استطاعت بلادنا في الشهور الفارطة وفي عز ضغط الوضعية الوبائية وتداعياتها السلبية على القطاعات الصحية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية، وتقييد حركة الإنتاج والعمل والتنقل، أن تخفف بشكل كبير من هذه التداعيات، بفضل التعبئة الجماعية، واتخاذ إجراءات مبكرة سواء الاحترازي منها، أو العلاجي أو الإصلاحي، وذلك لمواجهة احتياجات القطاعات المتضررة، وبفضل اليقظة وتعبئة موارد مالية استثنائية في إطار التضامن الجماعي. ولأن الأزمة الصحية ما زالت مستمرة بكل خساراتها المتواصلة، وانعكاساتها السلبية على النسيجين الاقتصادي والاجتماعي، وبكل ما تمتصه من مصاريف وميزانيات وجهود للصمود والإنعاش الاقتصادي والدعم الاجتماعي، فإنه أمام هذه الوضعية الضاغطة التي يهدد استمرارها بالعجز عن التحكم في التوازنات المالية العمومية، بفقدان السيطرة على الوباء والحد من انتشاره، لا يسعنا إلا التطلع إلى مزيد من الحرص على الثقة في الجهود المبذولة ورفع إيقاع المواجهة وعدم التراخي لأي سبب من الأسباب، في دعم المكتسبات، وعلى رأسها العمل الجماعي والتضامني الذي وفر أرضية صلبة لحماية المنظومة الصحية والنسيجين الاقتصادي والاجتماعي الوطنيين، بكل مجالاتهما، من الانهيار السريع الذي كانت العديد من التنبؤات تتوقعه بالنظر إلى الهشاشة البنيوية التي تعرفها هذه القطاعات. وإذ تمكنت بلادنا من اجتياز المرحلة الأولى من هذه المحنة، بكل سياقاتها واختلالاتها ونجاحاتها وإخفاقاتها، بأقل الخسارات الممكنة، وبإرادة جماعية متوفرة لحماية الاستقرار وتقوية اللحمة الوطنية، فإن المرحلة الثانية المقبلة في سياق ارتفاع حالات الإصابة بالوباء، والتي يتوقع أن تعرف موجة جديدة منه، تتطلب منا تفعيل جميع عناصر الخطة الوطنية للإنعاش الاقتصادي والدعم الاجتماعي، إلى جانب مواصلة العمل الصحي والاستشفائي للحد من انتشار الفيروس المستجد، ومواصلة التجارب السريرية للقاح، والتي دخلت مرحلة التقييم النهائي وإثبات الفعالية، قبل الترخيص بالتصنيع والإنتاج والاستعمال. ويحتاج الاستثمار في هذا السياق، إلى ثلاثة أركان: 1 تقوية الثقة في المؤسسات الوطنية العاملة، وعدم الانجرار وراء خطابات التشكيك، التي تبدأ من التشكيك في النوايا والأعمال والمجهودات المبذولة، وتنتهي بالتشكيك في وجود الوباء نفسه وفي واقع انتشاره وتأثيره. وتستغل خطابات التشكيك والتيئيس كعادتها مثل هذه الظرفية بكل ما يطبعها من قلق وتوتر، لتصريف أجندات تخريبية، ضد أمن البلاد واستقرارها. ولعل أشد أنواع التداعيات السلبية لهذا الوباء على الوطن والمواطنين ليست فحسب تداعياته الصحية والاقتصادية والاجتماعية، بل تداعياته النفسية والروحية، التي قد تزعزع طمأنينة المواطن، واعتقاده في سلامة قصد مسؤوليه ومدبري سياسة بلاده، وثقته في مؤسساتها وطبقتها السياسية والثقافية ونخبها، وتجره ليس فحسب إلى تسفيه الجهود والمكتسبات وهدمها، بل إلى إضعاف مناعته وقدراته على الصمود والتحمل والتضحية والتعبئة والانخراط في مشروع مجتمعي وتنموي واعد، وضمن إرادة جماعية متعاقدة على المضي في طريق التغيير والتحديث. 2 توفير الموارد المالية الضرورية والاستثنائية، التي تسمح بتمويل جميع برامج وإجراءات مواجهة هذه الظرفية الوبائية، ولأن ميزانية الدولة من العجز بمكان، نتيجة الاستنزاف المتواصل لتوازناتها، واختلال ميزان أداءاتها مقارنة مع مداخيلها، وفي انتظار رؤية ثمار ونتائج مشاريع الاستثمار والإنتاج التي تم إرساؤها، والمعول عليها في زيادة الأرباح والمداخيل، فإن الأعباء المالية لتغطية الحاجيات وكلفة الصمود، خصوصا في مثل هذه الظرفيات الطارئة والضاغطة من مثل الكوارث والأوبئة والجوائح والحروب، يتحملها الجميع إلى حين ارتفاع الخطر. وفي هذا الإطار، فإن السلوك المغربي التضامني، يفرض نفسه ويدعو الضمائر الوطنية الحية إلى مزيد من التضحية من أجل الصالح العام، وسواء كان هذا الواجب عملا تطوعيا أو اقتطاعا إجباريا من أرباح المقاولات ومن ضرائب الثروات ومن أجور الأجراء، فإنه يلزم الحكومة بتدبيره بالشفافية اللازمة وبالمشاورات الضرورية مع الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين، والتخلي عن بعض الامتيازات والتعويضات، بهدف الإقناع بصدقية التوجه، وبصواب اختيار اللجوء إلى هذا التدبير الظرفي الاستثنائي، لرفع ضائقة ومواجهة خصاصٍ. 3 اعتماد آليات للتنسيق بين مختلف المتدخلين والقطاعات من أجل التوجيه الأمثل للجهود وتوحيدها وخلق تكامل بينها، بهدف تحقيق مردودية أكبر، إذ في غياب آليات للتنسيق، تضيع خطة العمل، ويتفكك مشروع العمل الجماعي إلى تدخلات جزئية، وتهدر الأموال وتبدد، ولذلك انتبه الخطاب الملكي الافتتاحي للسنة التشريعية الجديدة، إلى ضرورة تنزيل مشاريع الإنعاش الاقتصادي والحماية الاجتماعية، وفق منظور تكاملي ومقاربة شمولية تشاركية، تقطع مع المقاربات التجزيئية، وإلى ضرورة إحداث هيئة موحدة للتنسيق والإشراف على أنظمة الحماية الاجتماعية. يجب أن يُعطى لآليات التنسيق كامل الاهتمام والأدوار، لضمان التقائية المشاريع والبرامج، وإحداث انتقال سلس وناجع للتمويلات والنفقات والتحكم في التفاعلات الحاصلة بين القطاعات، واستشراف نتائج مترابطة الحلقات، يؤدي بعضها إلى بعض. إن المواطنين المغاربة، أكثر شعوب العالم عملا بمبادئ التضامن الجماعي، واستجابة لنداء الواجب، والتضحية من أجل الصالح العام، والقدرة على التفاعل مع الأزمات والعقبات، ولهذا ظلت بلادنا تتمتع في مثل هذه النوازل بوضع أفضل من كثير من الدول، مقاومة وتضحية وصمودا وتحسنا. ويكفي أن يلتقط الفاعل الحكومي هذه الإشارة، ويستمع بأذن واعية إلى نبض الشارع، ويتجاوب مع الدعوات إلى الحكامة الجيدة والشفافية في تدبير وإدارة الأزمات، ويكف عن تبذير الأموال العمومية والنفقات في ما يستفز المواطنين وينتكس بحماسهم للتغيير، ويعطي من نفسه المثال في الإنفاق السليم وتدبير اقتصاد الندرة والأزمة، وصورة الصدق في القول والحال والإخلاص في العمل والمعاملة. فواجب التضامن الوطني مسؤولية الجميع، بما فيها مسؤولية الحكومة أيضا.