دراسة نقدية لقصة "ولد عيشة" الفائزة بأحسن قصة قصيرة في إذاعة بي بي سي و مجلة العربي لشهر دجنبر 2010 للأستاذ محمد مباركي الشرق المغربية/حسين سونة: قرأت قصة ولد عيشة للقاص محمد مباركي وهي من بين عدد كبير من القصص التي كتبها ، وقد يعود تاريخ كتابتها إلى أزيد من 5 أشهر، وقد وظف فيها الكاتب حدثا متميزا وماضيا بكل أبعاده من فترات تاريخ المغرب ، وهي قصة تجمع بين الخيال والواقع ، خاصة عندما يذكر أحداثا مسترسلة ... ابتدع صاحب القصة شخصية باسم أمه ، ولقب له دلالة عميقة إذ يلقب به اليتامى أو من لا يُعرف أبوه ، وعرض حدثا تاريخيا في موقع جغرافي حيث مرتع اللصوص وقطاع الطرق أيام انتشار الفوضى و السيبة وتمرد القبائل على المخزن ، فكانت بعض القبائل ترفض أداء الضرائب أو تثور في وجه القواد المعينين من طرف السلطان ، مع العلم أن الكل يعترف بسلطة السلطان ، غير أن بعض الزوايا كانت تتمتع بوزن سياسي حتى أن رؤساءها كانوا أحيانا يعاملون معاملة خاصة من قبل المخزن ، اندرجت القصة في إطار هذه الظروف التي عاشها المغرب ، فالقصة تقدم نقدا لمجتمع الفترة ، لكن بذكاء القاص لم توجه اللوم لأحد ، فهي ذات وجهين ظاهر وخفي لا يدركهما إلا الذكي المتذوق . يحدد السيد م مباركي الأماكن بأسمائها مما يدل على معرفة جغرافية : مثلا يقول في هذا الجزء من المغرب الأقصى ، أين تُقبل السهول أقدام جبال" بني يزناسن" ، و تسرح في انبساط واسع يمتد جنوبا حتى النجود العليا ... ويجذبك في تصوير الحالة الطبيعية وعلاقة المخزن بالبلاد والعباد حيث يقول كانت يد المخزن قصيرة ، والطاعة تفرضها حركات المخزن بالقوة لجمع الإتاوات ، وهذه العلاقة يصورها بتقلب العباد بين مد السيبة وجزر الطاعة ، وذلك في أوقات قوة السلطة المركزية بفاس ، أما في حالة ضعفها تتوزع البلاد إلى مناطق نفوذ ... ومن هؤلاء ولد عيشة بطل القصة وقد ذاع صيته واسمه في هذه الربوع ، كان زعيم عصابة من المجرمين ، تترصد المارة وقوافل التجار على طول الطرق والمسالك ينهبون ويسرقون ويسبون ثم ينسحبون ، وفي القليل من الأحيان كان ولد عيشة يقبل ازطاطة . وهي بالتعبير الحاضر الرشوة ، فالكاتب صور لنا الوضع كما هو حتى من حيث اللغة المستعملة في ذلك الوقت وهذا ما يجعلنا ننسى اننا نقرأ قصة قصيرة ، خاصة عندما يذكر ضعف المخزن : فيكشف الكاتب منذ البداية عن واقع البلاد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بدون نقد ولا توجيه لوم ولا حقد لأنه يدرك أن القصة هي محور الكلام ، ووحدة الموضوع الذي يجعلنا ننسى الواقع الذي عشنا معه عند سرد الأحداث التاريخية ، غير أننا ندرك من خلال ذلك ضعف الحكم والحكام وهذا يطرح مشكلة رئيسية باعتبار الظلم الذي يتعرض له التجار والسكان عموما ، فهو يحدثك عن كيفية جباية الضرائب الشرعية وغير الشرعية ولا يوجد قانون لوقت وكيفية أدائها ، بل تجمع بالقوة عندما يحتاجها السلطان وينظم لذلك حركات عسكرية ، ولعل ما يصوره القاص هو معاناة التجار الذين لا يحملون إشارة من شيخ الزاوية ، وهنا لا بد من طرح السؤال : من كان يحكم هل شيوخ أو شيخ الزاوية أم السلطان ؟ أم القائد ؟ إن القارئ لا يطرح هذا السؤال لأن القاص استطاع أن يشوقه لمتابعة أحداث القصة وليس الأحداث التاريخية ، وهذا يبين القدرة الفائقة والإحاطة بجميع شروط كتابة القصة القصيرة لذلك يمكن إدراج هذا القاص مع كبار الأدباء القصاصين .. من بين أبطال القصة شيوخ الزوايا والمعلم : يرجع بنا السيد م مباركي في سرد الوقائع إلى طفولة بطل القصة حيث بدأ كيتيم يتعلم الحدادة غير أن " لمعلم " كان صارما معه وخاصة عندما تصر الأم الأرملة على تعليمه ، لكن لما يتعرض للتنكيل يحتمي بالشيخ ومريديه ، فيكرمه الشيخ ويحسن وفادته ، ومع ذلك انحرف الطفل ، وانتقم من معلمه ليبدأ عمل الإجرام ، ويلاحظ القارئ فقدان الجانب التربوي والتعليمي لا من جهة المخزن ولا من جهة الزوايا التي كانت تعمل على نشر وترسيخ تعاليم الإسلام ، بالإضافة إلى دورها الاقتصادي ، ومحاربة الاستعمار ... ويسرد لنا من جهة أخرى كيف جمع البطل أفراد العصابة وكيف حصن نفسه بسلاح ناري - أي فردي من نوع بوخرصة – وذلك بأسلوب مرن وواضح بعدما أصبح مطاردا من قبل أبناء الضحية ، وكيف كان يتم البحث عنه بدون جدوى ، كما يتبين فشل المخزن في إيقاف العصابة ، و لجوء الناس إلى الزاوية التي حاولت الإصلاح فأرسلت أحد المريدين من شرفاء المنطقة ليدعو ولد عيشة إلى التوبة وترك الإجرام ، وبعد فشل المحاولة الأولى ، كانت المحاولة الثانية التي قبل فيها ولد عيشة عرض الصلح ، غير أن أفراد العصابة رفضوا، واحتار المبعوث في أمر قيادة العصابة من طرف ولد عيشة وهناك من هو أقوى منه .. تذكر القصة بما يتداوله الناس في مناقشاتهم حول أمور معينة وخاصة منها الجانب التربوي ، فالكل يجد منفذا للهروب من مبرر - مسؤولية الجميع – فهل في ولد عيشة من شخصية ما نسجتها جهة معينة ، وهل اشترك الجميع في نسج هذه الشخصية ، يبدو لي أن المسؤولية محدودة عند كل جهة ولا يمكن أن نهرب إلى الأمام ، و نلوم من هو بريء ، فلو أن المخزن أحكم سيطرته بحكمة الفاعل الهادف ، وفرض الحق للمحق وراقب وأحكم ، وزجر بالعدل ، ولو أن الأم رغم الترمل شددت في تربية الابن ، والزاوية احتضنته أيام محنته باعتبار الدور التعليمي الذي كانت تقوم به ، ولو أن كل جهة قامت بدورها بغض النظر عن المحاسبة . لما كان ولد عيشة خريج مدرسة اختلط فيها العاقل بغير العاقل ، وكثرة القيل والقال . إن القصة تروي حدثا بلغة أدبية راقية وتخلق متعة وجاذبية لدى القارئ ، قصة ولد عيشة يمكن تلخيصها في عقدة التربية والاحساس بالظلم وهي تحكي عن واقع أليم ، في ظروف تاريخية كثر فيها الجشع والتسلط ، قصة لها عناصر هامة تجعل منها إبداعا فنيا إنسانيا رائعا أضفى عليها جمالية ، تميزت بوحدتها الفنية وتتابع الوقائع سواء في الزمن أو في المكان ، فهي تتناول جانبا من الحياة الاجتماعية وتبين جوانبها الخفية للقارئ بفضل قوة الايحاء لصاحبها . لقد راقتني هذه القصة وجلبتني لقراءتها بشغف لما تضمنته من أفكار ، وتفاصيل جذابة ، وهذا ما جعلني أعاود قراءتها عن طريق هذه الدراسة النقدية المتواضعة ، وبالرغم من الصورة المأساوية للبطل الذي كان قريبا من الصلح إلا أنها نهاية سعيدة للتجار وعابري الطرق عامة . أحييك ذ. محمد مباركي لوفرة نشاطك الأدبي والقصصي، قرأت لك قصصا كثيرة ، وأفصحت لك أن قصصك شغلتني كثيرا، وأخذت من وقتي الشيء الكثير وقلت لك سابقا أن الواقعية موهبتك والقصة القصيرة تخصصك ، وهذه القصة خير دليل على موهبتك وإبداعك الكبير . وفقك الله ، ودمت لنا مبدعا . "ولد عيشة" الأستاذ محمد امباركي "في ذلك الجزء من المغرب الأقصى ، أين تُقبل السهول أقدام جبال بني يزناسن، و تسرح في انبساط واسع يمتد جنوبا حتى النجود العليا ، كانت يد المَخْزن الشريف ( الحكومة ) قصيرة ، تاركة العباد يتقلبون بين مد السيبة و جزر الطاعة . الطاعة التي تفرضها " حركات " المخزن بالقوة لجمع الإتاوات الشرعية و غير الشرعية ، و تُقرّع المخالفين و تضرب على أيديهم . هذا في أوقات قوة السلطة المركزية بفاس ، أما في حالات ضعفها، كان العصاة يستأسدون و يوزعون المنطقة بينهم إلى مناطق نفوذ ، يملكون فيها رقاب العباد و يعيثون الفساد في البلاد . و من هؤلاء " ولد عيشة " أو " المحروق " . لما كان يذكر اسمه في هذه الربوع ، ترتعد فرائس الكبير و الصغير. كان زعيم عصابة من المجرمين لا ترحم . يترصد السابلة و قوافل التجار على طول الطرق و المسالك . يهجم و أفراد عصابته ، ينهبون و يسلبون و يسبون، و ينسحبون بالسرعة التي هاجموا بها . و في القليل من الأحيان كان يقبل ولد عيشة " الزطاطة " و هي إتاوة تقدمها له القوافل و الناس شرط سلامة المرور بالمناطق التي يراقبها . و كان يستثني من غاراته كل من حمل إشارة من شيخ الزاوية أو من صاحبهم رسول من قبله . للاحترام و التقدير الذي كان يكنه لهذا الشيخ و مريديه. لذا كان الشيخ يعطي عمامته أو سلهامه لرؤساء القوافل و التجار لخفر ذمتهم . فتمر القوافل في أغلبها بسلام . ينحدر " ولد عيشة " من قبيلة " بني نْياط " الوضيعة النسب . و معناها في اللهجة المحلية قبيلة الحدّادة الذين يمارسون مهنة الحدادة الحقيرة في المخيال الاجتماعي لسكان المنطقة ، لارتباطها بنفخ الكير في النار لتطويع الحديد و طرقه لصناعة سنابك الخيل و البغال و الحمير و وسائل الإنتاج اليدوية . فهي في حسبانهم في تماس مع القذارة . بدأ ولد عيشة اليتيم متعلما منذ صغره لدى أحد الحدّادين من قبيلته . أبدى حذاقة و سرعة في تعلم أصول الصنعة ، و رغم ذلك كان يتعرض لكل أواع التنكيل من قبل معلمه الفظ لأدنى خطاء يرتكبه . حمل آثار الضرب و الكي على أطرافه و وجهه بالخصوص ، فلقبه أقرانه بالمحروق . فكان يهرب من معلمه لما يشتد به التنكيل . و في كل مرة كانت أمه الأرملة ترده إلى مشغله، فينكل به أكثر. لذا كان يهرب منه و من ورشته إلى الزاوية و يحتمي بالشيخ و مريديه . فيكرمه الشيخ و يحسن وفادته و يطلب من المعلم أن يرأف به . و لما اشتد عود" ولد عيشة " و قويت بنيته أصبحت ورشة الحدادة لا تسعه ، و عاد معلمه صانع عقدته التي استفحلت مع الزمن ، عدوّه الأوحد . و كان دائم التفكير في أي طريقة سيرد له بها ذلك الإرث الثقيل من العقاب، حتى استقر رأيه على رميه في النار. و ذلك ما فعل، ليفر إلى مكان قصي ، جمع فيه بعض الأجلاف من قبائل المنطقة صنع منهم كتلة من المجرمين . قادرين على التحرك السريع في تضاريس جبلية صعبة المسالك يعرفونها تمام المعرفة . و الذي يقتل مرة يمكن أن يعيد القتل مرات . و ولد عيشة بعد قتله لمعلمه بتلك الطريقة البشعة ، أصبح مطاردا من قبل أبناء الضحية و أهله ، طلبوه حيا أو ميتا ، مما جعله يحصن نفسه بسلاح ناري ( فردي من نوع بوخرصة ) و سيف مهند و خنجر بربري بلسانين . و كان لا يثق في أفراد عصابته . كاتب الناس قائد المنطقة و العامل ، بل و كاتبوا حتى الحضرة العلية بفاس ، دون جدوى . فكانوا يلجئون دوما إلى شيخ الزاوية ليدرأ عنهم عصابة ولد عيشة . أرسل الشيخ أحد مرديه من شرفاء المنطقة ليدعو ولد عيشة إلى التوبة و ترك الإجرام . و عرف هذا الرسول بوجاهته و سمو همته و بقدرته الخارقة على المفاوضة و انتزاع مبتغاه من غريمه . فخرج صحبة "طالبين" شابين سوسيين يطلب العصابة و رئيسها . تجشم الثلاثة عناء المسالك الوعرة في تلك التضاريس. و في منتصف الطريق اعترضتهم العصابة دون رئيسها و أمرتهم بفظاظة و دون مماحكة بالرجوع سالمين من حيث أتوا . لما علم ولد عيشة بقدوم الوفد و فيه الشريف عبر عيونه التي لا تنام ، انسحب إلى كهف في الأعالي اعتاد التحصن فيه ، و أوفد عصابته لاعتراض الوفد و رده ، متجنبا الشريف و مفاوضة يعلم أنه خاسرها سلفا . احتار الشيخ من هذا الأمر مدة ، وعرضه على مريديه مرات حتى وقعت عينه على شاب نبيه حمّله أمر مفاوضة ولد عيشة بالطريقة التي يراها . و زوده بالنصائح و مهادنة العصابة و الوصول إلى رئيسها و مخاطبته رأسا لرأس. و دعا له بالتوفيق و التمكين . خرج هذا الشاب لوحده ليلا متسلحا بمعلومات جمعها حول كل فرد في العصابة . و ركز أكثر على أصولهم و أنسابهم القبلية . قصد الكهف المجهول و هو يعلم أن عيون العصابة تراقبه منذ خروجه من القرية. أحس بها من وراء قعقعة الصخور و الغبار البعيد المتطاير أمامه و خلفه ، فضحها سكون الليل و ظلمته الحالكة الباعثة على الخوف و الرعب من أي حركة تصدر عن إنسان أو حيوان. لكن الشاب و من خلال ملازمته للشيخ في الزاوية نهل من الورع ما ملأ قلبه بخوف الله دون غيره ، و امتاز بين أقرانه بالحيلة و المكر ، رأى أن توظيفهما قد حان في هذه المهمة ليريح البلاد و العباد من عصابة ولد عيشة . لما وصل إلى عرين العصابة و رئيسها ، استقبل بالترحاب و كرم الضيافة لكونه جاء من قِبَلِ الشيخ يحمل السلام و دعوات الرجوع و التوبة و قبول إصلاح ذات البين مع عائلة القتيل . أبدا ولد عيشة استعدادا قَبْلِيا للعرض ، خاصة و أن الشيخ هو من كان سيتحمل دفع" الدّية" لأولاد القتيل و يشرف على طقوس المصالحة . لكن العصابة رفضت العرض رفضا باتا ، فتراجع رئيسها عن ذلك الاستعداد الذي أبداه للشاب في بداية اللقاء . أظهر الشاب عدم الاكتراث بالأمر، و بقي في ضيافة العصابة أياما يتقرب من كل فرد فرد فيها ، و ركز على بعض الخرقى، كان يجالسهم و يحادثهم عن أهلهم و قبائلهم و يدس في كلامه سؤالا بطريقة أو بأخرى مفاده ، أنه كيف لهذه العصابة قد سمحت لشخص يقودها في مثل ولد عيشة المنحدر من قبيلة " بني نياط " الوضيعة، و العصابة فيها من هو أجدر منه بأمر الرياسة . غادر الشاب العصابة و ترك السؤال يتحول إلى بذرة نمت على مهل ، أثارت النعرة بين القوم. و مع المدة تصدعت العصابة ،و تكونت فيها أحلاف انبنت على العصبية القبلية، اقتتلت في يوم مشهود وصلت أصداءه إلى الناس . فمات من مات و جرح من جرح . و انتهت حكاية ولد عيشة الذي قتله " اعبيدة " أخرق و أضعف أفراد عصابته .