مسألة خلق السموات والأرض وأقوال العلماء: من سبق الأرض أم السماء؟ هل تم خلق الأرض قبل السموات أم العكس؟ ونبدأ الجواب بالتعقيب الدي كنا قد بدأنا مطارحته سابقا، وكنا قد ذكرنا أننا لا نتفق مع الأستاذين الجليلين في طرحهما، والذي يؤيدان فيه خلق الأرض قبل السموات، كما لا نؤيد طروحاتهما في تسوية الأيام الستة ولا تقسيمهما لمراحل الخلق الذي يجزمان فيه أنه من المكتسبات العلمية الحديثة، وخصوصا التقسيم الذي أتى به الأستاذ زغلول النجار والذي هو يؤيده ويدعمه، كما لا نتفق معه في نفيه للقمر كآية لليل-وقد تطرقنا لهذا الموضوع من قبل- ولا نتفق معه في كيفية تفسيره للرتق والفتق، كما لا نتفق معه في أشياء أخرى قد يطول بنا الحديث عنها ولا مجال لسردها الآن،. فبخصوص هذه الإشكالية أو المعادلة الصعبة التي لا يدري أستاذنا الجليل كيفية الخروج منها أو التعامل معها، محاولا بكل جهده إيجاد تفسير يلائم ما انغرز بعقله، من مقدمات نظنها خاطئة، فنراه في هذه المسألة بالذات يلجأ إلى تفاسير المفسرين القدامى لعله يجد خيطا يتعلق به، لفهم هذه المسألة وسبر أغوارها، وقد يقول قائل إن الأستاذ معذور فيما يقول، وهو بقوله هذا، إنما أراد تقديم النص على العلم، وإلا كيف يركب هذا الأمر مع قول القرآن: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم"/البقرة، والآية تفيد وتؤكد "جميعا" أي بكل مستلزماتها ومكوناتها، وفي سورة فصلت أيضا يزداد الأمر تعقيدا حيث ذكر خلق الأرض في يومين وذكر اكتمال الخلق بدحو الأرض مع تقدير الأقوات في أربعة أيام سواء للسائلين، قال تعالى: )قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين, وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين, ثم استوي إلي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين, فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم" فصلت:9 12، وقد قال الكثيرون كيف يكون هذا؟ وقد يتساءل البعض :كيف سيفك العالم المسلم رباط هذه العقدة ؟ فالله يقول جميعا أي الأرض بكل ذراتها ومكوناتها وكل مستلزماتها من حديد وغازات وهواء وبحار وجبال وغيره، قد تم هذا الأمر قبل خلق السماء، فنقول: لا الأمر ليس كذلك، وأستاذنا الجليل لا يأخذ بظاهر النص، ولا يفعل كما فعل المفسرون من قبل، فهو يخلط لنا المفاهيم، حيث يخلط المعارف الجديدة بالنص القرآني، ونجده يتناقض في ما يقول، وينزلق بالقارئ في متاهات بحيث تختلط على القارئ المفاهيم العلمية الصحيحة والظنية. كما قد تلتبس عليه التأويلات والتفسيرات للنص، إن لم يستوف المتأول أو المفسر حقها وينظر إليها من زوايا مختلفة ومراصد عدة مع الأخذ بالاعتبار لكل الزوايا والمراصد سواء منها اللغوية أو الحديثية أو العلمية أو غيرها، فالقرآن يُفَسَّرُ بالقرآن ويفسر بالحديث النبوي، ويفسر باللمسات الفقهية والبيانية للغة، ويفسر بالمعطيات العلمية، مع إعمال للعقل ولأدوات الموازنة، والفقيه ينظر إلى كل هذه الزوايا، وقد يجمع أو يرجح، فلا يقترب تأويل الآيات إلى الفهم الصحيح إلا إذا وازن وقلب الأمور من كل الزوايا، ثم إنه لا ينبغي للعالم الباحث أو المفسر لكلام الله أن يجزم بشيء في القرآن إن بدا له تعارضا وإشكالا، وإنما يتوقف-فالقرآن لا يعارض ولا يناقض بعضه بعضا- وقد يرجح بالدليل القوي إذا أخذ بكل الاعتبارات والمعطيات، لا يستثني منها شيئا، وخصوصا في الآيات المتشابهات. ونحن لا نعتب على أستاذنا حين يتكلم عن دحو الأرض في يومين بعد ذلك كعملية إكمال وإتمام لخلق الأرض، فيقول إن هذا الأمر قد وقع بعد تسوية السماوات- من حيث تصلب قشرتها وتكوين طبقات الأرض وسطحها بجبالها وبحارها وغلافها الغازي وغيره- إلى هنا نحن نتفق معه، لكننا نعتب عليه ونرد عليه قوله لما عاد يتكلم عن يومين للخلق الابتدائي الأولي قبل تسوية السماء سبع سموات، ثم يتكلم عن يومين آخرين لعملية الدحو بعد تسوية السموات، ليكتمل له النصاب ويجتمع له الحساب في أربعة، فهناك بحسب رأيه أرض قبل تسوية السماء الدخانية وأرض بعد تسوية السماء الدخانية وقضاءهن سبع سموات. ويبقى السؤال الملحاح: ما صلتهما ببعضهما عبر ذلك الأمد الطويل جدا؟ فهي أرضان إذاً، أرض مدحوة بعد ولادة الشمس، وأرض ابتدائية لا علاقة لها بالشمس انفصلت من السماء الدخانية لا أحد يعلم كيفيتها وما مكوناتها الذرية، وقد انفصلت عنها وتشكلت قبل بناية السماء الدنيا وعمدها، وما نوع هذه الأرض التي وجدت قبل هذه الأعمدة، وكيف تكون الأرض أو الكواكب من دون نجم يشدها ويربطها إليه؟ أليس أعمدة السماء هي النجوم والمجرات والمادة المظلمة التي أغطشت ليل السماء فهي لا ترى؟ وقد قال رسول الله :"النجوم أمنة السماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد"/الحديث، ويأتي السؤال الآخر مباشرة: هل هي غلالة "أرضية" بحديدها أم بدونه؟ وهل شُكِّلَت قبل رفع السماء ورفع سمكها وقبل تشكل الليل والسماء بمجراتها ونجومها؟ وهنا يبدو التعارض واضحا، وهو الشيء الذي أشكل عليه، فلا يجد له سبيلا إلا أن يؤيد طرحه بقول القدامى، لكن المفسرين القدامى اختلفوا في هذه القضية وأشكلت عليهم، ولم يقل أحد منهم بما قاله، أي أن هناك أرض بعد الدحو أوجدت بعد تسوية السموات، وأرض قبل الدحو خُلِقت قبل تسوية السموات، فمن حيث المفهوم الزمكاني التطوري يستحيل أن تقوم لهذا الطرح قائمة، ولو كانت غلالة أرضية قد تواجدت بالشكل الذي يصفه والطرح الذي يطرحه لكانت قد تلاشت من زمن بعيد بعيد جدا إلا إذا كانت قد استحفظت في زمكان دنيوي آخر، بيد ملك كريم، ثم أتى بها هذا الملك الكريم ليضعها داخل المجموعة الشمسية، بعد أن وضع ملك آخر الشمس في طرف معين من المجرة، وعلماؤنا القدامى قد طرحوا طرحا مناسبا لظروف وبيئة زمانهم، وهم معذورون لأن المعارف الفلكية والفيزيائية لم تكن متقدمة كما هو الحال في زماننا، وأما أستاذنا فرجل معروف عنه أنه يهتم بالأبحاث والمعارف العلمية الحديثة، وله باع واطلاع واسع في هذا المجال، فلا بأس ولا حرج من أن نعتب عليه، وحيث نراه لا يفتأ يكرر في كل مناسبة من خطبه ومحاضراته أن أن أغلب الذرات الثفيلة الموجودة في الأرض كالكربون والحديد والنحاس والسيليسيوم والمنغنيز وغيره من باقي الذرات الثقيلة تتكون في النجوم المستعرة والعملاقة، من العائلة النجمية التي تواجدت قبل العائلة النجمية لشمسنا-فشمسنا ليست من الفصيلة أو العائلة التي تصنع مثل هذه الذرات الثقيلة-وأن هذه القضية متفق عليها علميا من طرف ذوي الاختصاص، ونحن نؤيد هذا المعطى ونتفق معه لتوافقه مع مرامي القرآن وإشاراته، بحيث أنزل الحديد ومشتقاته إلى الأرض إنزالا، بعد تخلق المجموعة الشمسية وتخلق الأرض لا قبلها، قال تعالى:"وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس"/الحديد، ونحن نُذَكِّر أستاذنا العزيز، بأنه ليس هناك أحد من العلماء الفلكيين أو الفيزيائيين أو أحد من المختصين المتقنين بكل أطيافهم من يقول بأن الأرض قد خلقت قبل هذه النجوم بما فيها نجمنا "الشمس"، بل يقولون بالعكس، بل ويؤكدون أن الأرض استمدت واستوفت كل أنواع الذرات المتواجدة فيها فيما بعد أي بعد زمن مديد من ولادة هذه النجوم المستعرة الكبرى وموتها وفناءها، أي بعد انفجارها، لتتشتت هذه الذرات الثقيلة التي صنعت في جوفها وتنتشر في الفضاء، وإلا فكيف تنفجر هذه النجوم المستعرة إن لم يكن هناك فضاء وكيف تنتشر كذلك هذه الذرات الثقيلة إن لم يكن هناك فضاء وسماء. ولما يقول الله أنه أنزل الحديد، فبداهة أن هناك "فوق" وهناك "تحت" ومرتفع ومنخفض، والسماء بلغة العرب هو ما علا وارتفع- وأي فضاء هذا إن لم يكن فضاء السماء الدنيا الذي أوجده الله بعد أن فصلها الله وفتقها عن السموات الأخرى-ثم لتلتقطها بعد ذلك الكواكب والكويكبات والنيازك وغيرها، وهذا هو الترتيب الصحيح، وإلا فكيف اكتسبت الأرض كل ذراتها وخصوصا الذرات الثقيلة التي هي متواجدة في باطنها، والتي أغلبها هي من حديد؟ والمعروف أنها كانت كتلة ملتهبة أول أمرها وباطنها كان حديدا قبل تصلب قشرتها وقبل دحوها؟ فمن أين أتاها هذا الحديد، والله يقول أنه أنزله إليها من السماء؟ وقد أنزله الله إليها قبل الدحو وحين الدحو بعد تواجد هذه النجوم المستعرة لا قبل تواجدها، والعلم الحقيقي لا يمكنه إلا أن يصب في مصب الله، ثم إن كانت الأرض قد خلقت مباشرة من السماء الدخانية وقبل تشكل السماء الدنيا وانفصالها عن السموات الست الأُخَرِ، فهل خلق الأرض البدائية قد تم قبل خلق السماء الدنيا أم أن الله قد خلق الأرض البدائية وشكلها في نفس الوقت ومباشرة لما ابتدأ تخلق وتشكل السماء الدنيا؟ ثم كيف كانت هذه الغلالة الأرضية وقد كان الجو أو الفضاء شديد الحر؟ ومعنى هذا أن الكواكب والكويكبات والتي جعلها الله في مدارات النجوم قد خلقت قبل المجرات والنجوم، أي أنها كانت سديما، والمعروف علميا، وهو شيء مؤكد، أن النجوم والمجرات الأولية قد تخلقت من السديم الدخاني الأولي مباشرة، وهذا الذي تقول به وتردده دائما من كون النجوم قد تخلقت من السدم الدخانية، فأيهما سبق النجوم والمجرات أم الأرض؟ وقد كانت الأرض سديما، وهنا طبعا ستختلط الأسماء والمسميات لدى القارئ، فقد يرد بذهن القارئ أنه يقصد طبعا بالأرض البدائية السديمَ الدخاني الذي كان قبل النجوم والمجرات، ومعروف أن السديم الدخاني الأولي أو السماء الدخانية لم تكن تحتوي على الذرات الثقيلة، وكيف إذن تخلقت الأرض منها؟ وبأي شكل؟ هل كانت غلالة سديمية نجمية أم غلالة سديمية من نوع آخر؟ هل كانت كتلة ملتهبة أم كانت غبارا أم كانت نيزكا أم ما الذي كانت هذه الأرض؟ أم كانت شيئا آخر غير الأرض؟ هل كان باطنها قد شُكِّل حديدا أم لم يكن لها باطن؟ وبهذا نرى ونخلص أنه منطقيا وعلميا لا يمكن أن يكون ما يدعيه أستاذنا بالأرض البدائية المبهمة الماهية والكنه، والتي لا يدري عنها شيئا، ولا ندري ما الذي يقصده بهذا المصطلح وإن كنا نتفق معه في الإسم إلا أننا لا نتفق معه في المسمى، بحيث نراه يضعه في غير محله وفي غير موضعه المناسب له..