عشت يوم السبت الماضي، وبالصدفة في ليلة ذكرى حرب 6 أكتوبر، قصة مؤثرة لسوريين، هما أحمد(17 سنة)، ومحمود(16 سنة)، القادمان من اللاذقية بحرا إلى إيطاليا، البلد الذي منحهما حق الدخول إلى أراضيه (كما تظهر ذلك الوثائق التي اطلعت عليها). الوجهة الرئيسية للطفلين، الهاربين من الحرب الأهلية الدائرة بسوريا، كانت نحو باريس للالتحاق بأقاربهما المقيمين بضواحي العاصمة الفرنسية، فقد قرر المسكينان التوجه قبل أيام إلى هناك، إلا أن شرطة الحدود الفرنسية أوقفتهما وهددتهما بالإعتقال كما يرويان. عاد الطفلان السوريان أدراجهما إلى إيطاليا، هنا بمدينة تورينو، "الغارقة" بالمهاجرين، حيث التقيتهما بحي "سان سالفاريو" القِبلة الأولى للأجانب... كانت الدهشة تعتقل نظراتهما نحو عالم جديد، ينتظران جوابا يحررهما من أسر التيه في بلاد "الروم"، إنهما لا يجيدان سوى العربية بلكنة شامية، لكن تحدوهم عزيمة قوية، للتواصل مع الآخرين، والرغبة في الالتحاق بأهليهما في عاصمة الأنوار. في ذلك المساء البارد، كان أحمد ومحمود يبحثان عن موطن دفئ يحتضنهما، لقد قررا محاولة العبور مرة أخرى للحدود الفاصلة بين الديار الإيطالية والفرنسية. هكذا يوضحان حينما طلبا مني مرافقتهما إلى محطة القطار "بورتا نووفا"، لاسترداد نقودهما من مكتب السككك الحديدية الإيطالية، بعدما أخطأ أحد المتطوعين الإيطاليين في تحديد وجهتمها، أثناء حجزه تذكرة سفر لهما عبر الأداء الآلي... المهمة صعبة: استرداد نقود من إدارة إيطالية‼. يحدث أن تصدر معاملات غيرلائقة في حقك من طرف بعض الإيطاليين، عن قصد أو غير قصد، وتكون محشوة بالعنصرية أحيانا، فتضيق بك الدنيا بما رحبت، إذا لم تكن تملك دنياك الخاصة بك، وتتذكر أن هناك أناس إيطاليون آخرون طيبون ودودون، قد صادفتهم فيما قبل، أو ستصادفهم مستقبلا... وحدها المواقف و الصور الجميلة المفعمة بالحب والخير لجنسنا الإنساني في بلاد الغربة، قد تُحدث في العمق ثورة مشاعر فياضة بالأحاسيس الجميلة، فتمحو "قبح الشيطان" فينا، ونتستحضر في دواخلك الإنسان و قيمة الحب الذي يعيد الأمل للحياة ...هكذا على الأقل بدا لي الأمر حينما رافقت أحمد ومحمود إلى أحد الموظفين الإيطاليين بمكتب السكك، وحدثته عن أمرهما، لقد غير الرجل من طريقة تعامله بعدما كانت صارمة منذ الوهلة الأولى. صار الموظف وديعا يفيض بالإنسانية، سهل الأمر الذي قصدناه من أجله، وزاد عن ذلك... فاستشف من خلال حدسه المهني أن الطفلان مطرودان من الحدود الفرنسية...(سي.. لو صو ..إفرانتشيزي سمبري فانو كوزي). دار حديث أيضا عن "الحمل الوديع بشار الأسد" وعن حال البلد... هكذا شدّتنا تفاصيل الحرب... حكايات تغري بالسؤال، لِتَحير العين في لحظة رواية المآسي بين الدمع ألما لمقتل قريب (شقيق أحمد) أم فرحا لنجاة آخر بأعجوبة...كان الموقف غير مناسب للضحك، غير أني دفعت بالطفلين والموظف من حيث لا أدري بالضحك، حينما أصبحت أترجم بشكل معكوس. أحدث الرجل الإيطالي بالعربية، والطفلين الشاميين بالإيطالية... كبحال شي مبوق. توجهت رفقة الطفلين إلى "الطباكريا"/ محل بيع "الدخان"، ليس لشراء السجائر لطرد التبويقة... بل من أجل تعبئة هاتف نقال يستعمله الطفلان السوريان للتواصل مع أهليهم في سورية وفرنسا... صاحبة "الطابكريا" كانت لطيفة جدا، رسمت ابتسامة يطبعها عطف أموي، وجعلت هاتفها من نوع رفيع في خدمة اليافعين السوريين، حينما منحتهما "كلاكسي" لإجراء مكالمة مع قريب لهما، بغرض استعلام الرقم الهاتفي الخاص بهما ، بعد تعذر التعرف عليه... "طول بالك حبيبي" هكذا كان محمود الهادئ الطباع يحدث ابن خالته أحمد السريع الإنفعال، أثناء البحث عن رقم الجوال المشترك بينهما. بدا لي من النصح وأنا أودع الطفلين، أن طلبت منهما تحديد قائد للرحلة الطويلة التي تنتظرهما، حتى لا يضيعا الوقت في التردد والحسم خلال بعض الأوقات الحساسة، والحاسمة، خصوصا أثناء السفر. انطلق القطار، الذي لم أودع قط مسافرا به مستسلما للدموع، إحساس غريب... أركض مسايرا العربة التي تقل أحمد ومحمود، ملقيا تحية الوداع...الطفلان يلوحان بأيديهما... هكذا مضى ذلك المساء غنيا بمواقف إنسانية قوية، مع موظف السكك، صاحبة "الطباكريا" و كذا مراقب القطار الذي كان قد التزم معي بإرشادهما إلى نقطة الوصول، ورعايتهما حتى نهاية السفر... في طريقي من محطة القطار نحو المنزل (بعد ساعة)...هاتفني محمود بلغة الواثق من نفسه، يخبرني بقرار جديد قد اتخذه رفقة أحمد بتغيير الوجه من فرنسا إلى إحدى الدول الإسكندنافية بعدما تلقيا دعوة عبر الهاتف من أحد السوريين لاستضافتهم هناك، حيث ظروف اللاجئين أحسن مما عليه في فرنسا، كما شرح لي محمود. تبدو دول شمال أوربا أكثر تحضرا في القارة العجوز، من حيث معاملتها مع المهاجرين عموما، واللاجئين السياسيين على وجه الخصوص، أو هكذا على الأقل تبدوا صورتها إعلاميا، لكن الحال في النرويج، على سبيل المثال، لايختلف عما حدث لأحمد ومحمود على الحدود الفرنسية، وخير دليل، هي تلك المشاهد الصادمة التي نقلها الفيلم الوثائقي التسجيلي "نووير هوم" (إخراج: مارغاريت أولين من سويسرا) الذي شاهدته الأسبوع الماضي على هامش الملتقى الدولي "تقاطع النظرات" الخاص بوثائقيي الهجرة بتورينو... حيث تقرر مفوضية الشرطة النرويجية طرد الطفل عبد الله من أصول أفغانية وهو العليل المعاق عن الحركة. خاب أمل المسكين، وبدا يائسا من رحمة "بني آدم"، أما شقيقه محمد الذي تحمل عبء التنقل به عبر الحدود، القطارات، والغابات للبحث عن ظروف إنسانية بعيدا عن طلقات الكلاشينكوف في كابول إثر فقدان الوالدين هناك، فقد كان يقول طوال الفيلم "هناك الله"... وبدوري أقول لكم الله أيها الأطفال الأبرياء. _ _ _ _ _ _ _ _ _ ** إعلامي/ باحث في الاتصال والسينما مقيم بإيطاليا