خلال السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات كانت لمهنة التدريس الجامعي مكانة عالية، و كان الأستاذ الباحث وقتها يحتل مراتب متقدمة على كافة المستويات. ثم أخذت هذه المرتبة في التدني المستمر حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن. حيث انتزعت من التعليم العالي مكانته المستحقة وسلبت من الأستاذ الجامعي كثيرا من مستحقاته المادية و المعنوية حتى أصبح وضعه الحالي غير منسجم مع المقام الذي يليق به. و لقد اتخذ لذلك ذرائع قد تكون من أهمها أو أشدها ساعات عمل الأستاذ الجامعي. و أشير إلى أن لمهنة الأستاذ الباحث خصوصيات متعلقة بمسيرة و طبيعة تكوينه من جهة وبطبيعة عمله من جهة أخرى، وحقيقة ساعات عمله هي إحدى هذه الخصوصيات؛ فالذي يبدو وكأنه ساعات عمل الأستاذ الباحث ليس إلا ساعات إلقاء الدروس و المحاضرات. و لمزيد من التوضيح، فساعات الإلقاء يسبقها إعداد و تحضير يأخذ من وقت و جهد الأستاذ الكثير نظرا لكون التعليم العالي يعتمد بالدرجة الأولى على الإعداد الشخصي الذي يتطلب استقاء المعلومات من مصادر مختلفة و ما يستلزمه ذلك من ترجمة و تنقيح و تبسيط مضامين إلى غير ذلك؛ دون أن نغفل ما يتطلبه التدريس بالتعليم العالي من تجديد مستمر و مواكبة مستجدات الأبحاث و التطورات و الاكتشافات. هذا فيما يتعلق ببعض جوانب تحضير الدروس أما فيما يتعلق بإلقائها فإن ذلك يتطلب إلماما و فهما عميقا لما سيلقيه الأستاذ على الطلبة بأسلوب مكلف ومشقة ذهنية تزداد مع ازدياد عدد الطلبة في المدرجات كما تختلف حدتها كذلك من تخصص لآخر. و لكي يقوم الأستاذ بهذا العمل على الوجه المطلوب فإن ذلك يأخذ منه جهدا ووقتا كثيرا. فهذا العمل ليس مقيدا بزمان و لا مكان ؛ فالأستاذ يعمل داخل الكلية وخارجها خاصة ببيته، ويعمل كذلك أثناء العطل و خارج الأوقات المعهودة في وظائف أخرى. كما أن هذا العمل القيم كما و كيفا منوط بقدرات و كفاءات علمية اكتسبها الأستاذ الباحث عبر سنوات طوال كرسها للبحث و للدراسات العليا حصل على إثرها عل شواهده العليا التي خولت له العمل بالتدريس الجامعي. إنه إذا لمن الإجحاف أن نعتبر الساعات الخاصة بإلقاء الدروس و المحاضرات هي كل ما يقوم به الأستاذ الباحث من عمل. فهذا التقييم الخاطئ و غير الموضوعي لساعات عمل الأستاذ الجامعي انطلى على كثير من فآت المجتمع نظرا لعدم إحاطتهم بواقع و بطبيعة عمل الأستاذ الجامعي و الكثير من تفاصيله، مما ترتب عنه استنتاجات خاطئة بل جائرة في حق الأستاذ الباحث، حيث اعتقد أنه لا يستحق ما يطالب به، كما أنه استعمل كوسيلة من أجل استساغة أن يسلب منه المستوى المادي و الاجتماعي اللذين يستحقهما و إبعاده عنهما تدريجيا و كذلك من أجل تثبيط الأساتذة الباحثين عن المطالبة بما سلب منهم و القبول بهذه الحال التي لا تزداد إلا ترديا. فالترويج، عن قصد أو عن غير قصد، بأن الأستاذ الجامعي لا يعمل إلا ساعات معدودة طيلة السنة الجامعية، لا يعدو أن يكون نظرة سطحية للغاية متجاهلة طبيعة التدريس الجامعي. لذلك فإنه من الضروري إنصاف الأستاذ الباحث تقديرا لما تتطلبه مهنته من جهد ووقت و تقديرا لشواهده العليا ولمستواه العلمي و المعرفي وكذلك تقديرا لمجهوداته في سبيل تشكيل القاعدة المعرفية للمجتمع حيث أنه أستاذ الطبيب والقاضي والمهندس ... فكل الأطر العليا و المثقفة مرت بالتعليم العالي و حصلت منه على شواهدها التي خولت لها مزاولة مهنها. فإنصاف الأستاذ الجامعي يكون بالتعامل معه بما يستحقه من مكانة مرموقة، و ذلك بالعمل على توفير جميع الشروط المادية و المعنوية اللائقة به حتى تتسنى الاستفادة من هذه النخبة بطريقة أفضل تكون لها انعكاسات إيجابية على تكوين الأطر و بالتالي على المجتمع و البلاد بصفة عامة. د.إدريس صالح أستاذ التعليم العالي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله عضو اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي