائهم قصدا منه في توطيد علاقته معهم، وكان يستدعيهم إلى مكتبه يستفسرهم عن حال أبنائهم: اهتماماتهم، مشاكلهم،مشاغلهم،حاجاتهم وهمومهم بل كان يهتم بأدق تفاصيلهم، وهو بذلك يجعل مؤسسته منفتحة على محيطها الاجتماعي متواصلة مع فاعليه، قبل أن يصبح الانفتاح أحد أهم مطالب الخطاب التربوي. كانت مدرسته مفتوحة للجميع حتى في وجه من لا يستطيع تحصيل الثمن الرمزي الشهري، بالرغم من الضوائق المالية التي كان يتعرض لها، فقد باع كل ممتلكاته بل امتدت يده إلى مال زوجته، من أجل جعل مدرسته مثالا للتفوق والنجابة والأخلاق والتي تخرج كل سنة جيلا من المثقفين الأكفاء. مات الهسكوري في 25 أبريل 1987 ليسدل الستار على رمز للصمود والثقة بالنفس وبالمستقبل،توفي تاركا وصية لأبنائه بعدم تأبينه ولا إقامة عشاء له، وبعدم قبول تعويض عن كل ما قدمه للوطن من تضحيات لأن ما قام به هو واجب ديني ووطني بالأساس، مات لكنه ما زال ساكنا في روح كل من عرفوه، توفي وترك وراءه جملة من الرجال والنساء الأكفاء الذين خدموا مغرب ما بعد الاستقلال، وسيرة طيبة تسرد على ألسنة كل من عايشوه.