لسان التكنولوجيا و.. العرب لا تزال قضية المصطلح العلمي والتقني في العالم العربي تشكل إحدى المواضيع الرئيسية التي تطرح على الدوام في جدول أعمال المجامع اللغوية ومكاتب التعريب العربية دون تقدم ملموس. ويمكن القول بارتياح تام أن هناك عجزا مخيفا في مواجهة هذه "القضية" التي تترك الفكر اللغوي يتخبط في أوزانه النحوية دون أن يتمكن من معرفة طبيعة ذلك العجز، وكأنه مسؤول عن عدم أداء مهمته كما يبدو من الوهلة الأولى. وهنا أود أن أؤكد بادئ ذي بدء أن العجز اللغوي ليس مرتبطا بذاتية اللغة بقدر ما هو متعلق بمجموعة من الشروط الموضوعية التي تمس السير العام للمجتمع، ولأنه لا توجد لغة من اللغات عاجزة عن أداء مفهوم ما أو مصطلح ما! ومن بين الشروط الموضوعية التي تمس قضية المصطلح وتؤثر فيه : *مستوى البحث العلمي والتكنولوجي المرتبط بالأطر الاجتماعية المعرفية. *التفاعل مع المادة المراد نقلها إذا لم تكن من إنتاج المجتمع وتفاعل الوسط مع المصطلحات التي يراد استخدامها وقابلية ممارستها. *اختراق العلوم للعقل والمحيط. وأخيرا... *أساليب وأنماط استخدام المصطلحات العلمية ومدى استجابتها للمفهوم المعبر عنه للتمكن من إشاعتها. هذه الشروط هي الوجه الرئيس للأزمة، والتي لا تتعلق فقط بالتطوير المجرد للغة بقدر ما تتعلق بمستوى التقدم العلمي والممارسة العلمية والتفاعل مع الاختراعات والاكتشافات. ولأن عملية تطويع اللغة ليست أمرا معقدا وبإمكانها التعبير عن أدق المصطلحات عندما تكون مرتبطة بمستوى تطور المجتمع، ومن هذه الوجهة فإن الأزمة التي نعاني منها لا ترتبط فقط بمسألة اللغة بقدر ما ترتبط بالإطار العام للتطور العلمي والتكنولوجي في المجتمع، وكيفية التعامل مع دلالاته لإيجاد المصطلح الدقيق المعبر والقادر على اداء المعنى المستحدث. وسوف أحاول هنا أن أقدم أمثلة عينية لأوضح البعد اللغوي والمفهومي لمسألة المصطلح وكيف يتم التعامل معه ومع مشتقاته في الأوساط العلمية الغربية، ولنأخذ كنموذج كلمة: هنا كما نلاحظ أن الاشتقاق اللغوي يساير في شكله ومضمونه المفهوم المراد التعبير عنه، وهذه المشتقات لم تأخذ دلالاتها المتعارف عليها الآن في الأوساط العلمية بشكل اعتباطي بل كانت مدار نقاش ما بين اللغويين وعلماء الاجتماع في آن واحد، وخصصت لذلك ندوات ومؤتمرات... وعلى سبيل المثال أن كلمة "التكنوقراطية" التي تعني "الحكومة الفنية" أي تسيير البلد كما تسير مؤسسة صناعية بوسائل تقنية دون اعتبار للجانب الاقتصادي والسياسي لم يحدد معناها إلا من خلال الممارسة العينية، ولا غرابة إذا وجدنا هذا المصطلح في معاجمنا اللغوية يفسر بجملة لغوية كاملة مفرغة من محتواها التاريخي والإيديولوجي، والشيء نفسه بالنسبة لمصطلح Technicisme- التقنيائية الذي يعني إعطاء الأولوية والأفضلية في كل الظروف للحل التقني لمواجهة كل المشاكل حيث يصبح قاعدة ثانية. وكما نلاحظ أن هذه المصطلحات مع ما تتضمنه من مفاهيم محددة تحتاج إلى لغة متطورة مسايرة للتطور العلمي والتقني، لغة لينة تستطيع عجنها لتعبر عن المفاهيم المستحدثة والدلالات المراد التعبير عنها. ولاشك أن إيجاد مقابل لهذه المصطلحات ليس بالأمر السهل وليس من مسؤولية فرد مهما كانت إمكانياته العلمية في المادة المتخصص فيها، لأن المسألة تتعلق بمفهوم المصطلح تاريخه وإطاره ومضمونه والمادة المستخرج منها وبمستوى الأبحاث العلمية في المجتمع وبالقدرة على تطويع اللغة حسب قوانينها وأوزانها وصيغها، وهذا ما يتطلب مجهودا علميا جماعيا ومركزيا لتحديد إشاعة المصطلح وتداوله في المراكز العلمية والمؤسسات الثقافية والصحافية. ولا بأس أن أشير هنا في هذا الصدد إلى ما كان قد تنبأ به الشاعر المرحوم حافظ إبراهيم وذلك من خلال أبيات من قصيدته الشهيرة "اللغة العربية تتحدث عن نفسها" (لغة القرآن) التي جاء فيها: إن ما نلاحظ مع الأسف الشديد أن العديد من المصطلحات العلمية تستعمل في مجتمعاتنا العربية كما اتفق وبدون تحديد ولا تقنين، بل أحيانا نجد أن المصطلح الواحد يعبر عنه في كل منطقة من مناطقنا العربية بكلمات متباعدة وعلى حد التناقض وهذا وجه آخر من المشاكل المطروحة. إن اللغة العربية تملك قدرة هائلة على مسايرة تطور العلوم والتكنولوجيا إذا ما تم الارتباط بها والتفاعل معها مع تدعيم لمستوى البحث العلمي والتكنولوجي المرتبط بالأطر الاجتماعية المعرفية. وهكذا وانطلاقا من التراث العربي يمكن القول إن حل إشكالية مصطلحات العلوم الإنسانية ضرورية لحل أزمة المصطلحات التقنية نظرا لما بينهما من ارتباط عضوي... العلم كمعرفة، والتقنية كممارسة عملية. والتحولات المدهشة التي يعرفها العالم الآن في كل الميادين العلمية والتقنية. ولتتحمل المجامع اللغوية ومكاتب التعريب العربية مسؤولياتها. *-..*-..*-..* والله الموفق 2016-01-25 محمد الشودري