… وأما ما ذكره الأستاذ زغلول النجار من أن الخلق لا يزالون يتناقصون في الطول منذ آدم إلى اليوم، فلا دليل ولا سند ولا أصل أو حجة علمية ثابتة تؤيد ما يقول، ولا ندري من أين استقى هذه المفاهيم التي تقول بانتقاص الطول الذي يطرأ على الذرية عبر الزمن أو الزمكان الدنيوي.
ولقد قلنا ما قلناه في هذه القضية المعقدة لخلق السموات والأرض مطارحة للعلم ووفاء بأمانته لا لغرض النيل من شخص أستاذنا وفكره، فنحن بصدد مدارسة الدليل بالدليل والحجة بالحجة، حتى يتبين الحق وتنقشع السحابة في ذهن القارئ والمثقف المسلم وغير المسلم، محاولين بذلك إزالة الخلط واللبس، وقد تطرقنا لقضية خلق السموات والأرض مع بيانات إضافية كذلك في الملحق الأخير من الكتاب، وكذلك في البحث الآخر الذي خصصناه للانفجار العظيم المزعوم، وأيدنا فيه قول الفخر الرازي بما ذهب إليه فكره الثاقب من تبصر لآيات القرآن، ولو من دون أن تتوفر له ما توفر لدينا من هذا الكم الهائل من المعارف العلمية الفلكية والفيزيائية الحديثة.
ونحن نقول بأن دراستنا لمفهوم النسبية العلمية مع اجتهادنا المتواضع في هذه المسألة، هو الذي كان سببا بعد توفيق من الله سبحانه في حل هذه المعضلة في فهم مراد الله وتأويله بخصوص هذه الإشكالية التي طال أمدها، فالأيام هي عبارة عن مراحل زمنية لكنها ليست بالتساوِي كما ذكرنا وكلمة سواء لا تعود بالضرورة على الأيام، والمعنى الذي أراده الحق سبحانه إيصاله إلينا في هذه الإشكالية لا يتضح جليا إلا بالمفهوم النسبوي الرصدي.
بحيث أن خلق الأرض قد تضمن واستغرق فعلا يومين أي مرحلتين زمكانيتين من مرصد، لكنه أيضا عبارة عن أربع مراحل زمكانية مختلفة من مرصد آخر، فعملية الدحو قد استغرقت من الوقت أربعة مراحل كأن نقول: مرحلة كان اليوم فيها مثلا يساوي حوالي أربع ساعات ومرحلة أخرى اليوم فيها يساوي حوالي عشر ساعات ومرحلة أخرى اليوم فيها حوالي ست عشر ساعة، ثم المرحلة الأخيرة بأربع وعشرين ساعة تقريبا، وقد تكون المرحلة المقصود منها الحقب الكبرى من خلق القمر والغلاف الجوي وإخراج الماء وتكون البحار والجبال ثم تلتها المرحلة النباتية ثم الحيوانية ثم المرحلة الأخيرة بما فيها ظهور الجن والإنس...
وكل هذه المراحل التي وقعت كانت زمكناتها مختلفة بالنسبة لعملية الدوران حول الشمس التي كانت آنذاك متواجدة ومستقرة، فهي أيام بالمرصد أو لنقل بالتقويم الشمسي الذي كان مفعلا قد بدأ يعمل، وأما قبل استقرار الشمس وقبل استقرار الكواكب في مداراتها، فكانت هناك مرجعية أو مرصد آخر، وهو زمكان آخر مختلف عن الزمكان الشمسي الذي استقر وأتى بعد ذلك الله أعلم به، ولأن عوامل الكثافة والجاذبية وسرعة الحركة والموقع بالنسبة لمركز المجرة، وأيضا تداخل عامل سرعة حركة المجرات بالنسبة لبعضها البعض وكذلك سرعة توسع السماء، كل هذا يؤثر على مفهوم اليوم أو الزمكان، وقد تكلمنا عن اليوم بمفهومه التمططي وعلاقته بالزمكان في فصل سابق من الكتاب، وأما هذه المراحل الأربعة لعملية الدحو فهي بحسب مرجعية الشمس وليس بمرجعية أخرى كمرجعية السديم الذي تخلقت منه الشمس، فيوم الشمس مختلف عن يوم كواكبها ويوم نجوم أخرى مختلفة عن يوم شمسنا، ويوم المجرات هو أيضا مختلف بالنسبة لبعضها البعض، فكل وزمكانه وكل وفلكه، قال تعالى: "وكل في فلك يسبحون"/الآية، إذا فهذه المراحل الأربع داخلة في اليومين التي تضمنت عملية الخلق كلها، والتي ابتدأت حين تولدت الأرض من السديم الدخاني الذي تولدت منه الشمس- فالشمس خلقت للأرض والأرض لم تكن لتخلق من دون شمس، فالمسألة متسلسلة ومرتبطة ببعضها البعض- وقد كان هناك مرصد آخر ومرجعية أخرى، مفهوم اليوم أو الزمكان فيه مختلف عن الأيام أو الزمكنات التي ذكرت بخصوص الدحو، وبيت القصيد في هذه القضية والذي له علاقة بموضوعنا هو أن اليوم الذي ذكر في قضية خلق السموات والأرض هو بمعنى الزمكان المرحلي، والزمكان المرحلي هو كذلك متفاوت ومختلف كاختلاف الليل والنهار، وقد فصلنا كذلك سابقا المفاهيم التي وردت بخصوص مفهوم اليوم في القرآن...
وأما السبق لذكر خلق الأرض قبل السموات في بعض الآيات كما ورد في سورة غافر: "الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء" أو في سورة البقرة:" الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء" /الآية22، فلا علاقة له بترتيب عملية الخلق، وإنما يتكلم الله هنا على سبيل الوصف وليس على سبيل الترتيب، وكذلك الأمر في سورة "البقرة"/الآية29 وسورة "فصلت"/الآيات9-12، فليس الأمر على سبيل ترتيب الخلق وإنما على سبيل تقدير الخلق، وفي الأمر حكمة ودلالات خفية أوضحناها في البحث الآخر، من أبلغ ما فيها من دلالة هي الإشارة إلى أهمية وكرامة زائرها المتأخر وهو الإنسان.
فقد قدر عز وجل خلقه قبل خلق السموات والأرض، وقدر مستقره الدنيوي أي الأرض قبل خلق السموات، لكن خلقه وخلق مستقره العيني كان بالمقلوب أي جعله يأتي من ناحية الترتيب متأخرا، فلأجله خلق السموات والأرض، وسخر له ما فيهما، وما كان الله ليخلق إنسانا قبل أن يوجد له البساط الذي يستقر عليه، وما كان الله ليخلق الأرض قبل أن يوجد لها سماء وليلا.
فقد أعد سبحانه الأرض وهيأها بما فيها قبل أن يأتي زائرها-منها خلقناكم وفيها نعيدكم/الآية- ومنطقيا أنه أعد لهذه الأرض موقعها وزمكانها المناسب من المجموعة الشمسية في طرف من أطراف مجرتنا الحليبية بسماءها وليلها وضحاها، فالكواكب تابعة للنجوم والنجوم تابعة للمجرة والمجرات تابعة لبعضها البعض من الصغرى إلى الكبرى، لكن الترتيب الخلقي العيني، قد ذكره الله في سورة النازعات، ليذهب اللبس، حيث ذكر الحق عز وجل وأضح عملية السبق والترتيب والابتداء في الخلق بأشدها وهي السماء، وأما الإنسان والأرض فما هما بأشد خلق من السماء، ولهذا جاء ترتيبهما متأخرا من ناحية الخلق، فقال سبحانه : "أانتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها"/الآيات27-32، والآية تفصل لنا عملية الخلق، بأن هناك بناء للسماء مع رفع لسمكها، بفعل عملية التوسع والتضخم والكِبَر، وتسوية لكل سماء على حدة بما في ذلك سماءنا الدنيا، مع ما تبع ذلك من مرحلة إغطاش الليل في السماء الدنيا ومع عملية إخراج الضحى بجعل النجوم والمجرات في سماءها.
وهذا الأمر نجده مطابقا كذلك لقوله تعالى : "فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىَ فِي كُلّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"/الآية/فصلت، ثم بعد ذلك سيأتي دور الأرض حين تخلق الشمس وتستقر-لأن الشمس جعلت للأرض وساكنيها- ليقع بعد ذلك وبمجرد استقرار الشمس بمداراتها في وسط المجموعة واستقرار الكواكب البدائية في مداراتها، بما في ذلك الغلالة الأرضية البدائية التي كانت قد تشكلت لتكمل وجهتها ومسارها لتستقر في مكانها المناسب لها داخل المجموعة التي هي من جنسها وولدت معها، لتأتي مرحلة الدحو التي ستكتمل بعد مرورها بأربعة مراحل، متصلة بالشمس شقيقتها الكبرى ومرتبطة بجاذبيتها وجاذبية الشقيقات الأخريات أي الكواكب الأخرى المجاورة لها والمحيطة بها.
فالأيام المتعلقة بالدحو متعلقة بمرجعية الشمس بحسب سرعة دورانها حول الشمس ودورانها حول نفسها، والشيء الذي ربما لم ينتبه له المفسرون الذين قالوا بخلق الأرض قبل السماء، وهو داخل في السياق العام للآيات جميعها حين نستصحبها ونستدركها ببعضها البعض، هو الالتفاتة التي ختم بها الحق عز وجل الآيات كلها من كون القضية الخلق برمتها هي متعلقة بموضوع التقدير، وبالخلق النوعي أولا ثم تندرج الأطوار الخلقية العينية ثانيا وفق الترتيب والبرنامج الذي عين وحدد لها، وبأن الخلق كله عند الله قد وقع بداية في زمان آخر لا تندرج فيه مسألة السبق والترتيب، وبأن مسألة الأجل والسبق والترتيب الزمكاني هي مندرجة على خلقه لا عليه، فقد قضى عز وجل بأن لكل شيء أجلا، فكان الختم في الآية الأخيرة لهذه المسألة، بالتأكيد والتذكير على كون كلام الله في ذلك المقام هو أولا وآخرا مرتبط ومتعلق بالتقدير والتدبير وبالعلم والقدرة ، والذي لا دخل لأحد فيه ولا ناقة ولا جمل، حيث قال سبحانه:"ذلك تقدير العزيز العليم" …