كان ذاك اليوم أشبه بلعنة، عندما شددت الرحال إلى تلك البقعة الباهتة رغم أنه يقال عنها أرض الأنوار. وصلت و قد كان الظلام مدلهما مغلفا بكل معاني الكآبة و الحزن، ظللت ألتفت يمينا و شمالا و كأني أبحث عن شيء مجهول، شيء ظل صداه في أذني أبدا لم يفارقني لحظة، وضعت قدمي لأول مرة في مسار أجهل نهايته. بدت الطرقات أمامي و كأنها أكوام شوك تعرقل مسيري، و أنا كلي حسرة على أشياء ضاعت مني، على أشياء ضيعتها بيدي هاتين اللتين ارتجفتا و هي تحمل جواز سفري و تمده للجمركي الذي لملم شفتيه و ابتسم لي، ابتسامة ذبحت أحلامي و قضت على وجودي. غادرت المكان و توجهت رفقة بعض الزملاء إلى مكان آخر حيث ستعمق جراحي أكثر و أكثر و لن تندمل ما حييت، المكان كان بداية لحياة التشرد و الضياع، كان عبارة عن مأوى للشباب، مأوى للضالين من كل الأجناس، مأوى بالفعل لمن ترك السعادة هناك لاهتا وراء سراب. في المأوى بدت الحياة في البداية كلعبة في يد طفل صغير فرح بها كثيرا، حاول اكتشافها و لكن سرعان ما مل منها. مللت المكان لقسوة النظام فيه و لكونه فتح لي باب التشرد على مصراعيه، التعليمات فيه تقول أن تغادره من الساعة العاشرة صباحا إلى الثالثة زوالا، و طبعا ستعيش هائما تائها جائعا و أنت تكابد آلام البرد القارص الذي هو موضوع آخر يطول الحديث فيه. ظللت على هذا الحال أسبوعا أو ما يزيد، و أنا أتنقل بين هذا المجمع التجاري و ذاك لا لشيء إلا للحصول على القليل من الدفء و أضيع بالمناسبة بعض الوقت الذي كانت تعني لي كل دقيقة فيه الشيء الكثير. المهم في هاته الرحلة المشؤومة ستكتشف حقيقة الناس، حقيقة من من المفروض أن يرعوك و يرعون مصالحك و كرامتك خارج وطنك،حقيقة الصراعات الداخلية في نظام للسلطة الخارجية، أتذكر جيدا ذلك اليوم“ بالسفارة“ الذي كان بمتابة صفعة قوية أفاقتني من ذهولي لتترجم إلى دموع انهمرت من عيني كوابل من الأمطار، أحسست معها بجسامة ما ارتكبته و بفضاعة ما فعلته، يا إلاهي... ما الذي وقع لي؟؟ كيف وصلت إلى هنا؟؟ بل و أين أنا؟؟ تلكم هي الأسئلة التي حاولت جاهدا أن أجد لها أجوبة، و تخبطت مليا للوصول إليها، لكن هيهات، هيهات.. بعد ماذا؟؟ !! كل ما استطعت معرفته في ذلك اليوم هو أنني في “ بعثة ثقافية بباريس“. خرجت و بعض الزملاء و قد أخذت الحياة معنا منحى ثالثا، و كأننا في سباق و الفائز من يصل أولا، نسينا فيه الجوع و البرد و الحسرة و بدأت مرارة الألم تنخر أجسادنا التي أصبحت جوفاء كأرواحنا. فالمطلوب منك أن تنتقل بين عدة مدن علك تجد من له رغبة في اكتساب هاته الثقافة، بل و أصبحت هواجس أخرى شيئا فشيئا تطفو على السطح، تنغرز معها الحسرة و الندم اللذان ظلا يرقصان على أوتار سخرية القدر. ضاعت الكرامة، و ضاعت معها أحلام و ابتسامة، و خيم الليل الدامس و معه الوحشة كعجوز يتحسر أيامه، سكن فراغ رهيب جدران سكني الذي أتقاسمه مع شخص آخر، و زادت معاناتي يوما بعد يوم، وحدة قاتلة و بعاد عن الأهل و .... و أخيرا مصير مجهول. بدأ يوم جديد، التحقت فيه بالعمل لأول مرة. بالحصة عدد قليل من التلاميذ أغلبهم أجانب، لا يعلمون شيئا عن الثقافة العربية و لكن لهم رغبة قوية في تعلمها عكس العرب أنفسهم الذين أضاعوا كل الأشياء؛ الكيان، الهوية، الأخلاق، و ضعت معهم أنا، بل و تهت بينهم، و أصبحت عاجزا أن أقوم من جديد، خارت قواي و ازداد حنيني لوطني. و صرت أسمع صوتا مدويا بداخلي صارخا. :“ ما أقسى غربة أيامي!!... ما أصعب وطأة آلامي!!“ لأول مرة وعيت بقيمة الأشياء، بدأت أتذكر كل التفاصيل عن حياتي هناك. عندما كان والدي يطلب مساعدتي و كنت لا أبالي للأمر، عندما كانت والدتي تدعوني للغذاء و كنت أفضل الخروج مع الأصدقاء، فتمنيت كبسولة تعيد لي الزمن لأعيش ما فاتني، لأتذوق طعم الدفء و المحبة الصادقة التي افتقدتها وسط هذا الجمود و الجفاء، لأحس السعادة بين من كنت أعني لهم الشيء الكثير، ل.....، ل..... و ل..... غابت عن هذا المكان الموحش كل معاني الحياة، افتقدت آذان الصلاة و افتقدت كل معالم الإيمان و الخشوع، فلم تبق إلا أوجاع الوصب، فطوال مقامي هنا عشت في كبد قسي، خلف في نفسي جرحا غائرا، جرحا عميقا يصعب التآمه، جرحا غرقت في غياباته كما غرقت في براتن الغربة و الضياع. بزغ صبح جديد أطلت الشمس فيه على استحياء، و كلما ركبت القطار خلت الزمن يعيد حياكة البؤس للمرة الألف، ركبته و لا أدري إلى أين؟؟ على طول المسير و أنا أنظر من النافذة و كأني أترقب فيلم رعب، ظل القطار ينتقل من محطة إلى أخرى و معه بالي شاردا حائرا يحاول أن يفيق من سباته و من غفلته، يحاول أن يكتشف ذاك السر المحير الذي قلب كل كياني و شكك في معنى وجودي، بل و شكك في من أكون؟ أوشكت أن أصاب بضرب من الجنون، تعطلت كل “ ميكانزمات “ تفكيري. رضخت أخيرا للوضع و خيم الظلام علي من جديد، ظلام داج كئيب، خلف في نفسي ندوبا كثيرة محت معها كل أمنياتي، لكن.... جحظت عيناي فجأة و تذكرت أملي الوحيد الذي ربما يذيب الثلج بداخلي أخرجته من حقيبتي، لأني اعتدت على حمله معي أينما حللت و ارتحلت، أخذته بين أناملي الباردة و المتورمة من شدة القر، أردت أن أضع حدا لقصتي التي جهلت نهايتها بل تعمدت أن لا أترك العنان لمصير مؤلم ينسج خيوط أحداثها، لكنه سرعان ما انتصب قلمي رافضا مطاوعتي مخاطبا إياي بلهجة قاسية، قسوة ما أعيشه من وصب و تأوه... وقفت متسمرا في مكاني:“ الكل ضدي، أي ذنب عظيم هذا الذي ارتكبت؟؟ أيكون هذا هو عاقبة أمري؟؟ لكن على حين غرة، رق القلم من حالي و رحم أحزاني فاستدرك الأمر واكتفى بالتوقيع على نهاية كابوسي المزعج ناظما له عنوانا أسماه: جراحات... و حنين.