أنا أدرك كما يدرك غيري تماماً، بأن الذي صنع الآلة، هو القادر على إصلاحها أو تعديلٍ ما على بعض أجزائها، ولا يستطيع أحد سواه أن يصلحها، وإن حاول زاد في عطبها، ويكون تعبه وجهده زيادة. حكام وقادة العالم العربي، وعلى أطياف دولهم، الملكية والقومية، الجمهورية والديكتاتورية، اليمينية منها واليسارية، ومنذ نظرية (سايكس بيكو 1916)، هم ولا جدال صناعة غربية استعمارية، أوجدها الاستعمار لخدمته وتسيير مصالحه، (سايكس بيكو) هي التي قُسم خلالها العالم العربي، على قواعد واهية، وأسس ضعيفة، وصُمم على اقتصادات مهترئة، وقواعد سياسية، ذات طوابع علمانية، وقاموا إلى تسليمها لحكام لا يستطيعون نصراً ولا تبديلاً، وألبسوا كل واحد منهم نظارة حسب مقياس نظره، يرى الحاكم شعبه من خلالها، في أحسن حال، حيث تبدل هذه النظارة حسب الحاجة، ومن هنا اعتبرت الاتفاقية هذه بالفعل، نظرية (سايكس بيكو) وليس اتفاقية (سايكس بيكو)، وهي نظرية من نظريات عديدة أخرى، من تفانين الغرب، أعدها لتكون خاضعة للبحث والتفكر في كل الوقت، ومن ثم تثبيت بعضها، ودحض شيئاً منها، وإجراء الترميمات على البعض الآخر وهكذا، وهذا ما نراه حاصلاً، في كل مرة وعند كل متغير، يحصل في أي قطر من الأقطار العربية، بملاحظة الفروق البسيطة هنا وهناك، نظراً لمتغيرات بيئية وثقافية، ولدرجة فاعليتها وأهميتها واهتمام الدول المحيطة بها، والبعيدة عنها، بعد خوضها العديد من التجارب والفحوصات لأي أشكال الاستعمار أفضلها له وأيسرها عليه، ومما يثبت أن اتفاقية (ساكس بيكو) أنها نظرية، هو أنها لم يُلتزم بها، فجاءت اتفاقية (سان ريمو عام 1920) لترسم الحدود المعلومة في الوقت الحاضر، وبها اعتمدت فكرة تخلّي الدول الاستعمارية القديمة، عن صور وأشكال الاستعمار القديم، لما فيه من الكثير من المشكلات والتكاليف الباهظة التي تنتج عنه، من حيث عدم تقبله بأية حال، ومهام الأمن المتعسّر، وجلب الأعداء، والأهم من ذلك، تجنب الدول الاستعمارية ذاتها، الصدامات والاختلافات، بحيث تُفقد الثروات وتضيع لذة الاستعمار، فلجأوا إلى استعمار جديد، ألطف من الاستعمار القديم ظاهراً، لكنه أشد وأدهي باطناً، وتم تمريره على الشعوب العربية الضعيفة اليائسة، والمغلوب على أمرها في الأصل- طواعيةً- بعد أن أُلبست (الغما)، من قِيل حكامها، بحيث لا تستطيع أن تنظر إلاّ أمامها طلباً للعيش فقط. تماماً كما تم تقسيم العالم العربي من قبل الدول الغربية الاستعمارية، فقد تم إنشاء دولة إسرائيل بأيادٍ غربية أوروبية، مع ملاحظة الفروق الهائلة، إذا ما تطرقنا إلى الجانب المقارن، الذي ليس بالوسع الحديث عنه في هذا السياق، ولكن للأهمية نذكر أن الدول الغربية الأوروبية قامت إلى إنشاء دولة (إسرائيل)، وهي تعلم أهمية القيم الدينية، التي ستقوم عليها (الدولة الإسرائيلية)، نظراً لارتباطها بمسألة المسيح المنتظر، التي ارتكزت عليها قواعد الدولة (الإسرائيلية)، منذ إنشاءها. إذاً فإن(إسرائيل) أقيمت على قواعد دينية، ولم تقم على أساس اقتصادي أو اجتماعي، بدليل أن اليهود كانوا من الأغنياء في كل بلد حلّوا فيه، إذا كان البلد غنياً أو فقيراً، أي لم يكونوا في حاجة للأموال والعتاد، كان المال عندهم لغاية، وليس هدفاً البتة، وكما نعلم ويعلم الجميع أن الجماعات اليهودية، منذ الأزل كانت تقوم بجمع الذهب والفضة وغيرها، ليس لكنزها أو للزينة، بل لحكم العالم، وبسط الهيمنة والنفوذ وإخضاع الشعوب لإمرتهم، فهذه من غرائزهم التي جبلوا عليها. يمكن لأي أحدٍ منا، النظر إلى جملة برامج الأحزاب الإسرائيلية، الدينية والعلمانية، الشرقيةوالغربية، اليسارية واليمينية، يجدها بادئ الأمر، تعتمد الدين اعتماداً كلياً، في برامجها الانتخابية، ثم تأتي بقية الأشياء الدنيوية. على العكس تماماً، فالعالم العربي الذي قام على أساس قطري علماني، ليس للدين فيه مكان وهنا فارق مهم، هو أن الذي يقوم على عقيدة، يؤمن بها ويدافع عنها، وبين الذي يقوم على نظريات مختلفة ومتعددة النوايا والأهداف. اختزلت فيها كل معاني الحياة في قضايا الصراعات المتزايدة، عاماً بعد عام من أجل لقمة العيش وتحسن سبل الحياة. وكان الحاصل أنه بقدر ما يتمسك اليهود بالدين أكثر لأجل الحفاظ على الدولة، بقدر ما يبتعد العرب عن الدين أكثر وأكثر، بل إن الحكام العرب، - إلاّ من رحم- لا يطيقون مجرد سماع كلمة دين أو ملة أو مذهب، كان الرئيس التونسي، يحث العاملين في المصانع العامة وقطاعات الدولة، بالإفطار في رمضان، لعلة أن الصيام له تأثير سلبي على عجلة الاقتصاد، وكان مبارك حسب مصادر غربية وعربية، يكره الدين بالجملة، والقذافي هو من ناحية الدين كل يوم هو في شأن، في خضم المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، كان المفاوضون الإسرائيليون، إذا ما حانت ساعة السبت، وحلّت حرمته، يُحظر كل شيء غير ديني، وتتوقف المفاوضات، حتى انتهاء الحظر الديني المفروض، وينتظر المفاوض الفلسطيني على الطاولة إلى أجلٍ غير مسمى. عشرون عاماً من المفاوضات، المفاوضون اليهود يؤدون طقوسهم الدينية، وصلواتهم التوراتية، ونحن ننتظر أن يعودوا إلى الطاولة. ذات مرة وفي الزمن البعيد، ذهبت إلى(إسرائيل) وبالتحديد لمنطقة (رعنانا) وهي قريبة من المثلث العربي داخل ما يسمونه بالخط الأخضر، بغية شراء، بعض الأشياء، التي لم تكن موجودة في القطاع، وكان من سوء حظي أن جئت متأخراُ بشيء قليل من الزمن، فأبي اليهودي البيع، بحجة دخول السبت، فعجبت وقلت له: هاهي الأشياء بجانبك وهاهو ثمنها، فنظر فقال، أليس عندكم في الدين، أن نقطة ماء واحدة، تفسد صيام رمضان؟ فاستغربت وعجبت واضطررت يومها للمبيت في مدينة قلقيلية، والمكوث فيها إلى ليل اليوم التالي! التنافس على المناصب سواء كانت الحزبية والوزارية أو الرئاسية - الشرفيّة- في الدولة اليهودية، ليست لأجل الفوز فيها كونها مناصب، وكونها كراسي، ومن ثم استعمالها في الفساد والإفساد، إنما هي تنافسات على تنفيذ سياسات وتكريس برامج، دينية ودنيوية تصب في نهاية الأمر لصالح كيان الدولة بالكلية، لا لصالح فرد أو نظام حاكم, مع ملاحظة عدم النظر إلى بعض الأخطاء التي تكون هنا وهناك، مع أني لا أؤمن بأغلبها، لعلة أنها تأتي في سياق الألاعيب الصهيونية، لحاجة من حوائجها، سياسية كانت أو اقتصادية. لا شك بأن كثيرين لديهم علم، بأن ليس من السهل فهم السياسة العربية، والواقع السياسي العربي لعلة أن فيهما الكثير، مما شابها من المختلطات، التي تفرضها الحاجات الآنيّة للدول الغربية المستعمرة. نفهم ذلك من خلال التضليل الممنهج، المقصود وغير المقصود، على أنها عبارة عن تركيبات من عدة (سياسات مُلقنة) مزجت مع بعضها بعناية بحيث يتمكن الغرب من الغذاء الجيد، ويستطيع العرب أن ينظفوا أسنانه، وذلك بعد أن تم تسخير الشعوب والاستمرار في استعبادها. مع احترامي لثورات الشعوب العربية، لننظر إليها ولنطيل النظر مرة أخرى، ونتأمل حالة الربيع العربي، كما أطلق عليه العالم، وخصوصاً ( العالم الاستعماري العربي)، والتي بدأت في تونس، ولنساءل أنفسنا، لماذا قامت الثورة وفي هذا التوقيت بالذات؟ وإلى أين اتجهت؟ وإلى أي المحطات وصلت؟ مع ملاحظة أن هناك فترة اقتربت من العام، مضى عليها، وهي فترة ليست قليلة، وما هي وكم من الانجازات التي أنجزت خلال تلك الفترة ؟ وما سبب كل الاضطرابات والمناكفات، من قبل كافة الأطياف السياسية والحقوقية داخل البلاد؟ بل إنني أخشى أن يكون ربيعاً مختلفاً عن الربيع الذي نعرف، كأن نرى أزهاراً تفتحت بغير أوراق، فكيف سيكون طعم الثمار؟ كذلك الحال، الثورة المصرية، ولنسمح لأنفسنا بالقفز، بغية الوصول للحالة السورية، وليس من الآن، بل منذ مسألة عبد الحليم خدام، الذي انشق عن النظام السوري وانتقل على الفور إلى الدول الغربية مع أن ميول النظام السوري في الأساس هي ميول شرقية وكان من الأولى أن يجعل وجهته روسيا مثلاً إذا كان يحمل مقاصد سليمة. لقد كان أحد أركان النظام سواء في الإصلاح أو الإفساد، ولكن لا يضر الدول الغربية، فيما إذا كان خدام نظيفاً أو عكس ذلك، المهم في الأمر أنه انشق عن الأسد، ومن جهة أخرى، قِبل الوصاية الغربية، لقد كانت سوريا (النظام السوري) عند الكثيرين تمثل آخر قلاع القوميين العرب، ولدى آخرين يمثل النظام السلطوي، نظام الحزب الواحد، الذي عمل على استعباد الشعب السوري، وساهم في تأخير نهضته لأجيال طويلة، وجعله يرزح تحت نير الاستعباد والقهر الفكري، وكأن الدول العربية قد غدت مثل نظيراتها الغربيات، تتمتع بكل الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي، حتى تكون سوريا، قد تخلفت بفعل فاعل وهو النظام السوري عن الحضارة والتقدم، قبل أن نقع وفي كل مرة، كان يجب علينا الوقوف والتأمل والتحليل والتقييم، لكل الأحداث ولا أقتصرها هنا في فترة الربيع العربي فقط، بل إلى الفترة التي سبقت هذه الربيع كذلك، فقد كان هناك الكثير من التضليلات الغربية والأساليب السياسية التابعة لها، التي كان يتوجب على العرب قادةً وشعوباً، المضي إلى كشف حقيقتها، كي يتسنى لهم كقادة وكشعوب التحرر تماماً، من التبعية الغربية، ونكون قادرين على الاحتفاظ بحريتنا دون أن يتسلط علينا استعمار جديد واستعباد جديد، كما حصل بعد تحررنا في السابق من الاستعمار الغربي بالشكل القديم. هناك عدة ظواهر سلبية في مجتمعاتنا تعرقل وصولنا إلى مستوى من الوعي الكافي. من أهم هذه الظواهر التي تجعلنا في هذه المواقف، هو أننا قادة وشعوباً، لا نريد كتشف زيف الأكاذيب، نغطي عليها ونسترها، ذلك لأننا مرتبطين بأجندات غربية، لا طاقة لنا للخلاص منها. كل الأمور التي تنتج عن السياسات الأمريكيةوالغربية، تبدو واضحة وضوح الشمس، فلماذا إلى الآن لم يكتشف غالبية الشعوب العربية زيف هذه السياسات؟ لماذا مثلاً لم تعامل الولاياتالأمريكية الثورات العربية في مختلف الدول العربية بميزان واحد، التعاملات الغربية كانت مختلفة تماماً، من بلد عربي إلى بلدٍ عربيٍ آخر، تونس على غير مصر، والبحرين على خلاف ليبيا، وسوريا على خلاف اليمن وهكذا ونحن كالنعام وأضل سبيلا. لم نكتف بعدوٍ واحد، ولم نتخلص منه بعد، وخُيل إلينا، وكذبوا علينا وكذبنا على أنفسنا، حتى صدقناهم وأنفسنا، بل استطربنا هذا العدو، وتناسينا الذي لا ينسى، وجعلنا صانع الآلة لأن يصنع لنا عدواً آخر، وكان أشد وأطلقوا عليه(الخطر الإيراني الجديد) بعدما قتلوا الآلاف ومئات الآلاف من عامة العرب والمسلمين. ماذا حصل للعراق، للشعب العراقي بعد ثماني سنوات طوال من الغزو الأمريكي؟ ديموقرطية، حرية، حقوق إنسان متساوية، عدالة، اقتصاد جيد، حكومة مستقرة، سياسات مدروسة ومتزنة، أم القتل، الحرق، والنفي والتهجير والتشريد والضياع, وهتك الأعراض، وفساد وإفساد، واستعباد من جديد، حالة السودان، والانقسام الذي حصل به لم يكن بمجموعه، رغبةً لسكان الجنوب بقدر ما كان مرتبطاً برغبات غربية وأمريكية، مرتبطة بمفاهيم وأفكار (سايكس بيكو). نحن كشعوب في الشرق، تقودنا العاطفة المفرطة والانجرار بقوة خلف الأوهام دون معرفة حقيقتها، أي كلٌ وما جبل عليه، إما أسود وإمّا أبيض، بمعنى فتح أو حماس، مع الثورة أو ضد الثورة، وهكذا ليس هناك شيء اسمه رمادي، مساحة مهمة، يتمكن الإنسان إعمال العقل فيها، ومن ثم العمل من خلالها، وهكذا قادتنا وزعماءنا من ملوك ورؤساء وولاة أمورنا، لكن بزيادة شيء واحد، اسمه الخط أحمر، الذي تقع عند حدوده الويلات، والمصيبات الداهيات، فكيف بالذي يتجاوزه. منذ القدم كان فرعون البلاد يستمد حكمه من الإله، وأنه ينفذ التعاليم الإلهية وهو عبارة عن واسطة بين الإله وبين الشعب، لإرشادهم نحو إدارة حياتهم، وتقويم آدابهم المتواصل وتصويب سلوكهم في خدمة الفرعون والإذعان له، واليوم والحال على هذه الشاكلة، فإننا لسنا بعيدين كثيراً عن مثل ذلك الاعتقاد، خاصةً وأن الحكام العرب، يستمدون حكمهم من الغرب وخاصةً الولاياتالمتحدة، وهم بلا شك واسطة بيننا كشعوب عربية شرقية، وبين ما تريد الولاياتالأمريكية. هل التبست علينا الأمور، حتى لا تدري الصواب من الخطأ، أم أُلقي علينا فإذا نحن على الدوام ساجدين، نحن نعادي من لا نريد أن نعاديه، ونسالم من لا نريد مسالمته، أن لست مع أحد ولا أمثل إلاّ نفسي، ولكن أحب أن أكون موضوعياً وأتحدث بموضوعية، وكذلك أؤمن بالمأثور من القول ( أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغربي). التصريحات الإيرانية، وإن كانت مجردة من التطبيق، والتي تهدد إسرائيل بمحوها من الوجود، وكل من مواقف حزب الله وموقف أردوغان ومواقف أخرى في دول مختلفة، لصالح الدول العربية والقضية الفلسطينية، لكننا لم نعرها الاهتمام أبداً، وإن بدا شيئاً من ذلك كان فمرور الكرام. لابد من أخذ الدرس والاعتبار بدروس التاريخ: فإن الذي لا يتعلم من تاريخه، فلن يسعفه مستقبله، وإن عدم اعتبارنا عند قراءة التاريخ والاعتبار به فكأننا لا نعرف التاريخ أبداً. لقد كشفت وثائق ويكيليكس في الفترة الأخيرة، أموراً ليست مجهولة، على الأقل عندما التكلم بالأمور العامة، كشفت أموراً كنا دائما ندركها ونشعر بها، لكنها جاءت لتقولها بشفافية لا تقبل تأويلات الماضي، ولا تنكر تحولات الحاضر، جاءت وثائق ويكيليكس بمثابة وخزة في الجنب العربي علّه يصحو من الغفلة، ويفيق من السكرة، خشية ألاّ نكون تحت أمرٍ قد قُدر، ونصبح رهينة دوّارة، للغرب وقادة الغرب، ننصاع لرغباتهم، ونقدس ما تذخر به أجنداتهم، في ظلال( سايكس بيكو) جديدة.