إزالة الإكراهات الخارجة عن مسؤولية المدرسة، ورصد الموارد اللازمة لتحقيق الجودة المطلوبة، يعدان المدخلين الأخيرين من المداخل الخمس، التي وردت في تقرير المجلس الأعلى للتعليم، كمداخل سحرية من أجل إنجاح" مدرسة للجميع". لقد حاولت فتح نقاش حول هذه المداخل مع قراء وجدة نيوز، إلا أن النتائج كانت هزيلة، كهزالة مختلف اللقاءات التي تعقد هذه الأيام على جميع المستويات، وكان ذلك متوقعا ومنتظرا، ذلك أن بعد زوال هول الصدمة التي خلفته مختلف التقارير الدولية والوطنية، التي كشفت عورة الواقع التربوي المغربي المزري، لم يعد التعليم في صدر اهتمامات المجتمع، وبالتالي تراجع الاهتمام بمصير المدرسة العمومية، وفوض الآباء والأولياء للمخزن حرية تدبير أزمة القطاع بمعرفته، كما أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع في ظل ارتفاع لهيب الأسعار، التي تعمل الحكومة الموقرة على النفخ في جمرها، تحت مبرر ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية في السوق العالمية، أثرت على" التوجهات"، وزاد من خيبة الأمل، فشل الحوار الاجتماعي وضعف الزيادات المقترحة، وانتشار ظاهرة التحرش الجنسي بالتلميذات في المؤسسات التربوية، عوامل دفعت المواطنين إلى" غسل أيديهم" من التعليم وأهله. لقد سئم الناس من تفريخ الإصلاحات الفاشلة، واستمرار سياسة التسويف والتبشير بالمستقبل الزاهر والوعود العرقوبية، وانشغلوا بتدبير شؤون قفتهم اليومية، ورحلوا إشكالية تعليم أبنائهم إلى ما بعد إشباعهم، وتوفير الخبز ولشاي لهم، وملئ بطونهم الفارغة، تمشيا مع المثل الشعبي" عندما تشبع الكرش تقول للرأس اقرأ، عفوا غني". ونحن الذين ما فتئنا نطالب بضرورة ضمان الأمن الغذائي، وكنا نقول بأعلى أصواتنا إن الشعب الذي يتغذى من الخارج، فاقد لاستقلاله .لقد أصبح الشغل الشاغل للمواطن المغربي هو ضمان الوقت اليومي للأسرة، أما التفكير في تعليم الأبناء فقد أصبح" لوكسا" أو كاد... لقد لاحظ تقرير المجلس الموقر، أن المدرسة تعاني من معوقات تحول دون تحقيق مردودية جيدة، ولا تساعد على اضطلاع المدرسة بمهمتها على الوجه الأمثل، التي هي أولا وقبل كل شيء المصنع الذي يعدّ الأجيال للمستقبل، ومؤسسة للتنشئة الاجتماعية، ترتبط بنيويا ووظيفيا بالمحيط السوسيو- ثقافي العام للمدرسة، أي هناك علاقة جدلية بين المدرسة والمجتمع، حيث تعمل المدرسة على تربية وتنشئة المتعلمين وفق المعارف والإيديولوجيات والقيم التي يحددها المجتمع في فلسفته واختياراته التربوية، إلا أن هذه الغايات والتوجهات القاعدية تم التشويش عليها، وضاعت الأهداف التربوية... لقد لخص تقرير المجلس الأعلى للتعليم إكراهات المدرسة العمومية في ثلاثة محاور: 1-حالة البنايات 2- المشاكل الاجتماعية للتلاميذ 3-السلوكات اللامدنية، وهي إكراهات خارجة عن مسؤوليات المدرسة. 1-حالة البنايات التعليمية: الكل يعلم أن أهم المؤسسات التعليمية موروثة عن الحقبة الاستعمارية، وأنها تجاوزت عمرها الافتراضي، ولم تعد صالحة حتى لإيواء الحيوانات، فبالأحرى البشر، ورغم ذلك، لا يمكن أن ننكر أن الدولة بذلت مجهودات جبارة، وعملت على بناء العديد من المؤسسات التعليمية، إلا أن هذا البناء لم يواكب النمو الديموغرافي للمجتمع المغربي، ولا يلبي الحاجيات الموضوعية لارتفاع الوافدين على المدارس، كما ساهم التخطيط السيئ والارتجالي والمسيس في ضياع أموال طائلة من خلال بناء مؤسسات تعليمية، خاصة في القرى والبوادي سرعان ما أصبحت خاوية على عروشها، بعد أن أرغم الجفاف، السكان على الهجرة القروية... إن المجلس الأعلى لم يأت بجديد في الموضوع، ذلك أن تقارير الزيارات التفقدية للمؤسسات التعليمية، وعددها185 زيارة تفقدية، المنجزة من طرف لجان تنسيق التفتيش الجهوي خلال الموسم الدراسي 2006-2005، والتي شملت 181 زيارة للمؤسسات التعليمية، زيارة واحدة، لمركز من مراكز تكوين الأطر، زيارتين لمصلحتين نيابيتين، زيارة لمصلحة بأكاديمية جهوية، أبانت عن نقص في عدد الحجرات والتجهيزات الضرورية لاستقبال أعداد التلاميذ ببعض المؤسسات؛افتقار بعض المؤسسات التعليمية إلى المرافق الأساسية، كالقاعات المختصة، والمختبرات والمكتبات، والملاعب الرياضية، تصدع البنايات المدرسية وبنايات الأقسام الداخلية والمطاعم المدرسية وتلاشي تجهيزاتها ونقص في نظافة فضاءاتها،حاجة بعض المؤسسات التعليمية إلى الترميم والصيانة وتجديد أثاثها المدرسي، نقص واضح في تجهيز المختبرات العلمية والتقنية، بالمعينات الديداكتكية، وعدم اقتناء الوسائل التعليمية الضرورية لمواكبة المقررات الجديدة، الاكتظاظ بالأقسام الداخلية، وتجاوز أعداد التلاميذ المستفيدين من خدماتها للطاقة الاستيعابية لمعظم الداخليات... هذه معطيات رسمية ، تدلل على أن أزمة البنايات والمؤسسات التعليمية كانت معروفة، وهذا ما يفسر سياسة الدم البارد التي قابل بها السيد الوزير الأول تقرير البنك الدولي.. إن هذا الجزء من المدخل لم يبتعد كثيرا عن الخطاب ، وحديث الليل الذي يمحوه النهار، علما أنه لا مفر من توفير البنايات المدرسية وتقريبها من التلاميذ، ولهذا نطالب ببرنامج مرقم، يحدد لنا عدد المؤسسات والحجر المزمع توفيرها، وتحديد خريطتها الجغرافية، وضبط غلافها الزمني، ونتمنى ألا تراهن الخطة الاستعجالية، على الحلول الترقيعية التي راهن عليها الميثاق الوطني للتربية والتكوين؛ كاللجوء إلى استئجار محلات جاهزة أو قابلة للإصلاح في قلب المدااشير والدواوير، أو الوحدات متنقلة للتربية والتكوين، كمشروع المدرسة الخيمة الفاشل في النجود العليا، أو التعويل على الشراكة مع الجماعات المحلية تتكلف بموجبها بتوفير البنايات المدرسية وصيانتها، ونحن نعلم أن المراهنة على الجماعات المحلية المنبثقة عن انتخابات مزورة ، يقودها رؤساء أميون، لا علاقة لهم لا بالتسيير ولا بالتدبير، وهمهم الوحيد استرجاع ما أنفقوه في حملاتهم الانتخابات، كما أن هزالة إمكانيات الجماعات المحلية لا تمكنها من القيام بهذه المهمة، رغم أنه من صميم مهامها كما هو قائم في الدول المتقدمة، وعلى كل حال ، فنحن لا نثق، لا بهؤلاء ولا بأولئك، الذين كانوا بالأمس القريب ، يبيعون المؤسسات التعليمية، واليوم يريدون بناءها، فسبحان مبدل الأحوال!. 2- المشاكل الاجتماعية للتلاميذ: يعاني المغرب من مشاكل اجتماعية، كالفقر والأمية، وانتشار السكن غير اللائق بسبب الهجرة القروية وانعدام التغطية الصحية الشاملة ، وتشتت الأسرة وتناول المخدرات والانحراف والتشرد.. هذه المشاكل الاجتماعية ظهرت تجلياتها داخل الحرم المدرسي، وأثرت على الجو الدراسي، بحيث حمل التلاميذ مشاكلهم العائلية في محافظهم إلى الفضاءات المدرسية، مما طرح على مدرسة تقليدية منكوبة تحديات كبرى لم تكن مستعدة للتعامل معها، كالتفاوت الطبقي الفاحش، واختلاف المستويات الاقتصادية والثقافية للأسر، والعلاقات الأسرية المفككة، وأسلوب التربية الخاطئ لمعظم التلاميذ... من مسؤولية المدرسة الاهتمام بالجوانب الاجتماعية والمادية للتلاميذ، ومساعدتهم للتغلب عليها بهدف استمرار تحصيلهم العلمي، وتسخير كافة إمكانياتها لتوفير الجو الدراسي الملائم لهم، لتمكينهم من تقديم أفضل أداء خلال دراستهم... ولا أظن أن مدرستنا العمومية بمواصفاتها الحالية قادرة على ربح هذا الرهان، وأتمنى من أعماق قلبي، أن يكون استنتاجي خاطئا. 3-السلوكات اللامدنية: المدرسة أداة بناء ووسيلة تنقيح وتوجيه، تعمل على حذف وتصحيح الأخطاء والانحرافات التي يكتسبها الطفل من محيط الأسرة والمجتمع، واكتشاف التوجهات والميول الخيرة في الطفل لتنميتها وتقوية جذورها في نفسه، وتزويده بالمعارف والعلوم الثقافية، وتدريبه على أسلوب الحياة والسلوك الإنساني السوي، ليكون عضواً نافعاً في مجتمعه، وقادراً على تحمل مسؤوليات الحياة، إلا أننا نلاحظ شبه غياب لروح المواطنة المسؤولة وتخريب المؤسسات، والكتابة في الجدران، وإتلاف أدواتها ومرافقها الصحيةوانتشار ظاهرة الغش التي أصبحت حقا مكتسبا، وأصبحت مؤسساتنا التربوية ساحة للصراعات والسب والشتم والعنف بين مختلف مكوناتها، وطرد التلاميذ وإخراجهم من الأقسام لأتفه الأسباب، واستعانة بعض الإداريين بالشرطة لمعالجة مشاكل تربوية بسيطة، خارقة حرمة المؤسسات التربوية، وهكذا خيمت ثقافة الاحتجاج لدى الجميع. فلا التلاميذ راضون عن معاملة مدرسيهم لهم، ولا المدرسون متفهمون للظروف الاجتماعية والوجدانية التي تتحكم في سلوكات المتعلمين، بسبب انشغالهم بمشاكلهم الذاتية... لقد كنا نعاني من عدوان المحيط على المؤسسات التعليمية، إلا أننا اليوم نعاني من العدوان والتدمير الذاتيين... وهكذا تخصصت مدرستنا العمومية، شفهيا، في رفع مختلف الشعارات الإنسانية النبيلة، والشعارات الثورية التاريخية، كالديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص... وتمارس عمليا مختلف الممارسات السادية، التي يندى لها الجبين، كالتحرش الجنسي، والعقاب البدني، وشتم وإهانة التلاميذ، والتمييز بينهم في المعاملة والتنقيط، حسب انخراطهم في الدروس الخصوصية أم لا... فبالله عليكم، كيف يمكن للمدرسة أن ترسخ السلوكات المدنية وهي تمارس سلوكات لا مدنية.إن الحديث عن قطاع التعليم أصبح يدمي القلب ويحزنه، بسبب ممارسة أهله، ومهما كانت صراعاتنا التاريخية مع المخزن، ورغم نظرة المجتمع غير الإيجابية لرجال ونساء التعليم، بسبب ممارسات" بعض" أبناء جلدتنا المشينة واللاأخلاقية، فلا يجب أن ننتقم من مدرستنا العمومية وروادها سواء عن قصد أو غير قصد، لأن الأمر يتعلق بالوطن والمواطنين... أما رصد الموارد اللازمة لتحقيق الجودة المطلوبة، فهذا الخيار ممكن، وفي متناولنا، خاصة أن بلدنا غني، ويملك الإمكانيات المادية والمعنوية، والدليل على ذلك أن كل مكاتب الدراسات العالمية تشتغل لحساب الحكومة المغربية، وتؤدى أجورها بالعملة الصعبة، مقابل الأطنان من الأوراق، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، دون الحديث عن التكلفة المالية الباهظة لأحلام اليقظة، كمغامرة احتضان كأس العالم، ومعرض طنجة، ومهرجانات السهول والجبال والهضاب... فلو استثمرت هذه الأموال الطائلة في ميدان التعليم أو أي قطاع منتج آخر، لحلت الكثير من المشاكل... وعلى كل حال، نتمنى أن يفي السيد نزار بركة وزير الشؤون العامة للحكومة بوعده، وتشد حكومتنا الموقرة حزامها، وتطبق سياسة تقشفية صارمة في مصاريفها لتوفير التكلفة الباهظة لمصاريف الحوار الاجتماعي، وإن كنا لحد الآن لم نر فلسا أحمر، وأخشى أن ينطبق علينا المثل الشائع" أسمع عجيجاً ولا أرى طحيناً"( جعجعة ولا أرى طحينا).