3. مسجد المنية المرينية ويسمى مسجد الرندة، وهو مسجد كان تابعا للمنية المرينية التي يسميها الناس اليوم قصر ابن سوسان، وموضعه خلف برج السويحلة من جهة الجنوب، وقد أطلعني الأستاذ أحمد بنياية على حده الذي أدركه، وذكر أنه سمي بالرندة نسبة لأشجار الرند التي بهذا الموضع، والتسمية فيما يظهر حديثة، ولم يبق منه سوى رسم حائط، وقد كان هذا المسجد تابعا للقصر ومن مرافقه، وورد ذكره عند السراج في خلاصة تاريخ سبتة. «وقد كشفت التنقيبات الأثرية عن أطلال مجموعة سكنية توجد بمحاذاة السويحلة، وهي عبارة عن غرف من بينها قاعة يفترض أنها كانت مصلى خاصا بأهل القصر». 4. المسجد الجامع وهو أكبر مساجد بليونش، ومعنى المسجد الجامع عند الفقهاء المسجد الذي تجمع فيه صلاة الجمعة وتنعقد به. واتخاذ المسجد الجامع ببليونش يدل على كبر القرية وكثرة سكانها وامتداد عمرانها واحتياج أهلها لإقامة الجمعة، لأن الأصل في اتخاذ المسجد الجامع أن يكون في المدن والأمصار لاجتماع الناس في صلاة الجمعة والعيد، أما القرى القريبة من الأمصار فلا يتخذ فيها مسجد جامع إلا إذا كان بينها وبين المدينة مسافة أكثر من فرسخ. قال الباجي: «الصحيح قول ابن بشير: يتخذ بالقرية إذا كان بينها وبين المسجد الجامع أكثر فرسخ، لأن كل موضع لا يلزم أهله الترول إلى الجمعة لبعدهم وكملت فيهم شروط الجمعة؛ لزمتهم إقامتها». والمسجد الجامع بسبتة كان مصلى أهل بليونش في الأول، وقد بني زمن بني عصام وكانت بلاطاته خمسة كما قال البكري. وعدلت قبلته من قبل محمد الحارث الخشني عندما بسبتة عام 320ه/932م، وصنع منبره في عهد بني حمود الأدارسة سنة 408ه/1014م، وزيد فيه وجدد بناؤه على فترات متلاحقة، وعندما أقام يوسف بن تاشفين بسبتة، ليشرف على جواز عساكره اللمتونية إلى الأندلس لمنازلة ملوك الطوائف وحصارهم في بلادهم، أمر ببناء المسجد الجامع بسبتة والزيادة فيه فزاد فيه حتى أشرف على البحر وبنى البلاط الأعظم منه، وذلك سنة 1091/0484م). ثم زيد فيه بعد ذلك بيسير عندما ضاق بأهله فاحتاجوا إلى التوسعة فاستفتى الناس الفقهاء والقضاة، وممن رفعت إليهم الفتوى ابن رشد الجد، وقد سأله الفقيه القاضي أبو عبد الله ابن عيسى (ت505ه) أيام قضائه بسبتة في الزيادة في جامعها(8). كما زيد فيه على عهد المرينيين(9). ولا زال يزاد فيه. حتى وصل عدد بلاطاته في عهد الأنصاري إلى اثنين وعشرين بلاطا. والغالب أن المسجد الجامع في بليونش بني زمن المرابطين، عندما ضاق المسجد الجامع بسبتة عن أهله فاحتاجوا إلى التوسعة فيه، ويرجح هذا ما ذكره القاضي عياض السبتي، أن من شرط إقامة الجمعة المصر، أو قرية من قراه على فرسخ وأقل منه، أو قرية يمكن استيطانها جامعة لأربعين بيتا أو ثلاثين فأكثر تشبه المصر في صورتها. والفرسخ مسافة ما بين بليونش وسبتة. وقد زار بليونش محمد بن يوسف الوراق قبل قرنين من وفاة القاضي عياض، ووصفها بأنها قرية كبيرة آهلة، فيشبه أن يكون اتخاذهم للمسجد الجامع كان في تلك الفترة ثم جدد المسجد على فترات بعد ذلك. والله أعلم. وذكر القاضي السراج في تاريخ سبتة: أن أسفل المسجد القديم أثر مسجد كبير ومحرابه الشاهد على ذلك لا زال قائما إلى اليوم. وقد وصف الأنصاري هذا المسجد فقال: «ومن جملتها المسجد الذي تجمع فيه صلاة الجمعة. بلاطات هذا الجامع ثلاثة، وله صحنان اثنان، ومنبره حسن الصنعة، ومراقيه ستة، وتاريخ بنائه منقوش في لوح من الرخام الأبيض بإزاء بابه الشرقي، وجرية نهر عنصر اللوز وهو من الأنهار المعدودة في أنهار القرية إلى جانب الجامع مما يلي قبلته». ومن خلال الوصف الذي قدمه لنا الأنصاري يتضح أن ما بقي من الأطلال الشاخصة قرب الزاوية الحراقية هي أطلال المسجد الجامع ببليونش. لأن أمامه في جهة القبلة جرية نهر عنصر اللوز الذي ذكر الأنصاري أنه كان يمر في قبلة المسجد الجامع، وإزاء بابه الشرقي موضع الرخامة التي قال الأنصاري بأن تاريخ بنائه منقوش فيها، وفيه الصحن الشرقي الذي يشتمل على الميضأة ومرافقها. فتعين بهذا كله أن يكون هو المسجد الجامع الذي يصفه الأنصاري. وقد كان المسجد الجامع ببليونش صغيرا مقارنة مع جامع سبتة، فجامع بليونش فيه ثلاث بلاطات، وجامع سبتة فيه اثنان وعشرون بلاطا، وله صحنان شرقي وغربي كما هو الشأن في جامع سبتة، ومنبره حسن الصنعة ومراقيه ستة، ومنبر جامع سبتة درجاته اثنتا عشرة درجة وصنع في شعبان سنة 1017/0408م. ويظهر من خلال المقارنة أن العناصر المعمارية والهندسية التي توفر عليها المسجد الجامع ببليونش كانت مشابهة إلى حد كبير لجامع سبتة. وأهم العناصر المعمارية التي توفر عليها الجامع هي: . البلاط: وكان فيه ثلاثة بلاطات، وكل بلاط يتسع لصفوف من المصلين. . الباب: كان للمسجد بابان باب شرقي وآخر غربي وكل باب يفضي من المسجد إلى الصحن. . الصحن: توفر المسجد الجامع ببليونش على صحنين: الصحن الأول: في اتجاه القبلة وهو الصحن الشرقي، وكان له باب من المسجد يفضي إليه، وهذا الباب لا زال قائما إلى الجانب الأيمن من المحراب. وكان هذا الصحن مشتملا على أحواض صغيرة معدة للوضوء، وأرضية الصحن لا زالت قائمة، مزينة بالرخام الأحمر، وكان الماء يجلب إلى هذا الصحن من نهر عنصر اللوز. ويمكن مع قليل من العناية وتشذيب ما نبت فيها من الحشائش وترميمه أن يتدارك من الصحن الشرقي بقية صالحة. وفي هذا الصحن مطهرة فيها نقير من الرخام، والنقير رخامة منقورة الوسط تكون بالميضأة يصب فيها ميزاب من النحاس أو غيره. الصحن الثاني: في اتجاه البحر، وهو الصحن الغربي. وقد اندثر و لم يبق له أثر. وكانت له باب يدخل منها إلى المسجد، كالباب الموجودة الآن في الصحن الشرقي. وذكر الأنصاري أن تاريخ بنائه كان منقوشا على لوح من الرخام الأبيض بإزاء بابه الشرقي، وليت الأنصاري أسعفنا بذكر هذا التاريخ أو لمح إليه، ولكن لا عتاب عليه. إلا أن المرجح أنه بني قديما وتم تجديده في العصر المريني زمن السلطان أبي الحسن، فقد ذكر ابن مرزوق أنه بنى بسبتة مساجد كثيرة. ويؤيد هذا صغر حجم المسجد وضيق مساحته العامة وهو ما تميزت المساجد المرينية. وما بقي من آثار القبة التي كانت تعلو المحراب وهي من آثار الهندسة المرينية. وكون الرخام الذي يوجد في الصحن الشرقي من يوجد مثله في الزخرفة والوضع والترتيب الرخام الكائن في أرضية المنية المرينية قرب برج السويحلة، وقد أثبتت الأبحاث الأركيولوجية أن القصر الذي بجنب برج السويحلة قصر مريني بني في عهد السلطان أبي الحسن، رحمه الله. والملاحظ أن مساجد المرينيين لا تتسم بالضخامة والكبر كمساجد الموحدين، وهي في الغالب صغيرة أو متوسطة الحجم، كما أنهم لم يقلدوا الموحدين في الاعتناء بالمحراب والقبلة، بل كان تركيزهم الأكبر على بلاط المحراب فهو عندهم يتميز باتساعه وكثرة زخارفه وبالقبة التي تعلوه بجوار المحراب، والملفت للنظر أيضا أن جدران المساجد المرينية قد شيدت بالطوبياء وخصص الآجر للأبواب والأقواس والأعمدة والصوامع التي تتميز بالرشاقة والجمال الذي يظهر للعين المجردة، حيث تزين ضلوعها الفسيفساء وشبكة من الأقواس المتعانقة في ما بينها والمصنوعة من الآجر ويتوجها طوق من الزليج الرفيع الصنع المتعدد الألوان. وموضع اللوح الرخامي الذي كان مكتوبا فيه تاريخ بناء المسجد لا زال ظاهرا في الجهة الشرقية للمسجد، وقد كان هذا اللوح كبيرا، كتب فيه ما جرت العادة بكتابته من تسمية الباني والدعاء له وذكر التاريخ. وقد بقي في موضعه مدة مديدة إلى أن أخذ من مكانه. ومما يلاحظ على هذا المسجد؛ أن اتجاه قبلته جاء منحرفا عن اتجاه قبلة الجامع العتيق الآن، والسبب في هذا، والله أعلم، أن المسجد الجامع ببليونش بني على سمت جامع سبتة، وجامع سبتة القديم كان في قبلته تغريب أي ميل نحو الغرب، وقد زاره أبو علي المتيحي في القرن الخامس فرآه كذلك، «قال أبو علي المتيجي: وكذلك رأيت جامع سبتة فيه بعض التغريب، فكان الإمام ينحرف فيه، ويقول..انحرفوا يسيرا إلى المشرق فإن الإمام ينحرف وينحرف أهل الصفوف، قال الشيخ: شاهدت ذلك منهم مرارا» وقد حقق قبلة جامع سبتة الإمام الفقيه محمد بن الحارث الخشني، وذلك عند مروره بها في طريقه إلى الأندلس، قال القاضي عياض: «وقد دخل بلدنا سبتة قبل 320ه/932م، فحبسه أهلها عندهم وتفقه عليه قوم منهم، وذكر أبو الفرج الجياني في تاريخه أنه حقق قبلة جامعهم إذ ذاك، فوجد فيها تغريبا فامتثلوا رأيه وشرقوها». وأبو علي المتيجي زار جامع سبتة بعد تعديل قبلته من قبل الإمام محمد بن الحارث الخشني، ووجدهم يأخذون بتعديل الخشني وتصويبه، ولكن بقي محرابه مبنيا على الوضع الأول، وكان الإمام يأمرهم بالانحراف، وقد ذكر أبو علي المصمودي في كتاب القبلة له: أن عمل الفقهاء في المغرب في المسجد إذا كانت قبلته منحرفة انحرافا يسيرا؛ أن يترك المسجد على ما هو عليه وينحرف الإمام والناس فيه إلى القبلة». وعند بناء المسجد الجامع ببليونش وجهوا قبلته على سمت قبلة جامع سبتة، فلذلك كان في قبلته تغريب كما هو الشأن في قبلة جامع سبتة القديم. وقد ذكر ابن العربي في ترتيب المسالك: «أن المتولي لبناء المساجد عامتهم جهال بأمر القبلة، ولا يتحرونها على الوجه الذي يعتبر عند أهل العلم بها، فلذلك يقع فيها مثل هذا». وقد ذكر الأنصاري أنه استوعب وصف جامع سبتة وتاريخه وأخباره في تأليف خاص به سماه: بغية السامع، والكتاب مفقود، ولعله أجرى فيه ذكر جامع بليونش أيضا وفصل فيه وذكر طرفا من أخباره والله أعلم. ثم إن هذا المسجد الجامع بقي على حاله تقام فيه الصلوات والجمعة إلى أن تهدم وهجره الناس، وانتقلوا منه إلى المسجد العتيق الذي بني في مطلع القرن الماضي، وقد زيد فيه مؤخرا، والبلاط الثاني مما يلي القبلة هو البلاط القديم، وباقي البلاطات مما زيد فيه عند التوسعة. ولا يعلم بالتحديد متى تهدم المسجد الجامع، وهو الآن مهمل إهمالا شديدا يتداعى يوما بعد يوم. وكانت تعقد في المسجد الجامع ببليونش مجالس العلم والتعليم، ومجالس الرواية والحديث، وقد كان كثير من أهل العلم والرواية يقصدها ويترل بها، منهم المحدث الراوية يحيى بن رزق والقاضي عياض وأبي الحسين بن الصائغ وقاسم ابن الشاط وابن رشيد وأبو البركات البلفيقي وابن الخطيب وغيرهم. وقد أسمع الإمام المحدث قاسم بن محمد الأنصاري المعروف بابن الشاط كتاب الشمائل لأبي عيسى الترمذي في بليونش. وممن أخذه عنه ببليونش الفقيه المكتب أبو عبد الله محمد بن سعد الفليري سنة (715ه/1315م). الكتاب: سبتة وبليونش "دراسة في التاريخ والحضارة" للمؤلف: د. عدنان أجانة منشورات تطاون أسمير/ الجمعية المغربية للدراسات الأندلسية (بريس تطوان) يتبع...