العبادة في الإسلام كثيرة ومتنوعة كالبروالإحسان ومحبة الوالدين والصلاة والصيام والحج والزكاة..وصلة الأرحام، والصدق في الحديث والأمانة والوفاء بالعهود، ومساعدة المحتاج والملهوف، والذكروالدعاء وقراءة القرآن والتوكل على الله والتوبة والاستغفار،وكفالة الأيتام والصدقة على الفقراء والأرامل وإبن السبيل..كذلك الصبروالشكروالرضا والخوف والرجاء والحياء..والعبادة هي الغاية التي خلقنا الله لأجلها، يقول سبحانه وتعالى: (وماخلقت الجن والإنس إلاليعبودن) (1) ؛ حيث عبرت هذه الآية الكريمة عن الغاية الكبرى التي انتدب الله سبحانه الإنسان لأجلها، بعد أن عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها وأشفقن منها:(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)(2). ومن أجلها كذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ..وعموما فالعبادة في الإسلام تعد جزءا أساسيا ومحوريا من نظام الإسلام وتعاليمه وهديه، فضلا عن أنها الوسيلة الناجحة التي تنقل الإنسان من حال العلم والاقتناع العقلي بوجود الله تعالى، إلى مقام الإحساس والشعوربهيمنته وقوته وعظمته وقدرته المطلقة التي لايحدها زمان ولامكان ..القادروالآمروالناهي والمسيطر، والأول والآخر،والظاهروالباطن، بيده كل شيء وإليه المصير. وقد شرعت لحكم كثيرة وجليلة منها تحقيق مصالح الناس في عالم الغيب والشهادة، وأنها تزكي النفس وتطهرها وتسموبها إلى أعلى درجات الكمال الإنساني؛ مما تجعله يعيش في استقرارنفسي وأمان وسعادة حقيقية، لايتذوقها إلا من عاش لله ولله، وفي سبيل الله، يقول تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)(3). وقوله تعالى:(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكرالله، ألابذكرالله تطمئن القلوب) (4). وقوله: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى..)(5). فطبيعة النفوس البشرية لاتطمئن في الدنيا إلا بذكرالله وعبادته ، ولاتأنس بأي شيء من متاع الدنيا وحطامها إلابأنس القرب من الله والسيرفي طريقه ؛ ولهذا فأهل العبادة، وأهل القرآن، وأهل الذكر، هم أهل الله وخاصته، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هُمْ ؟ قَالَ: همْ أَهْلُ الْقُرْآنِ ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ )(6). قال المناوي رحمه الله: "أي حفظة القرآن العاملون به هم أولياء الله المختصون به اختصاص أهل الإنسان به ، سموا بذلك تعظيما لهم كما يقال : "بيت الله ". قال الحكيم الترمذي : وإنما يكون هذا في قارئ انتفى عنه جور قلبه وذهبت جناية نفسه ، وليس من أهله إلا من تطهر من الذنوب ظاهرا وباطنا ، وتزين بالطاعة ، فعندها يكون من أهل الله "(7) . فالإنسان بطبعه وتكوينه مخلوق فقيروضعيف، مفتقرومحتاج إلى عبادة الله والاحتماء به، أكثرمما هومحتاج للطعام والشراب ، علما أن للروح غذاء وللجسد غذاء ، فغذاء الروح تقوى الله وعبادته واتباع سنة رسوله ، وغذاء الجسد هو مايحتاجه من الشراب والطعام، كالأسماك واللحم والشحم والبيض والتين والزيتون والعنب ونحوذلك..!. ومن فوائد العبادة أنها تحررالعبد من رق المخلوقين والخوف منهم، والتعلق بهم، وطلب الشفاعة والعون منهم..كما تسهل على الإنسان فعل الخيرات والطاعات وترك المنكرات، وتهون عليه مصائب ومكدرات الحياة وهموم الدنيا، فيتلقاها بقلب منشرح مؤمن بقضاء الله وقدره؛ لأنه يعلم علم اليقين أن ما أصابه من هم وحزن وغم وفقروجوع يؤجرإن صبر. قال تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون)(8) وعن أبي سعيد وابي هريرة- رضي الله عنهما- عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه)(9). يستنتج مما سبق أن العبادة في الإسلام هي تجديد العهد مع الله في كل لحظة من لحظات عمرالإنسان، من لحظة خروجه من بطن أمهه برفع الآذان في أذنه، إلى لحظة سكرات الموت بتلقينه شهادة الإسلام، حتى لايكون للغفلة سبيل، ولأ صحاب النيات الحسنة الخالصة لله شبهة، يمكن أن تتسرب منها غواية الشيطان ووساوسه ليحرم منها هذا المؤمن المسلم العابد من معية الله، من هنا نفهم معنى الاستثناء الإلهي من قول إبليس اللعين: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ، قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ)(10)
وخلاصة القول فالعبادة بمفهومها العام والشامل هي استخلاف الله في الأرض وإعمارها واستخراج مابها من خيرات ونعم، ومن ثم تسخيرها لخدمة الإنسان وسعادته.. يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (هوأنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)(11). فعمارة الأرض كما يسميها إبن خلدون في مقدمته- هي إقامة الحضارة، وهي من مهمات الإنسان الأساسية الكبرى... فهذا الكلام يجرنا إلى التحدث عن مفهوم الحضارة عند الغربيين، فقد عرف بعض الباحثين في الغرب الحضارة بأنها: (هي مدى ماوصلت إليه أمة من الأمم في نواحي نشاطها الفكري والعقلي من عمران وعلوم وفنون وما إلى ذلك..)، وهذا يعني أن الحضارة حسب هذا التعريف تختص بالجانب المادي فقط، مما جعل "كارل مارس"الشيوعي يقررفي كتابه "رأس المال" أن المال هو"إله" الكون المعبود الذي يحرك العالم، أما هذه القيم الإنسانية من أخلاق حميدة وحياء وحب ورحمة، ماهي إلامن ابتكارات الرأسمالية والإمبريالية للمزيد من تعمية الشعوب ونهب خيراتها حسب نظرية ماركس..!! ومن صورالفساد اليوم التي نراها منتشرة في العالم الغربي من شذوذ وانتشارالجريمة وظهورعباد الشيطان والطبيعة والأرواح..!! ماهي إلا علامات بقرب موت هذه الحضارة وانتكاستها..!! لأنها حضارة مزيفة عرجاء لم تراعي حاجيات الإنسان الروحية والمعنوية ، مما جعل هذا الإنسان الغربي يفقد خصوصيته الإنسانية ويتصرف كالدابة والحيوان؛ بل أضل مصداقا لقوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا، وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا، أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ؛ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(12). وقد عرف بعض المفكرين العرب الحضارة أوائل القرن 19 ؛ حيث ترجم في عهد محمد علي باشا كتاب"اتحاف الملوك الألباب بسلوك التمدن في أوروبا"، كما استخدم رفاعة الطهطاوي في كتابه "منهاج الألباب المصرية" مفهوم التمدن في التعبيرعن مضمون المفهوم الأوروبي ومشيرا لوجود بعد التمدن في الدين الإسلامي، وذهب بعض الباحثين المسلمين أن الحضارة في بعدها الإسلامي ينتج عنها نموذج اسلامي يحوي في طياته قيم التوحيد والربوبية، وينطلق منها بعد غيبي يتعلق بوحدانية خالق هذه الأكوانن ومن ثم فإن دورالإنسان ورسالته هو تحقيق الخلافة عن الخالق في تعميرأرضه وتحسينها، وبناء علاقة سلام ومحبة مع جميع مخلوقاته، هدفها واساسها الدعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة. أما "المدنية" وهي خليلة الحضارة أشتقت واقترنت بتأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم بدأت في البروزقيم إسلامية وإنسانية جديدة، تنظم جميع العلاقات بين الإنسان وربه، وبين الحاكم والمحكوم، والإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان ومحيطه الذي يعيش فيه، وبين الكون ومافيه من أشجاروأحجاروحيوان، وتجلت هذه التعليمات والقوانين المنظمة للمجتم الإسلامي الجديد في خطبة حجة الوداع، الذي أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلالهها قواعد وأركان المدنية والحضارة الإنسانية الحقيقية التي تراعي خلقة الإنسان في شقيها المادي والروحي.. وجملها بقيم حضارية وإنسانية رفيعة؛ كقيم الحب والرحمة، والمساواة والعدل، والوفاء والأمانة، والصدق وبرالوادين، واحترام العلماء والكبار وأولي الأمر، وأصحاب العاهات، والإخلاص والتضامن، والإيخاء والإيثار،ومساعدة الملهوف والفقراء والمساكين واليتامى والمحتاجين، وحسن الظن بالآخرين..فهذه كلها قيم حضارية إيجابية تساهم في تطورالأمم وتقدمها، كما نهتنا تعاليم رسالة الإسلام الحضارية عن الكفروالفسوق والعصيان، واتباع الهوى والكبروالحقد، والنميمة والكذب والخيانة، والغش والنفاق والبخل والتقتير، والفظاظة وقلة الحياء والجزع، والغضب والطيش والظلم، وقسوة القلب والسب واللعن والسخرية بالناس، وشهادة الزور،وأكل أموال الناس بالباطل والأمربالمعروف والنهي عن المنكر،والتشاحن والتدابر والزنا واللواط والفسق والمجون..فهذه القيم بعكس الأولى؛ هي قيم سلبية وأمراض و"فيروسات" تمخركيان الأمم والشعوب والدول وتأدي بها إلى التفكك والاندثار، إذا ما انتشرت في كياناتها وعششت في أحضان جدرانها..!! وعليه فعندما كانت دولة الإسلام تطبق تعاليم كتاب الله المسطور(القرآن) وكتاب الله المنظور(الكون) وكتاب الله الحركي (محمد صلى الله عليه وسلم) الذي جسد تعاليم القرآن الكريم على أرضية الواقع، فكان عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي على رجليه، وهذا مابينته عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلق النبي قالت رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن)(13) ، نقول: كان المسلمون قادة العالم وصناع التاريخ والحضارة والثقافة.. فخلال 200سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت صناعة الكتب منتشرة في أنحاء العالم الإسلامي وفي متناول جميع طبقات الشعوب المسلمة، مما جعل صناعة الكتب صناعة مربحة ومزدهرة، وتدرعلى أصحابها أموالاطائلة..وهكذا بدأت مسيرة الحضارة الإسلامية بالقراءة والكتابة والعلم والعبادة والمعرفة والثقافة ، ممادفع المأمون الخليفة العباسي العالم المستنير(ت833) بإنشاء بيت الحكمة لتكون أكاديمية البحث العلمي ببغداد، تحت رعايته الشخصية، وأقام به مرصدا ومكتبة ضخمة..مع هذه النهضة العلمية ظهرت الجامعات الإسلامية لأول مرة في العالم الإسلامي قبل أوروبا بقرنين، فكانت أول جامعة قامت بإنشائها فاطمة الفهرية بالمغرب وهي جامعة القرويين بفاس سنة 859م، ثم جامعة الأزهرالشريف سنة 970م . كما اعتنت الدولة الإسلامية بالمرافق الخدماتية والعامة بشكل ملحوظ، فكانت تقيم المساجد والمستشفيات والأسبلة والتكايا لليتامى والأرامل والفقراء وابناء السبيل بالشوارع، وكانت هذه المستشفيات تقدم خدماتها بالمجان للمرضى، وكان أول مستشفى في الإسلام بناه الوليد بن عبد الملك سنة (706م) في دمشق ، في حين أن أوروبا كانت تنظرإلى مرض الجذام على أنه غضب من الله يستحق الإنسان عليه العقاب، حتى صدرالملك "فيليب" أمره سنة 1313م بحرق جميع المجذومين في النار... !! في الحقيقة نسوق هذا الكلام لنثبت على أن العبادة والحضارة الحقيقية لاتعارض ولاتخاصم ولاتنافر بينهما؛ بل يعيشان في تناسق وانسجام تام؛ فالعبادة مصدرها كتاب الله المسطور(القرآن) والحضارة مصدرها كتاب الله المنظور(الكون)؛ علما أن الحضارة في مفهوما الحقيقي-لاالمزيف- ترتبط ارتباطا عضويا بالعبادات والأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة.. لذا دلت التجارب الإنسانية والأحداث التاريخية على أن ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب وتقدمها المدني والحضاري ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة والسلوك الاجتماعي السليم.. وأن انهيار القوى المعنوية للأمم والشعوب وتخلفها الحضاري ملازم لانهيار أخلاقها وفساد سلوكها، ومتناسب معها.. فبين القوى المعنوية وفضائل الأخلاق ومحاسن السلوك تناسب طردي دائما..!! لذا تنبهت قوى الشر والفساد والبلاء في الدول الغربية لهذه المعادلة الخطيرة بإحداث نظرية جديدة تزيح الأخلاق الفاضلة من حياة الناس، لتحويلهم إلى قطيع من الأكباش، وبالتالي يسهل التحكم فيهم عن بعد وتوجيههم حيث تشاء هذه القوى الفاسدة العالمية، للحفاظ على مصالحها التجارية والمادية الضيقة، حتى قال أحد زعماء هذه المدرسة الماجنة "سيجموند فرويد": "إن أمنيتنا وهدفنا هو تنظيم جماعة من الناس يكونون أحراراً جنسياً، كما نريد أناساً لا يخجلون من أعضائهم التناسلية"، وهذا التحررمن قيم الحياء والعفة والطهارة نعتبره نحن كمسلمين تؤخرا وجاهلية ورجعية لاتمت للحضارة الحقيقية بصلة، يقول الشاعر: إنما الأمم الأخلاق مابقيت**فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا الهوامش سورة الذاريات :56 72: سورة الأحزاب (الأنعام:162) (الرعد:28) (طه:124) رواه ابن ماجة (215) وأحمد (11870) فيض القدير" 3 / 87 البقرة الاية 155 متفق عليه (130) سورة الحجرالآية:15 سورة هود:61 سورة الأعراف صحيح مسلم الشيخ الصادق العثماني الكاتب العام للمجلس الأعلى للأئمة والشؤون الإسلامية في البرازيل