بخصوص كتاب"العائش في النغم الموسيقار مصطفى عائشة الرحماني" لسعاد أنقار د.خالد أقلعي لا شك أن ندرة التأليف في ما يمكن أن نطلق عليه "صورة الشخصية"، يجعل هذا الكتاب يحظى بأهميّة كبيرة؛ فهو يثري المكتبة الوطنية والمحليّة بإضافة جديدة1 في هذه النوعية السردية من أنماط الإنتاج الأدبيّ، التي تشمل عرض جوانب مهمّة من إبداعية أديب أو فنّان موازاة مع نتف من حياته، وعرض دياكرونيّ لمجمل إنتاجاته، الأمر الذي يجعل هذه الشخصية المبدعة، التي تكون، في الغالب، لم تحظ باهتمام إعلاميّ ومؤسّساتيّ يذكر، تدخل رحاب التاريخ الثقافيّ من بابه الواسع، بعد أن سدّت في وجهها كلّ الأبواب. إن كتاب"العائش في النغم" للدكتورة سعاد أنقار يعرض لجوانب من حياة الموسيقار العالمي التطوانيّ مصطفى عائشة الرحماني، ولحجم المكان الذي احتلّه النغم في حياته القصيرة مقارنة بما قدّم في الحقلين الأدبيّ و الموسيقيّ من عطاء (1944-2008). والحقّ أن جاذبية هذا المؤلّف الأدبي ونوعيته المغرية بالقراءة، تبدأ من العنوان المصمّم بمهارة لا تعزّ على من يمتلك ذوقا فنيّا معتبرا مثل الفنانة والباحثة الدكتورة سعاد، التي تعكس في كلّ إبداعاتها، القليلة ولكن المؤثّرة، وعيا خاصّا بما يتطّلبه الإنتاج الأدبيّ الفنيّ من تأمّل، ونضج، وصبر على إغراءات الشهرة والانتشار."العائش في النغم" سمة مهيمنة وعنوان يترجم بصدق كلّ ما ينطبع في وجدان معارف مصطفى عائشة ورفاق دربه الفنيّ. بيد أنه لو أضفنا إلى بلاغة العنوان مهارة البورتريه الذي سالت به أنامل الفنّان بوزيد، والذي ينطق بكلّ الطموح المكدّر بمزيج حيرة وشجن، استطعنا أن نعلّل سرّ هذه الجاذبية وما تعد به من أفق قرائيّ غنيّ، يختزن من البعد المعرفيّ العلميّ بقدر مثيله البيوغرافيّ الحميم. يتكوّن مؤلّف" العائش في النغم" من مقدمة وأربعة أبواب وتسع وعشرين فصلا وفهرست. تستهلّه الباحثة بعرض الخطوط العامة للكتاب، والغاية المتوخّاة من إصداره، والتي لخّصناها منذ قليل بمحاولة الانتصار لبعض الشخصيات الوطنية المبدعة التي لم تحظ باهتمام يذكر في حياتها، شأنها في ذلك شأن كثير من المشتغلين بالحقل السينمائي: «توجد أسماء مغربية وعربية كثيرة تمارس هذا اللون الموسيقيّ دونما احتفاء إعلاميّ كاف، في حين تعطى الأنواع الموسيقية والأغاني ذات المستوى الفني الهابط الفرص الكثيرة للشهرة والانتشار بين مختلف الفئات الاجتماعية العربية.»2. قبل أن تنتقل إلى عرض صور من سيرة الموسيقار منتقاة من طفولته وشبابه، مؤرّخة لبداياته الموسيقيّة ولصداقاته...وتعرض الباحثة في الفصل الرابع من مؤلّفها لتجربة الموسيقار مصطفى عائشة الرحماني المسمّاة" CAMERATA Hispano Marroqui" التي جمعته بالسوبرانو المتميّزة سميرة القادري، وعازف البيانو الماهر عبد العزيز العربية، وأثمرت شريطا موسيقيّا يحمل عنوان "حلم" 1997، ويتضمّن «ثمان أغنيات مصاغة في قالب اللييد للسوبرانو والبيانو لشعراء مختلفي الجنسيات»3 ولا يفوت الباحثة، وهي العارفة بحياة النغم وأسراره، أن تشيد بأهمية الشريط الذي يعتبر«اجتهادا موسيقيا صرفا يحاول تكسير القواعد اللحنية واللغوية التي اعتادها المستمع العربي»4. وبعض عرض تجارب أخرى للموسيقار تنتهي بنا المؤلفة إلى عنوان مثير يسلمنا لمتاهة حزن وتعاطف مع هذا الرجل الذي أخطأ زمنه الفنيّ وأخطأه زمنه..."انتشار خامل" عنوان تعرض تحته الباحثة، بذكاء، بعض رسائل الموسيقار مصطفى الحميمة التي تعكس بجلاء حجم المعاناة النفسية التي كان الرجل عرضة لها بسبب نضوب محيطه الفنيّ والسوسيوثقافي: «ما برحت أكتب الموسيقى، ولكن، لمن؟ ولماذا؟ لكي أتفرّج عليها وهي نوطات على أوراق موسيقية!! لا شك أنها مهزلة، ولكنها لا تثير ضحكا»5. صحيح، إنها تثير بكاء على واقع الإبداع والفن الرفيعين في زمن الرداءة والابتذال. وتتوقف الباحثة لرصد بعض السمات النغمية المهيمنة على إنتاج الراحل مثل:الموسيقى الجبلية، وتنويعات الأحلام والصور(ثلاثة مشكالات)، والموسيقى الأندلسية والغربية(غراميات في حدائق الأندلس)، والتوتّر كما نجد في أول شريط موسيقيّ أصدره مصطفى عائشة، وتعرّض لتهميش إعلاميّ، مثل باقي أعماله، ولعدم مواكبة إعلامية بسبب غياب النقد الموسيقي المتخصّص، ويتضمّن الشريط الذي يحمل عنوان"الأندلس-ذكريات":«أربع معزوفات موسيقية مكتوبة لآلة القيتارة، وزعت بين قوالب الفوغة، والسويت، والبارياسيون»6 وفي هذا تأكيد على الخصوصية الموسيقية العلمية لهذا المؤلّف، الذي لا يكتفي بعرض معلومات وأخبار عن الموسيقار، وجرد لوائح أعماله، وإنما يضطلع بمهام تعريف القوالب الموسيقية التي استعملها، وتحليل مقاطعها، وعرض خطوط عبقريته وإضافاته الفنية في هذا المضمار. بيد أنّ الملفت في القسم الثاني للكتاب يكمن في استعراض الوجه الأدبيّ والفكريّ للموسيقار مصطفى عائشة الذي لم يك ليقلّ أهميّة عن وجهه الموسيقي. وستقدّم لنا الباحثة بيبليوغرافية دقيقة لأعماله الأدبية المنشورة والمخطوطة والمسجّلة...والتي تشمل قصصا قصيرة ومقالات ونصوصا مسرحية وأوبرالية وترجمات، وهذا يعكس بجلاء تنوّع مصادر الإلهام لدى هذا المبدع وتعددها. كمالم تنس الباحثة أن تذيّل هذا الجهد المعرفي المعتبر بصور للرّاحل ووثائق شخصية. إن مؤلّف الدكتورة سعاد أنقار موسوم بدقّة تبويب وتصميم وتنظيم، وبمهارة عرض وتفصيل تجعل منه نموذجا جديرا بأن يحتلّ مكانة مشهودة في جنس "صورة الشخصيّة" الأدبيّ. مثلما أنه صورة وفاء مشرقة لقدسية العلاقة ما بين الأستاذ والتلميذ، علاقة نشهد مظاهر امتهانها بشكل متكرر في زمننا الحاضر. .................. 1 - بعد اجتهادات رائدة وطنيّا ومحليّا مثل كتاب"التركي الرجل الذي طار بالدراجة" للدكتور محمد أنقار(صورة حياة). 2-العائش في النغم الموسيقار مصطفى عائشة الرحماني، سعاد أنقار، مطبعة الخليج العربي-تطوان، ط1، 2010، ص:4 3-نفسه، ص:26 4-نفسه، ص:27 5-نفسه، ص:35 6-نفسه، ص:51