قد يكون "الفن" شعرا، أو نحتا، أو معمارا، أو تصويرا، أو غير ذلك، ولكن كل ما تنتجه قريحة "الفنان" لابد من أن يجيء شاهدا على ما فكر فيه، أو آمن به، أو خاف منه. والحق أن كل شيء ماثل في فنون الإنسان: محن الحرب وويلاتها، أعمال السلم ومنجزاته، مخاوف البشر وأحلامهم، آمال الإنسان وآلامه، حبه وكرهه، آلهته وشياطينه... إلخ.. وكم من أناس كان يمكن أن يمضو مجهولين أو مغمورين، لو لم يكتب الواحد منهم سيرته الذاتية، لكي يقول لنا بلغة العمل الفني: "هذا هو الإنسان الذي كنته" ! ولم تكن "السيرة الذاتية" Auto-Biographie، يوما، مجرد "مرآة" تعكس الحقيقة أو مجرد "محاكاة" تقتصر على ترديد الواقع، بل كانت دائما أبدا – مثلها في ذلك كمثل أي عمل فني آخر – "شعرا، وحقيقة" – على حد تعبير الشاعر الألماني الكبير جوته Goethe. يوهان فولفجانج فون جوته (Johann Wolfgang von Goethe (1749- 1832 وهنا قد يحق لنا أن نتساءل : هل يكون "الإنسان" الذي يرسم، أو ينظم، أو ينحت، أو يبدع أي شكل من الأشكال، هو بعينه ذلك "الإنسان" الذي يأكل ويشرب، ويحب ويتزوج، ويداعب أطفاله الصغار، ويتردد على بعض المجتمعات، ويتعامل مع أقرانه من البشر.. إلخ ؟ أو بعبارة أخرى : هل يكون الفنان "إنسانا" بالجوهر و "فنانا" بالعرض، أم هو "فنان" بالجوهر، و "إنسان" بالعرض؟ وإذا صح هذا أو ذاك، فما الفارق بين "الإنسان" و "الفنان" ؟ وإلى أي حد يمكننا القول بأن معرفة "الإنسان" ضرورية لمعرفة "الفنان"، أو العكس؟ وبأي معنى قد يصح لنا أن نقول أن "الإنسان – الفنان " يضع ذاته في "العمل الفني" الذي يحققه ؟ وهل ينجح "الفنان" دائما في تجسيد تلك "القيم" التي ينشدها "الإنسان"، أو يعمل على بلوغها؟... كل تلك أسئلة لابد لنا من الاهتمام بحلها، إذا كان لنا أن نحدد نوع العلاقة القائمة بين "الإنسان" و "الفنان. والرأي الذي يتبادر إلى أذهاننا- لأول وهلة – هو ذلك الذي ذهب إليه الناقد الفرنسي المعروف سانت بوف Sainte-Beuve، حين قال : "إن عمل أي مبدع لا يفسر إلا بحياته" ومثل هذا الرأي يستلزم بالضرورة أن نعلق أهمية كبرى على المنهج التاريخي والسيكولوجي، فلا نتحدث عن إنتاج أي فنان قبل الرجوع إلى حياته، والكشف عن تطوره الروحي. صحيح أنه قد يكون في وسعنا أن نتذوق هذا "العمل الفني" أو ذاك، دون أن نكون على معرفة بصاحبه، ولكن من المؤكد أننا لن نستطيع الحكم على مثل هذا "العمل" دون أن تكون لدينا أذنى معرفة بذلك "الإنسان" الذي حققه. وإذا صح ما يقال عادة من أنه "على نحو ما تكون الشجرة، تكون الثمرة، أيضا"، فليس بدعا أن تكون "الدراسة الخلقية" ضرورية لكل "دراسة فنية" بصفة عامة، ولكل "دراسة أدبية" بصفة خاصة. ولعل هذا هو السر في صيحة سانت بوف المشهورة : "عود إلى الإنسان" ! ولا غرو، فإن الأصل في إلهام الفنان، إنما هو واقعه الحي أو خبرته التي عاشها. وإلا، فكيف لنا أن نفهم "الفنان"، إن لم نكن على علم بما أثر فيه من أحداث، وما اختلف عليه من تجارب، وما مر به من أزمات، وما وقع فيه من أخطاء وعثرات، وما أصابه من نجاح أو فشل.. إلخ؟. أليست خبرة الفنان المعاشة هي التي تحدد "شكل" فنه و "مضمونه" معا ؟ وإذن أفلا يحق لنا أن نقول : "إن الناقد الحقيقي للفنان هو كاتب سيرته"؟. (1804-1869) ولو أننا أنعمنا النظر – الآن – إلى هذا المنهج، لوجدنا أنه قد لا يخلو من فائدة : فإن الإلمام بدقائق حياة الفنان يزود الناقد ببعض الوسائط اللازمة لفهم إنتاج هذا الفنان، إن لم نقل بأنه قد يضع بين يدي الناقد "المفتاح" الضروري للنفاذ إلى "أسرار" قصائد ذلك الفنان أو لوحاته أو رواياته أو موسيقاه... إلخ، وليس من شك في أننا لو عرفنا طفولة روسو وشبابه، لكنا أقدر على فهم أعماله الأدبية، كما أننا لو اطلعنا على حياة طه حسين، لكنا أعرف بطبيعة إنتاجه الأدبي. وقد يكون من الحديث المعاد أن نقول أن قصيدة "البحيرة" لا تكاد تنفصل عن غرام لامارتين بالفيرا Elvire، كما أن "الليالي" Nuits لا تكاد تفهم في استقلال عن العلاقة المضطربة التي قامت بين ألفريد دي موسيه وجورج ساند George Sand هو الاسم المستعار ل Amantine Aurore Lucile Dupinوالأمثلة كثيرة على ارتباط حياة الفنان بإنتاجه الفني، فلا حاجة بنا إلى الإفاضة في شرح مثل هذه العلاقة. طه حسين (1889- 1973) (1712-1778) (1790-1869) بيد أننا نلاحظ – مع ذلك – أن هذه الدراسة التاريخية لسير الفنانين قد استحالت على يد الكثيرين إلى مجرد "أعمال مبتذلة" يراد من ورائها إشباع فضول الناس، وإرضاء حبهم للاستطلاع، فلم تعد كتابة "السير" سوى وسيلة للكشف عن أسرار الفنان الخاصة، وإبراز معايبه ونقائصه، والعمل على إظهار رذائله ومساوئه ! وقد جاءت دواعي "التحليل النفسي" فسوغت لبعض الكتاب حق التحدث عن عقد الفنانين وأمراضهم النفسية، وانحرافاتهم الجنسية، وشتى مظاهر شذوذهم العقلي .. ! وهكذا أصبح الفنان مجرد ضحية أخرى لفضول الناس، مثله في ذلك كمثل نجوم الشاشة ! ولكن من الواضح أن إساءة استخدام "المنهج التاريخي " لا تعني بالضرورة أن يكون المبدأ الأصلي الذي قام عليه هذا المنهج مبدأ فاسدا أو غير مشروع. وكل ما هنالك أنه لابد لكل باحث يتصدى لاستخدام هذا المنهج، من أن يعمل على إبراز علاقة الإنسان بالفنان، والكشف عن صلة حياته بعمله. وهنا قد يقال أن مثل هذه العلاقة لم تتوافر يوما لدى الكثير من الفنانين : فقد كانت حياتهم الخاصة بعيدة كل البعد عن أن تكون هي الأصل في إنتاجهم الفني، ولعل من هذا القبيل – مثلا – ما نلاحظه لدى بعض كبار رجالات الكوميديا، فقد كان قوم منهم رجالا عاديين لا يتمتعون بروح فكاهية عالية، أو لا يملكون حياة ضاحكة كثيرة الانشراح! وحسبنا أن نرجح إلى سير بعض الفنانين من أمثال واتو Wateau وشوبير Schubert لكي نتحقق من أنه لم يكن ثمة تشابه حقيقي بين حياة الواحد منهم، ونوع إنتاجه ا والله الموفق 08/10/2013 محمد الشودري