يجمع أغلب المتخصصين في تعريفهم للتربية، على أنها مجموعة من العمليات التي تمكن المجتمع من نقل معارفه وأهدافه المكتسبة سعيا منه إلى الحفاظ على وجوده، وهي أيضا تجديد متواتر لتراثه بغاية نموه. أما علماء اللغة والمصطلحات فيعرفون التربية في معاجمهم، على أنها إنشاءُ الشيءِ حالاً فحالاً إلى حَدِّ التمام. ويأتي في هذا السياق جون ديوي ليقول بأن التربية " تعني مجموعة العمليات التي يستطيع بها مجتمع أو زمرة اجتماعية، أن ينقلا سلطاتهما وأهدافهما المكتسبة بغية تأمين وجودها الخاص ونموهما المستمر. فهي باختصار" تنظيم مستمر للخبرة ".أما عالم الاجتماع دوركهايم فيرى "أنها تكوين الأفراد تكويناً اجتماعياً "وغيرها من التعريفات التي نجدها عند علماء و فلاسفة آخرين أمثال أفلاطون وأريسطو ورينان.. والملاحظ في هذه التعريفات كلها أنها تهتم بشكل أساسي بتربية الفرد وعلاقته اتجاه المجتمع، أي السعي نحو تكوين إنسان سوي يساهم هو أيضا في نقل ما تعلمه من تربية وتعاليم ومبادئ من مجتمعه الذي تربى نحو خلفه اللاحق، ومن هنا يبدو جليا أن جميع المجتمعات في مختلف البلدان المعمور تجمع على المبادئ العليا التي اتفقت عليها منذ بدء الخليقة، كالحب والصدق والاحترام والعدالة والمروءة والتفاني في خدمة الوطن وغيرها من المفاهيم العليا التي تجعل المواطنين الذين يجتهدون في تكريسها من جيل للآخر تظهر عليهم جوهر الحضارة في معيشهم اليومي عكس الأمم التي تستخف بها عنوة أو عن غير قصد. هل توجد تربية واحدة تصلح لجميع الفضاءات؟ أم أن هناك تربيات متعددة تنسجم مع فضاءات مختلفة؟ للإجابة على السؤال الذي يبدو صعبا تحديد جميع الفضاءات التي يمكن أن توظف فيها التربية، بل إن العوالم التي تشغل فيها التربية حيزا واسعا كثيرة ولامتناهية، إلا أننا سنقتصر على ثلاثة فضاءات التي تعتبر محورية في حياة الطفل منذ أن يبدأ وعيه بالمحيط الذي يعيش فيه، انطلاقا من البيت الذي يستوعب فيه أبجديات تعلم الحياة والتي تسمى تربية أيضا، لينتقل عند الخامسة إلى فضاء أرحب ألا وهو المدرسة، وبعدما يصبح قادرا على إدراك محيطه أكثر يكون مجبرا على مواجهة الشارع المليء بالمتناقضات. فإلى إي حد يمكن للطفل وهو في طور النمو أن يوفق بين ما تربى عليه بالمنزل وبين ما استكمله في المدرسة، ليعيد تأويله وتمثله في فضاء الشارع اللامحدود والمحفوف بالعديد من المتغيرات يوما عن يوم؟ الأسرة أولا: تعتبر الأسرة هي النواة الأولى التي يجد الطفل فيها نفسه وقد بدأ يتعلم الأشياء الأولى في بداية مشوار حياته، فهي اللبنة الأولى التي يبدأ بها بناء صرح واقعه وحاضره ومستقبله، فبصلاحها يصلح بناؤه و تتدعم ركائزه وبفسادها تتهاوى جميع مكونات البناء من الأساس نحو السطح. وعلى هذا النحو فالأسرة لها الدور الخطير في تكوين شخصية الطفل ومن ثمة إلى تكوين المجتمع برمته، يعرف "ريني" الأسرة بأنها جماعة من نوع خاص، يرتبط أفرادها بعلاقة الشعور الواحد المترابط والتعاون والمساعدة المتبادلة، ويسهم أفراد واعون أصحاء في بنائها وتطويرها وإخراجها للمجتمع. والدور التربوي للأسرة كما يحدده خبراء التربية، كمفهوم يأتي دائماً مع وجود الأبناء فالهدف من تكوين الأسرة هو حصول الوالدين على أبناء وبمعنى آخر فالأسرة كيان يتم بناؤه من أجل الوصول إلى أهداف معينة أهمها إنجاب الأبناء وتربيتهم، والواقع أن تربية الأبناء ليس بالأمر السهل بل هي مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأسرة، حيث يتطلب الأمر الكثير من الجهد والتخطيط ، فإذا ابتغى الوالدان التوفيق في تربية أبناء صالحين وبناء مستقبل واعد لهم ينبغي عليهما تحديد أهداف تربوية معينة ومعرفة الوسائل والطرق اللازمة للحصول على تلك الأهداف حيث يشكل ذلك برنامجاً تربوياً متكاملاً، وعلى الوالدين تربية أبنائهم وفق هذا البرنامج. فالوالدان اللذان لا يفكران في تربية أبنائهم لا يحق لهما انتظار المعجزة والمستقبل من أبنائهم. لأن هناك جوانب أساسية في التربية كما يحددها المختصون ينبغي على الأسرة مراعاة أهمها بتنمية شخصية الطفل واكتشاف قدراته الذاتية، لأن الإنسان يملك منذ طفولته مواهب فكرية ونفسية وعاطفية وجسمية، وهنا تعمل الأسرة على تنمية هذه المواهب واكتشاف القدرات والصفات التي يملكها أبناؤهم، وتتبع مكامن القوة والضعف، وتشجيع هاته المهارات في حالة قوتها و تفجير الأخرى التي هي مضمرة أو يعتريها بعض الوهن. ثم تنمية العواطف والمشاعر، التي تحتل نسبة مهمة في حياة الشخص الذي هو بمثابة تركيبة من هذه المكونات فالمشاعر والعواطف لها انعكاس كبير على ما هو حس حركي، وسيرورة في تكوين شخصية الفرد في المستقبل فالأحاسيس الجميلة والراقية تصاحبه وتؤثر عليه إيجابا عكس الأخرى التي تكون سلبية، فهي مثلها مثل غيرها من مقومات الشخصية لدى الإنسان تحتاج إلى التربية والإرشاد. يعتبر وقت الفراغ سيفا ذو حدين فغيابه بشكل نهائي إعاقة في التكوين لأن الإنسان يحتاج منذ بدايات خطواتها الأولى أو حتى مع الحبو إلى اللعب لما فيه من تطوير للمهارات واكتسابها، غير أن إطلاق الحبل على الغارب في مرحلة معينة ما يصبح له الانعكاس السلبي على النشء، ذلك أن هامش الفراغ الكبير يعطي الانطباع لدى الطفل واليافع على حد سواء أن الحياة لعب في لعب إلى ما لانهاية، وهذا عيب في التربية فكثير من الحالات التي تمت معاينتها نتيجة استهتار الأسرة واللامبالاة وترك الأطفال في الشارع والأزقة على مدار اليوم والليلة جعل هؤلاء الأطفال بعيدين كل البعد عن مجال التحصيل، وبالتالي تعرضهم للفشل الدراسي، بحيث يقول المثل " الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده" ويقال أيضا " فلا ضرر ولا ضرار" الطفل صحيح أنه محتاج في عالمه الصغير إلى اللعب ولكن في حدود المعقول، وهذا جانب من أهم الجوانب التي يجب على الأسرة مراعاتها، حيث يعتبر الفراغ مشكلة المشاكل عند الشباب وعليه فإن المسؤولية تقع على ولي الأمر ، فيجب عليه تنظيم وقت المتعلم بحيث يكون هناك وقت كاف ومناسب لإنجاز الواجبات والمراجعة وتتبع أبنائهم قصد إنجازها، ووقت مناسب آخر للترفيه في الأشياء المفيدة. أكد الواقع غير ما مرة أن عدم إحساس الطفل داخل أسرته بالأمن والأمان، يجعله يعيش بشخصية مهتزة مستعدة لجميع الإغراءات التي قد يوفرها له الشارع بامتياز، فعزوف الطفل عن بيته في سن معينة نتيجة المشاكل التي يعيشها أبويه تنعكس سلبا على شخصيته، فيصبح في مهب الريح، لأنه في سن لا يستطيع استيعاب ما يدور حوله، لهذا فعلى الأسرة أن تمنح كثيرا من العطف والحنان، يمكنانه من الإحساس بالاطمئنان يجعله في منأى عن العوارض التي قد تصادفه في الشارع أو في المدرسة، التي لا يمكن أن نجنبها المسؤولية في ترصد المتعلمين الذين يعيشون مشاكل نفسية نتيجة التمزق الأسري، وهنا دور المؤسسة التربوية في التدخل باستدعاء أولياء أمورهم وتنبيههم للخطر النفسي المحدق بهؤلاء المتعلمين، لأن الأطفال لهم حاجات نفسية مختلفة، منها اطمئنان النفس والخلو من الخوف والاضطراب والحاجة للحصول على مكانة اجتماعية واقتصادية ملائمة، والحاجة إلى الفوز والنجاح والسمعة الحسنة والقبول من الآخرين وسلامة الجسم والروح. المدرسة ثانيا: قلنا سابقا بأن أول فضاء ينتقل إليه الطفل بعد أحضان والديه، هو فضاء المدرسة وهو أوسع من البيت، ولا يرى فيه وجها أو وجهين بل تتعدد الوجوه، وتتغير نفسيته يحس في لحظة ما أنهما تخليا عنه، فكم من مرة شاهدنا أطفالا صغارا يصرخون بأعلى أصواتهم وهم يتعلقون بتلابيب آبائهم وأمهاتهم، لهذا وجب على الوالدين تهييئهم في مرحلة معينة بأن زمن التعلم حتمية لا مفر منها، وهنا لابد من التأكيد على ضرورة اعتماد المقاربة السيكولوجية للطفل الذي أصبح يحمل اسم " تلميذ " كمرحلة انتقالية من الصعب عليه أن يستوعبها في تلك اللحظة، وحين ننفره كمربين باعتماد أسلوب النهي والضبط والربط، فربما يحقد على المدرسة إلى الأبد. إن لم نقل بأن هذه المرحلة أساسية قد تساهم في ارتفاع معدل الهدر المدرسي، خاصة بالعالم القروي الذي ما زال يعاني من غياب مؤسسات روض الأطفال والأولي في أغلب المناطق، مما يجعل الأمر صعبا على المدرس في الأول ابتدائي أن يساير برنامجا يخص بالذكر التلميذ الذي قضى سنتين عل الأقل في الأولي أو بروض الأطفال، عوض طفل " خام " كان يلهو في البساتين والمزارع حرا طليقا في عالم مفتوح، ليجد نفسه ودون سابق إنذار في فضاء ضيق و مغلق، أمام شخص لم يره من قبل يأمره بفك رموز لم يراها سابقا ومطالبا بانضباط مبالغ فيه كما يبدو له أول وهلة، لهذا وجب على الوزارة الوصية على القطاع تراعي هذا الشرط الموضوعي، واعتماد مناهج تصب في تمكين مثل هذا المدرس وذاك المتمدرس من أبجديات صحيحة تجعل الأول يقيمه عن قناعة والثاني ينتقل إلى الفصل الآخر عن جدارة واستحقاق، عوض اعتماد الخريطة المدرسية التي أعطتنا أميين وهم يدرسون بالثانوي، وهذا حديث آخر. الشارع ثالثا: عندما تتطور تربية الطفل من مرحلة البناء حس حركي والسيكولوجي، وهي مراحل دقيقة جدا في تكوين الشخصية الصحيحة، تأتي مرحلة استثمار ما تعلمه من محيطه الأسري وبعض من محيطه المدرسي، تأتي مرحلة الانفتاح على آخر أرحب، تمثل في خلق صداقات وإقامة علاقات مع الآخرين، وهي حاجات أساسية للأبناء خصوصاً في سن الشباب فالأطفال والناشئون يؤثرون على بعضهم البعض ويكررون ما يفعل أصدقاؤهم، وهنا يحضر استثمار المرجعيات التربوية السابقة، فالطفل الذي عاش في تربية نفسية مبنية على اكتساب مجموعة من المعارف والقدرات الفكرية التي تمكنه من التمييز بين الصحيح والخطأ، تجعله محورا مؤثرا وليس متأثرا، وبالتالي تبقى علاقته بأصدقائه يطبعها القياس على الفارق لما تعلمه من أسرته فبدون تردد لا يدخل مع الأصدقاء الجانحين في سلوكات قد تضر به وبمستقبله، ومن تم يتحكم في تفكيره المرجعيات المكتسبة، وإن زاغ عن الخط في لحظة أو لحظات سهو، فإنه يعود إلى المبادئ العامة الفاضلة، عكس الذي لم يتلق أية تربية معينة فمرجعيته صفر على صفر، تجعله يتيه في بحر من الأمواج المتلاطمة لا يجد معها شط النجاة إلا من رحم ربك، ومن أجل اختيار الصديق السوي يجب على الوالدين أو على الأسرة كلها توضيح معايير الصداقة لأبنائهم وصفات الصديق غير السوي مع المتابعة المستمرة لذلك، فمرحلة المتابعة للطفل أو اليافع أو الشاب لا تنتهي فور اعتقادنا بأنه مسؤول عن نفسه، والشاب غير "الممرجع" إن صح اللفظ، يصبح صديقه هو من يربيه خارج منظومة الأسرة، فإن كان فاسدا أفسده وهذه هي الشائعة على العموم، في جدلية التأثير والتأثر. في الختام نقول أنالأسرة تلعب دورا خطيرا في تربية النشء، فالأسرة التي تستهتر بتربية الأبناء، أسرة تبني مجتمعا فاسدا تعمه الفوضى و ينتشر فيه الإجرام، وتمتلئ سجونه بالفاشلين اجتماعيا، ولعله ليس من قبيل البيان أن نقول بأن الدول التي ستضيع أموال خزائنها على إعادة تأهيل وإدماج الجانحين، تبقى دولا مرتبة في ذيل قوائم الأكثر تنمية وتقدما.