يعد تطور علم الأحياء، خصوصا على صعيد الهندسة الوراثية بالكثير من الإنجازات المذهلة وبالنتائج المقلقة. فبعد تراكم المعطيات المثيرة على صعيد البنى الوراثية وتحديد الأسس المتحكمة ببنية الكائنات وتوافر الإمكانات المادية نتيجة انفتاح الأسواق أمام التكنولوجيا الحيوية، اندفع علماء الاحياء في تجاربهم التي بلغت عتبة ميدان من أخطر ميادين الحياة وباتوا على أبواب مرحلة ولوج أسرار آليات التطور وعلى وشك التوصل إلى تحديد مورثات النمو والتدخل على مستوى الأجنة والتلاعب ببنية الإنسان الوراثية مما يعدل الكائن البشري في صورة كاملة. ومع هذا التقدم المذهل يساهم العلم في التغلب على بعض الأمراض الوراثية وفي تحسين أنواع النباتات والحبوب وفي إنتاج الإنسان للحيوانات المعالجة وراثيا، ولكنه في الوقت ذاته يعزز نزعة الإنسان إلى تحسين النسل ويوفر له إغراءات اختيار "نوعية" المعايير الوراثية للمواليد الجدد. وبذلك يطرح قضية أخلاقية واجتماعية هي من أخطر ما تواجهه المجتمعات المعاصرة. وفي هذا الشأن أصدر المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد في دورته العاشرة بجدة في المملكة العربية السعودية في شهر صفر 1418ه الموافق 28 يونيو 1997م قرار رقم 94 (10/2) بشأن الاستنساخ البشري: أولا: تحريم الاستنساخ البشري بطريقته أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري. ثانيا: إذا حصل تجاوز للحكم الشرعي في الفقرة "أولا" فإن آثار تلك الحالات تعرض لبيان أحكامها الشرعية. ثالثا: تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحما أم بيضة أم حيوانا منويا أم خلية جسدية للاستنساخ. رابعا: يجوز شرعا الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد. خامسا: مناشدة الدول الإسلامية إصدار القوانين والأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميدانا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها. سادسا: المتابعة المشتركة من قبل كل من مجمع الفقه الإسلامي والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية لموضوع الاستنساخ ومستجداته العلمية وضبط مصطلحاته وعقد الندوات واللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به. سابعاً: الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة تضم الخبراء وعلماء الشريعة لوضع الضوابط الخلقية في مجال بحوث علوم الأحياء لاعتمادها في الدول الإسلامية. ثامنا: الدعوة إلى انشاء ودعم المعاهد والمؤسسات العلمية التي تقوم بإجراء البحوث في مجال علوم الأحياء. تاسعا: تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية ودعوة أجهزة الإعلام لاعتماد النظرة الإيمانية في التعامل مع هذه القضايا وتجنب توظيفها بما يناقض الإسلام لتوعية الرأي العام للتثبت قبل اتخاذ أي موقف. انتهى ولا يخفى أن هذه العمليات وأمثالها لا تمثل خلقا أو بعض خلق، قال عز وجل: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ".[المؤمنون:12- 14] قال عز من قائل: "أَمْ جَعَلوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ". [الرعد:16] وقال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُون وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ".[الواقعة:58-62]، وهناك في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن هذا الموضوع. يشهد علم الأحياء، خصوصا على صعيد الهندسة الوراثية تطورا متسارعا أضحت معه روايات الخيال العلمي حقائق فعلية تغذي المخيلة الشعبية بصور أسطورية تستند إلى معطيات ستتحول في المستقبل القريب إلى وقائع ومنها على سبيل المثال صورة ذلك المتجر الكبير حيث سيمكننا ابتياع الملبوسات والفاكهة واللحوم لاستهلاكنا اليومي... والقلوب الاصطناعية أو الكلى البلاستيكية استعدادا للشيخوخة وتدعم الإنجازات الإلكترونية هذه الأحلام بحيث أصبح ممكنا الاعتقاد أن الكومبيوتر الذي يشكل جزءا من جسدنا سيضاعف قدراتنا الحسية مثلا إلى درجة نستطيع معها استيعاب ظاهرة النسبية أو الرؤية على امتداد 360 درجة. واختصرت المسافات الزمنية الفاصلة بين الخيال والواقع فلم تعد الترجمة العملية لأحلام الكتَّاب والشعراء تتطلب عصورا وقرونا بل أجيالا وسنوات. وما كان خيالا في ذهن Aldous Huxley في العام 1928 أصبح اليوم واقعا علميا. ففي كتابه "أفضل العوالم" تحدث الكاتب الذي عاش في كنف عائلة من علماء الأحياء عن عالم ينجب فيه الأطفال بطريقة شبيهة بصناعة السيارات أي بطريقة آلية تؤدي إلى إنجاب عدد كبير من الأطفال المتماثلين والمتجانسين والجاهزين للعمل الفوري والتكيف مع المعطيات الاجتماعية والطبقات القائمة عند ولادتهم. واليوم أصبح مثل هذا الحلم شائعا ومقبولا عند البعض...!! وفي الإطار ذاته لابد من التذكير بما قام به البروفسورChristian Bernard عندما نفذ أول عملية زرع قلب أثارت في حينه اهتمام العالم قاطبة بينما لم تحظ عملية زرع قلب قرد في جسم إنسان قام بها البروفسور برنارد نفسه بعد سنوات عدة سوى بتغطية صحافية محدودة لا تتعدى الأسطر القليلة في الصفحات الداخلية. لقد أصبحت عمليات زرع القلب أو الكلى وعمليات استبدال صمامات القلب بأخرى اصطناعية عمليات مألوفة لا تثير الكثير من الاهتمام. وهكذا يبدو أننا دخلنا مرحلة جديدة تكيف معها ذهننا مع أحدث التجارب العلمية وانسجمت معها عاداتنا مع آخر اكتشافات التكنولوجيا المتطورة. لقد دخلنا مرحلة "التكوين الجديد" حسب تعبير Albert Rosenfeld في كتابه "الإنسان الجديد" مرحلة أصبح معها عالم الأحياء بمثابة مسرحية "بيغماليون جديد" يساهم في الخلق على غرار ما روت أسطورة ذلك المثال القبرصي المغرم بمنحوتته الجميلة إلى درجة دفعت افروديت إلى التدخل لإعطائها الحياة والسماح له بإشباع حبه والتمتع بما خلق. وأبرز ما تتسم به هذه المرحلة أنها ترتكز إلى علم الأحياء المعني كيفما تم التعاطي معه بأسس الحياة ذاتها من الغذاء إلى الطاقة مرورا بالصحة والتكاثر. ومن مظاهر هذه المرحلة تداول مفردات جديدة مثل "بطاطم" للتعبير عن نوع جديد من الخضار يجمع بين خصائص البطاطا والطماطم (البندورة). ويقدم هذا النوع الجديد انموذجا للإنجازات اليومية المحققة في مختبرات علم الأحياء والهندسة الوراثية. ولهذه الإنجازات البسيطة أهمية مميزة تبرز إذا ما تذكرنا أن أجدادنا استقروا وتعلقوا بالأرض وبنوا أولى قراهم ومدنهم بعدما تمكن إنسان العصر الحجري الأخير من إنتاج نوع جديد من الحبوب نطلق عليه اليوم اسم القمح. وتتفشى في المختبرات تسلية تتعدى مزج أنواع الخضار، إذ يتلهى العلماء في مختبراتهم بدمج خلايا الإنسان والفئران لمعرفة ما قد ينتج عن ذلك من نتائج غير متوقعة ليست بالضرورة مسخا حيا. فأنبوب المختبر لا يشكل مجالا حيويا كافيا لأي كائن، وبينما يتلهون يحاول العلماء التوصل إلى معطيات أساسية لتلك الظاهرة غير المعروفة في دقة ظاهرة الحياة وأسرارها. ويمكن تصور العديد من المجالات الخاضعة لاختبارات من هذا النوع خصوصا في ميادين الطب وعلم الوراثة، فقد حقق العلماء تطويرا ملموسا في ميدان مكافحة الأمراض وتمكنوا من تقوية أنظمة المناعة المقاومة للجراثيم ومن القضاء على العديد من الأورام المتوالدة كل لحظة داخل جسم الإنسان، كما تمكنوا من الحد من فعاليتها بالوسائل الكيميائية بغية إعطاء جسم زُرع فيه عضو غريب القدرة على الاستمرار في الدفاع عن نفسه من دون رفض العضو المزروع واكتشفوا أيضا أن لجهاز المناعة علاقات مميزة مع "الحالة العامة" و"نفسية" الكائن، فقد تبين لهم أن الفئران القادرة على مقاومة الفيروسات كافة كفيروس العقبولة (Herpes) أو الشلل تنهار في الحالات الطبيعية فور إقحام مثل هذه الفيروسات في أجسامها بعد إخضاعها خلال ستة أسابيع لتجارب قاسية مصحوبة بعقاب كأن يفرض عليها مثلا القفز على الحواجز لمدة ست ساعات يوميا تحت وطأة التعرض لشحنات كهربائية عند الرفض. ويذهب علماء الأحياء إلى أبعد من ذلك بكثير فيقتحمون ميدان التناسل والتكاثر بهدف جعل الحمل مهنة تقوم بها "حاملات" على غرار مهنة "المرضعات" القديمة العهد، فهل سيصبح ممكنا خلال العشرين أو الخمسين سنة المقبلة تحرير المرأة من صعوبات حمل طفلها؟ يؤكد العلماء أن الأمر ممكن التحقيق وأنه مجرب على صعيد الحيوانات ويشكل منذ زمن غير قصير واحدا من أساليب تهريب أنواع من العجول الأصيلة إلى الولاياتالمتحدة أو الأرجنتين في أحشاء إناث الأرانب. يتم التكاثر باندماج ثم انقسام خليتين تناسليتين: البويضة والحيوان المنوي ويتألف كل منهما من نصف عدد الصبغيات المكونة للكيان الكامل للفرد ولا يتم التكاثر في الأيام الأولى للحمل في موقع محدد. فبعد تلقيحها تنطلق البويضة من موقعها في عمق الرحم لتتابع نموها في داخله. وانطلاقا من هذه الملاحظة يعمل العلماء على تحقيق نمو طبيعي للجنين بعد نقله إلى رحم آخر تتوافر فيه شروط فيزيولوجية مماثلة. ولذلك يعتمدون طريقتين تقوم الأولى على تجليد البويضة والحيوان المنوي وحتى على تجليد الأجنة (وقد تحقق ذلك على صعيد الفئران). ومن الممكن أيضا تكوين رحم اصطناعي يستقبل الجنين الذي سينمو من دون حاجة إلى أم طبيعية. أما الطريقة الثانية فهي طريقة الأنبوب المشهورة. وكانت الفكرة انطلقت من ملاحظة أن أحد الأسباب الرئيسية للعقم وهو انسداد قناة الرحم، يعطل عملية التلقيح من دون الإخلال بقدرة الرحم على استقبال الجنين وحمله طوال الفترة اللازمة لنموه. والعملية هنا بسيطة وتتطلب استخراج بويضة في أفضل ظروف الإخصاب وزرعها وتلقيحها في أنبوب اختبار بحيوان منوي ثم إعادة زرعها في رحم ليس بالضرورة الرحم الذي استخرجت منه. ومن المعروف أن العديد من الأطباء ولاسيما الأستراليين والبريطانيين قاموا بتجارب عدة في هذا الميدان لم يفصحوا عن نتائجها. يتبع... *.-.*.-.*.-.*. والله الموفق 2016-05-02 محمد الشودري Mohamed CHAUDRI