"يسقط الملك... يحيا الملك" هذا عنوان الفصل الأخير من السيرة الذاتية من أدب السجون للكاتب محمد مصدق بنخضرا المغربي الجنسية الدمشقي المنشأ. حيث جمع فيه معاناة الثماني سنوات في السجون المغربية بين دفتي كتاب عنونه ب " تزمامارت 234 ". وظهر هذا الكتاب إلى الوجود حديثا نتيجة الحَراك الذي تعيشه المنطقة العربية من خليجها إلى أقصى مغربها، وخصوصا كرد فعل على بعض التجاوزات التي لا يزال المغرب يذوق مرارتها رغم ادعاء القطيعة مع سنوات الرصاص من النظام السالف. وتزمامارت كما يقول صاحب الكتاب انه اسم مركب من " تزمامارت " و " تمارة ". إذ إن تركيب هذا الاسم يرجى منه التنبيه إلى الاستمرارية في منطق سنوات الرصاص، فالمعتقل السري " تزمامارت" عرف بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من تقتيل وتعذيب مورس في حق المواطنين المعارضين لنظام الحكم (حكم الملك الراحل الحسن الثاني) أو المشكوك في أمرهم. الشيء الذي جعل للمغرب صفحة سوداء في تاريخه السياسي والإنساني. وكانت تلك السنوات وصمة عار في جبين المغرب العريق. "يقول المغاربة : ما دمت في المغرب فلا تستغرب... يمكنك أن تكون صاحب قضية كبيرة فلا يلتفت إليك احد. كما يمكن أن تقضي عمرا وراء القضبان لأتفه الأسباب... !!" بهذه الكلمات يرسم بنخضرا معالم الاعتقال والتقلب بين الأغلال معصوب العينين من حارس إلى حارس... ومن سجن إلى سجن آخر... ومن جلاد إلى آخر... وهذا المسؤول كبير وكلمته حاسمة عندما يقول أن سجينا سيخرج قريبا... وتمر بين الكلمة ومسؤول آخر جديد سنوات عجاف، يبدد فيها الأمل ويأتنس الألم بين جنبات السرير حين لا يقوى بنخضرا نتيجة للتعذيب الشديد على التحرك... ويزحف إذا ما أراد أن يقضي حاجته بالمرحاض المجاور لسرير نومه... لينتهي به المقام بمعتقل تمارة محطته الأخيرة من مسلسل التعذيب، وكان أول سجين يرد زنازين هذا المعتقل. أثار كتاب بنخضرا تساؤلات عميقة حول حقيقة وجود معتقل تمارة كما ادعت حركة 20 فبراير الاحتجاجية. فهذه الحركة دعت منذ ظهورها إلى إطلاق المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي، الإسلاميين منهم ومن كان له رأي حول نظام الحكم. وبعد انتشار موسع لبعض الفيديوهات التي برز فيها المعتقل الإسلامي "بوشتى الشارف" وآخرون من داخل السجون المغربية يصرخون بكل ألم وأمل في وجه المجتمع الحقوقي والرأي العام حول ما تعرضوا له داخل معتقل تمارة بنفس الأساليب والوسائل المستعملة في سنوات الرصاص... قررت الحركة الاحتجاجية في إحدى مسيراتها بالرباط أن تنظم نزهة أمام المعتقل السري المزعوم في شهر ماي المنصرم استنكارا على ما يحدث... فما كان من السلطات المغربية إلا أن حالت دون وصول المحتجين بشكل عنيف، لتنفي بعد ذلك في وسائل الإعلام وجود المعتقل، معتبرة إياه مجرد مديرية عامة لمراقبة التراب الوطني. مما حذا ببنخضرا إلى تأكيد ادعاءات حركة 20 فبراير وتأكيد حقيقة المعتقل كما جاء في كتابه برسم توضيحي لتصميمه الداخلي (الرسم ص 16 )، وباعتبار صاحب الكتاب أول سجين يدخل المعتقل بتاريخ 27 رمضان 1986 ويعرف متاريسه وأسواره ورائحته، وحتى أصوات جلاديه. ما يجمع بنخضرا مع حركة 20 فبراير أنهم يتحدون ضد الظلم ويستنكرون استمرار الاعتقالات التعسفية والتعذيب في حق المواطنين ذوي الرأي المعارض. خصوصا ما أضحينا نسمعه من اعتقالات بدون محاكمات تمتد لسنوات طويلة داخل السجون وبدون سبب، كالذي حصل مع بعض الإسلاميين في تفجيرات الدارالبيضاء من العام 2003 والتي لا يختلف وجه الشبه فيها عن سنوات الجمر والرصاص. ولا يزال (لحد كتابة هذه السطور) البعض منهم بين القضبان. ولا يزال جبر الضرر معلقا للذين أفرج عنهم... !! ورجوعا إلى الفصل الأخير من الكتاب "يسقط الملك... يحيا الملك " فان بنخضرا وبعد معاناة دامت لأربع سنوات من العذاب داخل السجن دون أن يلتفت إليه احد من المسؤولين، قرر أن يُقْدم على خطوة تؤول إلى احتمالين كلاهما في نظره أحسن وأيسر من أن يظل في زنزانته يقلِّب الأمل... لم يكن ساعتها يملك ما يخسر بعد الذي حل به، فكان انبعاث الفكرة بلسما ينعش خاطره... نادى الحراس في استعجال يطلب لقاء ضابط السجن... ليقول بجرأة الواثق مما سيقدم عليه: " يسقط الملك...نعم... يسقط الملك... " كانت هذه الكلمات كالصاعقة على إدارة السجن وكذلك الجهات العليا. كانت الغاية مما قام به بنخضرا كما يقول في الكتاب احتمالين؛ إما الرمي بالرصاص، وذلك ما كان يفضل، وإما أن ينعتوه بالمجنون، وهذا الاحتمال الأخير كان سينفض الغبار حسب اعتقاده عن ملفه المنسي بين غياهب المنسيين... نجحت فكرته إلى حد ما، فقد قامت الإدارة العليا بإرسال من يعذب (الجلاد) ومن يفاوض (المسؤول). كان الجلاد يضرب بكل قوته ويرغم بنخضرا على أن يقول " يحيا الملك... " نطق بها بنخضرا بعدما ظن أن العذاب سيتوقف عنه، لكن ذلك لم يجدي نفعا. فقد عذبوه لان كلماته الأولى عنت إسقاط الملك. وبعد وابل من العذاب أتى المسؤول، الأشيب الرأس المعطر بالعطر الفرنسي، يستفسر السجين عن مقصده في ما قاله في حق الملك وهل كان يعنيه ؟ ربح بنخضرا من مخاطرته بالجهر ب"إسقاط الملك" تحريك ملفه السياسي بعدما تساوى عنده الموت والحياة. ومر ما يزيد عن الثلاث سنوات، بعد كلمات المسؤول الأخير الذي بشره بالخروج قريبا ليتحرر بشكل نهائي من ظلمات السجن. لكن ما نجد في هذا المرور السريع بماضي لا يلتفت إليه إلا مقرونا بالسلاسل والرصاص، انه كم من سجين لم نسمع عنه ولم نقابل ما سطرته صفحاته...!! لكن يقينا يختلجنا أن مآسيه وجروحه لن تندمل في ما علق في ذاكرته. إن ما نعيشه اليوم يشهد شيئا من امتداد الماضي إلى الحاضر وان كان بشكل مغاير، فالدول العربية خصوصا على اختلاف سياساتها الداخلية فإننا نكاد لا نجد تباينا بين ما يعيشه السجين السياسي في أي من هذه الدول. وفي المغرب تواجه حركة 20 فبراير تيارا يستهويه ان يستمر في أساليبه القمعية. يحاول هذا التيار المضاد لموجة التغيير أن يضع الحركة في المشهد السياسي على أنها تحاول المخاطرة باستحضار الملك كطرف في النزاع، الشيء الذي يجعل الرؤية ضبابية تجاه الحركة. في الوقت الذي تبتعد فيه هذه الأخيرة قدر الإمكان بمقابل من يهتف بحياة الملك. لان ذلك يموه الصورة الحقيقية لحجم الفساد المتراكم والمتستر باسم الدفاع عن الملك والثوابت الوطنية. كما أن الوضع أضحى يقاس بمن يحمل صور الملك كدليل على الفناء والوطنية الحقة، وهذا قد يؤدي سلبا على جوهر الإصلاح. لذلك فالمطالبة بإصلاحات جذرية لا يشمل اللحظة الوطنية التي نعيشها فقط، بل يشمل الأجيال الآتية حين نفترش لها الوطنية في الوطن والمسكن وليس في الشخص والأفراد.