تقع قرية ارشيدة بالجنوب الشرقي لإقليمجرسيف، وأغلب سكانها من ذرية سيدي يعڭوب بن عبد الواحد الأمغاري الإدريسي الحسني، الذي اختار لمستقره هذا الاسم تحديدا تيمنا بقرية تحمل نفس الاسم في القطر الجزائري ينحدر منها شيخه سيدي أحمد بن يوسف الملياني الرشيدي. وقد استنتج بعض الباحثين (1) أنه بتتبع أسماء بعض الأعلام (…..) والأماكن بالمنطقة (تيمسروت، امطل، بني عطو، تزروت، تسڭنفوت..) وكذا أسماء حصص الماء (بني راشد، بني سعد، بني ويرت، بني راتن، بني مولت، أوقيس..) يتضح أن الوجود البشري بالقرية يعود إلى أبعد بكثير من القرن العاشر الهجري (15 م)، الذي عرف تأسيس الزاوية اليعقوبية.. وجود القرية بين جبال الأطلس المتوسط وامتداداتها (النجود العليا) من جهة، وسهول تافراطة شبة الصحراوية من جهة أخرى، جعلها بمثابة واحة تعايشت، بل وتحدت مختلف التغيرات المناخية التي عرفتها المنطقة خلال أقل من قرن من الزمن، حيث انتقلت من حالة الخصب والوفرة، إلى حالة الجذب والندرة. ولهذا فأهمية الماء مضاعفة في هذه القرية لأنه السبب الأساسي لاستقرار الساكنة، خاصة في ظل الغياب التام لأية أنشطة اقتصادية مدرة للدخل، وفي ظل تغليب الهواجس السياسوية والحزبوية والانتخابوية والعشائرية والقبلية والفئوية على المصلحة العامة لدى كثير ممن تولوا تدبير الشأن المحلي بالمنطقة، فضلا عن غياب البعد التنموي نهائيا رغم أن قرية ارشيدة تتوفر على مخطط للتنمية تحت رقم 438 صودق عليه بقرار عامل إقليمتازة في 3 أكتوبر1984 وصودق عليه بقرار لوزير الداخلية يحمل رقم 692.92 صادر في 18 يونيو 1992 (2). في هذا التحقيق، نتوقف عند مجموعة من المعطيات المرتبطة بعلاقة الماء بالحياة بهذه القرية، خاصة الطريقة الفريدة لتدبير هذه المادة الحيوية في ما يخص استغلالها في الأنشطة الفلاحية، مع التعريج على بعض الجوانب التاريخية والروحية. ٭ عيون جارية: تتوفر قرية ارشيدة، ومحيطها القريب على العديد من عيون الماء الصالح للشرب، منها ما لا ينقطع ماؤه حتى في سنوات القحط، ومنها ما تأثر بانحباس المطر، خاصة في العقود الأخيرة التي تميزت بتوالي سنوات الجفاف الذي أدى إلى نضوب كثير من العيون المعروفة. ويمكن أن نذكر في هذا الصدد : عين الهبوب، وعين الزْبير، وعين تونين، وعين الباطن، وعين أدمام، وعين أحمد بن الطالب، وعين دندن، وعين الرَّبط، وعين الكرمة التي تتوفر على مجريين اثنين، وعين شعبة الحاسي، وعين تيمسروت، وعين الشرامطة وعين العرجان، وعين حمزة، وعين ثلاثة علي، وعين تيمغندوز… بينما تتواجد بواد بني ڭاسم بالضاحية الشمالية للقرية عين الخندڭ (الخندق) والعين الفوڭانية. كما توجد عيون أخرى ببني غمراسن، وهو حي من أحياء قرية ارشيدة منها عين عبدالي وعين الدفلة وعين جنان العين وعين البحيرة وعين بودراسن وعين ڭرأملال.. أما أهم وأكبر هذه العيون على الإطلاق فهي عين "رأس العين" التي تنبع من جوف الجبل الأخضر الذي تقع القرية في حضنه وتسمى منابعها "المناخر"، ويبلغ صبيبها في الحالات العادية 38 لترا في الثانية، ويرتفع في حالات استثنائية. في هذا الإطار تشهد "رأس العين" في بعض الأحيان تدفقات غير عادية، ناجمة عن تساقطات مطرية استثنائية تعرفها وهاد وشعاب كل من منطقتي "الڭعدة" و"الظهرة" (النجود العليا) وهو ما يتضح من تحول لون الماء (أحمر، أبيض، أصفر، أسود..) تبعا لنوعية التربة التي استقبلت التساقطات ما يؤكد أن منبع العين ممتد على عدة كيلومترات. وهذه العين تحديدا هي موضوع هذا التحقيق. ٭ من وحي الأسطورة.. تتداول الألسن في شأن هذه العين، التي تجري دون انقطاع منذ قرون، عدة حكايات ترتقي بعضها إلى درجة الأسطورة، وهو أمر عاد وطبيعي في مجتمع "متصوف" قائم على تبجيل الأولياء الصالحين (يبلغ عددهم أكثر من بهذه القرية ضمنهم امرأتان). تقول إحدى هذه الروايات إن سيدي يعڭوب جد الشرفاء اليعڭوبيين قاطني القرية ابتداء من القرن العاشر الهجري، عندما غادر واحة فيجيج التي استقر بها مؤقتا بعد ما حدث له بسجلماسة جراء غيرة زملائه الطلبة من حظوته لدى شيخه، يمم وجهه نحو رشيدة، وأنه طيلة الطريق كان يجر عصاه خلفه إلى أن غرسها حين وقف في موقع العين الحالي فتدفق الماء من بين قدميه. وتقول رواية أخرى إن العين كانت عبارة عن أحراش مهملة، وإن سيدي يعڭوب اشترى الأرض بما فوقها وما تحتها من سكان المنطقة الأصليين، ووُثِّق ذلك في عقد مكتوب، لكن البائعين فوجؤوا لاحقا بالمياه تتدفق من الأرض التي زهدوا فيها فحاولوا التراجع عن البيع، لكن فات الأوان، فقد جف القلم وطويت الصحف. بالمقابل يرجح بعض الباحثين (3) أن العين كانت مملوكة مساهمة بين شرفاء ادخسية ذوي الأصول الإدريسية، وبعض فروع قبيلة زناتة الأمازيغية، لكن بعد قيام دولة بني مرين انتقل زناتيو القرية إلى الحواضر الكبرى المجاورة، خاصة تازةوفاس، بينما انتقل الدخيسيون للاستقرار بتافوغالت (بركان) بعدما باعوا حصصهم في العين لابن عمهم سيدي يعڭوب الذي ورَّثها لذريته من بعده.. ٭ الماء.. بين العادة والعبادة علاقة قرية ارشيدة بالماء، ليست أسطورية فقط، بل هناك تراث تختلط فيه العادة بالعبادة. فإذا كانت "مصر هبة النيل"، فإن ارشيدة – بلا مبالغة- هي هبة رأس العين، إذ لو لم تكن هذه العين متدفقة باستمرار لَما كان هناك أثر للحياة بهذه المنطقة أصلا. في هذا السياق، يؤكد بعض الباحثين أن اختيار مؤسس هذه القرية لموقعها الحالي لم يكن اعتباطيا، خاصة وأنه كانت أمامه بدائل متميزة، ومع ذلك اختار منطقة محصورة بين جبل وجرف شديد الانحدار، ومحدودة المساحة الصالحة للاستغلال الفلاحي، بل لإدراكه بأن الماء هو أصل الحياة، فوجود القرية نفسه ليس مرتبطا باستمرار تدفق العين فقط، بل بقوة صبيبها خاصة وأن العديد من العيون المجاورة إما جفت بالمرة، وإما تراجع صبيبها بشكل جعلها غير ذات جدوى في المجال الفلاحي، بل بالكاد توفر قدرا من احتياجات الرحل ومربي الماشية. هذا الارتباط العضوي بين الماء والحياة والاستقرار بالقرية، هو ما يفسر بعض الطقوس الغريبة التي كانت تظهر خاصة في فترات الجفاف. فإذا كان أداء صلاة الاستسقاء، أمرا مسلما به بحكم أننا نتحدث عن زاوية ومدرسة قرآنية ووجهة روحية للباحثين عن "البركة"، فإن بعض الطقوس الأخرى تتطلب وقفة. لم يسجل نضوب العين سوى مرات قليلة على مدى سنوات طويلة، ولدقائق معدودة، بسبب انهيارات ترابية على الأرجح، كما أنه حتى خلال توالي دورات القحط، ظلت العين تؤدي مهمتها ولو في الحدود الدنيا، إلا أن ذاكرة القرية تحتفظ بممارسات كان يتم اللجوء إليها في اللحظات الاستثنائية. من هذه الممارسات، تجمع السكان في المسجد الأعظم بالقرية ل"تخريج اللطيف"، حيث كانت توضع كومة أحجار وسط حلقة الذاكرين الذين يستغيثون باسم الله اللطيف آلاف المرات. وبعد الفراغ من أداء هذه الطقوس يتم وضع الحجارة "المباركة" في العين حيث تؤكد شهادات شفوية لشهود على تلك اللحظات بأن الغيث كان ينهمر مدرارا، بل لا يتوقف المطر إلا بعد أن تجتمع الساكنة مرة أخرى لإخراج الحجارة من مكانها في العين. ومن هذه الممارسات أيضا، اجتماع "الشريفات" من ساكنة القرية في المقبرة الرئيسية (تسمى المدينة) والتي تضم ضريح العديد من الأولياء وخاصة "سيدي امحمد بن يعڭوب" أحد أبناء مؤسس الزاوية اليعڭوبية. هذا الاجتماع لا يكون عاديا، بل إن الشريفات يلعبن مباراة في كرة العصا حاسرات الرؤوس طلبا للغيث.. الذي لا يتأخر في النزول وفق رواية العديد ممن عاصروا هذا الطقس الذي ظل حاضرا حتى حدود السبعينيات من القرن الماضي. كشف "الشريفات" رؤوسهن يكون له معنى أعمق حين ندرك أن فتيات القرية كن يجبرن في تلك الفترة على القرار في البيوت في سن مبكرة، بل بمجرد ما تبدأ معالم الانوثة تظهر عليهن، كما كان محرما على النساء الخروج نهارا إلا في حالة الضرورة القصوى. ٭ استعمالات الماء للسقي والشرب يستعمل ماء "رأس العين" أساسا في تغطية احتياجات الساكنة من الماء الصالح للشرب إضافة إلى الاستعمالات اليومية التي تتطلبها حياة الناس البسيطة، علما أن قرية ارشيدة لا تتوفر لحد الآن على شبكة رسمية لتوزيع الماء رغم توفر هذه المادة الحيوية بكميات وفيرة، بفضل هذه العين التي يبلغ صبييها 38 لترا في الثانية، في حين لا تمثل حاجيات السكان إلا 1.83 في المائة من هذا الصبيب، بحيث لا يتجاوز حجم الاستهلاك اليومي لساكنة القرية بما فيها دواوير واد بني قاسم وبني غمراسن 60 مترا مكعبا في اليوم، ومع ذلك اضطر السكان على مدى عقود لاستعمال الوسائل العتيقة والدواب لجلب الماء في ظروف لا إنسانية في كثير من الأحوال (2).. وعلما أيضا بأن أغلب البيوت أصبحت تتوفر حاليا على صنابير تم جرها بطريقة عشوائية انطلاقا من شبكة محدودة كان قد تم إنجازها في بداية السبعينات وعرفت إحداث خمس سقايات عمومية بهدف توفير الماء في مختلف أزقة القرية وإعفاء الساكنة من عناء السقي من رأس العين خاصة حين يتعلق الأمر بكميات كبيرة، أو الارتهان لاتجاهات السواقي المتفرعة منها الخاضعة لمواقع الحقول الزراعية من جهة ولتوزيع حصص السقي (أغلب هذه السقايات في حالة مزرية حاليا). وقد تعززت هذه الشبكة المحدودة مؤخرا بمضخة تعمل بشكل مؤقت لتوفير الماء ببعض النقط التي حرمت من السقايات العمومية القديمة. غير أن هذا التدبير العشوائي أدى حاليا إلى خلق مشكل تصريف المياه الآسنة خاصة في ظل التعثرات التي يعرفها مشروع التطهير السائل الذي دخل في متاهات قد لا يخرج منها في المستقبل القريب.. فتوفر البيوت على صنابير تجري ليل نهار -وبلا مقابل- أدى إلى وجود كميات كبيرة من المياه العادمة، تطلبت إيجاد بدائل عشوائية لتصريفها بسبب عدم استيعابها من طرف المطامير التقليدية.. وهي بدائل ستكون لها انعكاسات بيئية خطيرة في المستقبل القريب بسبب حفر مجاري مكشوفة تصب إما في الأزقة أو في السواقي نفسها التي تنقل الماء المستعمل إلى الحقول الزراعية. وبالمقابل يستعمل الجزء الأهم ماء "رأس العين" في سقي حقول القرية -وبعض المداشر القريبة منها- التي تستغل في فلاحة معاشية (زراعة القمح والشعير والذرة والفصة) وفي بعض الزراعات الموسمية (البطاطس والبصل واللفت…) فضلا عن أشجار الزيتون التي تعتبر الشجرة المثمرة الوحيدة تقريبا التي تستفيد من ماء العين بما أن أشجار التين والرمان بدأت تفقد أهميتها في حقول القرية. وتعتمد ساكنة ارشيدة في سقي هذه الحقول على شبكة من السواقي التي تنقسم إلى اتجاهين رئيسيين شرقي وآخر جنوبي يتفرع كل منهما إلى سواقي فرعية تتعدد وتتشعب تبعا لمواقع الحقول الفلاحية. وهناك نوعان من السواقي: – نوع أول، عبارة عن مجاري ترابية عتيقة تتسبب في هدر الماء وفي تقليص سرعة التدفق والصبيب مما يفقد الرْبَع (الحصة من الماء) أكثر من 40 في المائة من حجمها أحيانا. – ونوع ثان عبارة عن مجاري إسمنتية، تم الشروع في بنائها منذ بداية السبعينات، وهي وإن كانت تساهم في الحد من هدر الماء إلا أنها بالمقابل تسببت في التأثير على الغطاء النباتي حيث إن بعض الأشجار والأعشاب التي كانت تعيش على ما يتسرب من مياه المصارف التقليدية، أصبحت في تناقص مستمر تحت تأثير العطش. ٭ نظام تدبير ..نظرة تاريخية لا توجد أية وثيقة مكتوبة أو شواهد مادية يمكن اعتمادها للتأريخ لبداية العمل بنظام تدبير الماء بقرية ارشيدة، بل كل ما هناك روايات شفوية متضاربة حول أصل هذا النظام لا يمكن أن تشفي غليل الباحث. وفي كل الأحوال، هناك مؤشرات يمكن أن توضح الصورة بعض الشيء، خاصة وأن أول عامل -معروف – على الماء، السي قدور بن الطاهر، لم يمر على وفاته سوى حوالي 65 إلى 70 سنة، بعدما ناهز 80 سنة من العمر. من هذه المؤشرات أن أسماء الكْزُوَّة (الأجزاء) تشير إلى قبائل عربية وأخرى أمازيغية كانت تتقاسم استغلال ماء العين على مدار 45 يوما تتجدد تلقائيا وفق نفس الترتيب الذي سنبينه لاحقا. ومن هذه المؤشرات أيضا أن أوقات الصلاة تلعب دورا محوريا في تحديد مدة كل حصة مائية صيفا وشتاء، ليلا ونهارا، وفق ما سيتم توضيحه في فقرة لاحقة. ويكفي هذان المؤشران للتأكيد، على الأقل، على أن نظام توزيع الماء الحالي بهذه القرية، يرجع إلى فترة ما بعد الفتح الإسلامي للمغرب، أولا، بسبب حضور العنصر العربي/الإدريسي، وثانيا، بالنظر إلى اعتماد الصلوات كأساس لحساب الحصص . ٭ تدبير ماء السقي.. إبداع حسابي.. تنقسم السنة المائية في قرية ارشيدة إلى 8 أدوار يمتد كل منها على مدى 45 يوما تتكرر تلقائيا بالتتابع على مدار السنة. وكل دور من هذه الأدوار، ينقسم إلى 6 "اڭزوة" أي أجزاء (يسمى مفردها في عرف القرية : اڭزو والأقرب أنها نحت لكلمة جزء) تتوزع هي الأخرى كما يلي: – ثلاثة أجزاء من فئة 8 أيام وهي : بني راشد وبني ساعد وبني ويرت. – ثلاثة أجزاء من فئة 7 أيام وهي : بني راتن وبني مولت وأوقايس. وتخضع هذه الأجزاء للترتيب التالي: اڭزو بني راشد (8 أيام/64 ربعا) يليه اڭزو بني ساعد (8 أيام/64 ربعا) يليه اڭزو وبني ويرت (8 أيام/64 ربعا) يليه اڭزو بني راتن (7 أيام/56 ربعا) يليه اڭزو بني مولت (7 أيام/56 ربعا) يليه اڭزو أوقايس (7 أيام/56 ربعا) . وبهذا يكون مجموع الأرباع هو 360 ربعا يتقاسم التصرف فيها أبناء القرية وسكان بعض المداشر المجاورة (المطاهرة، والشرامطة وواد بني ڭاسم)… كما تحوز الأوقاف 24 ربعا تم تحبيس أغلبها على المسجد الأعظم بالقرية. إلى هذا ينقسم كل يوم مائي إلى ثمانية أجزاء يسمى كل جزء منها ربعا (الرْبَع) ولعل المعنى المتبادر من هذه التسمية أن كل حصة مائية هي إما ربع من النهار أو ربع من الليل خاصة وأن "الربوعة / الأرباع" موزعة مناصفة بين الليل والنهار كما يلي: – أرباع النهار : ربع تسڭنفوت (وتعني الهضبة أو المرتفع من الأرض) يليه ربع تزروت (وتعني الجرف الكبير)، فربع الظهر ثم ربع العصر. – أرباع الليل : ربع رواحات (غروب) الشمس، يليه ربع العشاء فربع نص الليل (منتصف الليل) ثم ربع الفجر. إن تحديد بداية ونهاية أوقات الحصص من الماء يتميز بدقة شديدة جدا. فربع الفجر، يبتدئ من أذان صلاة الصبح ويمتد إلى ما بعد شروق الشمس. وتتراوح مدة هذا الربع بين حد أدنى قدره 2 س و20 دقيقة وحد أعلى قدره 2 س و50 دقيقة، وذلك حسب توالي فصول السنة. وربع تسڭنفوت، يبتدئ من اللحظة التي تصل فيها أشعة الشمس إلى هضبة معروفة "تسڭنفوت" يمكن رؤيتها بالعين المجردة بوضوح من أكثر من مكان في القرية رغم بعدها نسبيا، وينتهي بدخول وقت ربع تزروت. وتتراوح مدة هذا الربع بين حد أدنى قدره ساعة واحدة و30 دقيقة وحد أعلى قدره 2 س و40 دقيقة. أما ربع تزروت فيتطلب تحديد مدته عملية حسابية بسيطة، حيث إنه يساوي نفس مدة ربع الظهر مضافا إليها عشر دقائق. ومن المفيد هنا تسجيل أن هناك موقعا بالجبل المطل على القرية مكونا من جرفين اثنين :صغير وكبير، يعرفان محليا بتزروت الصغيرة وتزروت الكبيرة. وبهذا الموقع أيضا تتواجد صخور متراكبة تسمى "علامة الظهر"، حيث إن تعامد الشمس معها يعلن دخول وقت هذه الصلاة على مدار السنة، وبالتالي نهاية حصة تزروت. وتتراوح مدة هذا الربع بين حد أدنى قدره 3 ساعات وحد أعلى قدره 3 س و50 دقيقة. وربع الظهر يبتدئ بالأذان لصلاة الظهر، وينتهي بأذان صلاة العصر. وتتراوح مدة هذا الربع بين حد أدنى قدره 2 س و50 دقيقة وحد أعلى قدره 3 س و40 دقيقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه كان يتم الأذان للظهر يوم الجمعة بصفة مستقلة، لإعلام صاحب الحصة المائية، قبل رفع الأذانات الثلاث المميزة لهذا اليوم، وهي عادة اختفت حاليا واستعيض عنها باستعمال الساعة. وربع العصر يبتدئ بالأذان لصلاة العصر وينتهي بغروب (ارواحات) الشمس. وتتراوح مدة هذا الربع بين حد أدنى قدره 2 س و20 دقيقة وحد أعلى قدره 3 س و30 دقيقة. وربع ارواحات الشمس الذي يبتدئ ب 7 دقائق قبل أذان صلاة المغرب وينتهي بالأذان لصلاة العشاء. وتتراوح مدة هذا الربع بين حد أدنى قدره ساعة واحدة و30 دقيقة وحد أعلى قدره ساعة واحدة و50 دقيقة. وربع العشاء الذي يبتدئ من الأذان لصلاة العشاء، وينتهي بحلول نص الليل (منتصف الليل). وتتراوح مدة هذا الربع بين حد أدنى قدره 3 ساعات وحد أعلى قدره 5 س و30 دقيقة. وربع نص الليل الذي يبتدئ من نفس الساعة التي أذن فيها لصلاة الظهر نهارا (12 و22 دقيقة مثلا)، أي أن الربعين متلازمان في التوقيت على مدار السنة، وينتهي هذا الربع بالأذان لصلاة الصبح. وتتراوح مدة هذا الربع بين حد أدنى قدره 2 س و50 دقيقة وحد أعلى قدره 5 س و20 دقيقة. وبهذا يتضح أن هناك 6 أرباع صغيرة، وربعان كبيران هما ربع العشاء وربع منتصف الليل اللذان تتجاوز مدتهما في فصل الشتاء الخمس ساعات. ومما يؤكد عبقرية واضعي هذا النظام، أنهم حاولوا خلق توازن بين المستغلين بحيث إن أصحاب أرباع النهار يتحولون إلى أصحاب أرباع ليل والعكس صحيح بعد كل دورة مائية تمتد على مدى 45 كما أسلفنا. فربع تسڭنفوت يتحول إلى ربع ارواحات الشمس. وربع تزروت يتحول إلى ربع العشاء. وربع الظهر يتحول إلى ربع نص الليل. وربع العصر يتحول إلى ربع الفجر. وبالعكس.. وذلك بعد مرور 45 يوما ثم تعود الأمور إلى طبيعتها خلال الدورة المائية التالية وهكذا دواليك بتعاقب الأدوار. لكن لابد من تسجيل ملاحظتين أساسيتين في هذا السياق: الأولى، أن هذا التغيير لا يؤثر على الوضع القانوني لأصحاب الحقوق. فمن يملك حق التصرف في ربع العشاء مثلا، رغم أنه مجبر بعد مرور 45 يوما على استغلال ربع تزروت، لكن ذلك لا يمنعه من تفويت أو رهن أو كراء ربعه الأصلي أو التصرف فيه بأي شكل من أشكال نقل الملكية. أما الملاحظة الثانية فتتعلق بأن هناك استثناء واحدا يجري على هذه القاعدة، حيث إن اليوم الأول من اڭزو أوقايس لا يخضع لعملية التبديل هذه، بما أن أرباعه الثمانية ثابتة دائما، ولا ينقلب نهاريها إلى ليلي ولا العكس، ولا يوجد أي تفسير معروف لهذه الحالة. وعندما يتوافق أصل الحق المائي مع نوبة السقي الفعلي (مثلا:من يملك ربع عشاء يستفيد من ربع عشاء) يسمى ذلك "لَمْسَرَّحْ". وعندما يتخالفان (مثلا من يملك ربع عشاء يستفيد من ربع تزروت)، يسمى ذلك "المَزْلوڭْ". ٭ تلازم أوقات الصلاة بمواقيت أرباع الماء حتى سنوات قليلة ماضية كان زوار مسجد قرية رشيدة يلاحظون وجود ساعتين جداريتين، تشير إحداهما إلى التوقيت العادي ويسمى في عرف القرية "الإداري"، بينما كانت الساعة الثانية تشير إلى التوقيت "العربي" الذي كان ينقص عن التوقيت الرسمي بحوالي 18 دقيقة في المعدل. هذا التوقيت كان يرتبط بيومية بوعياد وفق ما سيتم بيانه أدناه. إن هذه المسألة مهمة جدا بما أنها ترتبط ليس فقط بالإعلام بدخول وقت الصلاة، بل ترتبط أيضا بتحديد مواقيت بداية ونهاية حصص الماء. فقد جرت العادة على أن يتم تحديد مواقيت الصلوات الخمس بقرية ارشيدة، على مدى عقود، بناء عملية حسابية تلعب فيها يومية بوعياد الشهيرة دورا محوريا. فهذه اليومية تحدد مواقيت الصلاة على مدار السنة باعتماد أقصى نقطة في الشرق، وتقدم إلى جانب ذلك معدلات الفروق في التوقيت بين ثمانية من أهم المدن المغربية موزعة جغرافيا على امتداد التراب الوطني. فاليومية أشارت مثلا إلى أن وقت الظهر ليوم 4 ذي القعدة الجاري كان في 12 و 4 دقائق (توقيت غرينيتش)، وبإضافة الفروق المشار إليها فقد أذن للظهر في وجدة في تمام 12 و16 د، وفي فاس في 12 و28 د وفي مكناس في 12 و 31 د، وفي الرباط في 12 و36 د، وفي البيضاء في 12 و 39 د، وفي مراكش في 12 و40 د، وفي أكادير في 12 و43 وفي العيون في 12 و58 د. إن تحديد دخول وقت الصلاة في قرية رشيدة، كان يخضع للعملية الحسابية التالية : جمع فرق مدينة وجدة مع فرق مدينة فاس، وقسمة الحاصل على اثنين، وإضافة الناتج إلى الوقت المشار إليه في يومية بوعياد . فوفق المثال أعلاه، فإن حاصل الجمع بين فرقي : وجدة 12 د+ فاس 24 د هو 36 يكون ناتج قسمتها على 2 هو 18 د تضاف إلى 12 و4 د فيكون موعد أذان الظهر هو 12 و22 د بهذه القرية في اليوم المشار إليه. صحيح أن هذه التقنية الحسابية قد تبدو "عصرية" مقارنة بالطرق التقليدية التي كانت معتمدة في القرون الماضية، لكن هذا لا يبرر الطعن في مصداقيتها، خاصة وأن مواقيت الصلاة محددة شرعا ويمكن التحقق من ضبطها بسهولة ويسر. وبالتالي فاستعمال هذه الطريقة في تحديد مواقيت الصلاة التي ترتبط بها مواقيت حصص الماء، ليست سوى استفادة من التقنيات التي وفرها التطور العلمي، لن تغير من الواقع شيئا. ٭ مهمة عمال الماء عامل الماء هو الشخص المكلف بالإعلام بابتداء وقت حصة ماء وانتهاء أخرى خاصة في ما يتعلق بالحصص التي لا ترتبط بالأذان للصلاة. ويتقاضى العامل -نظريا- تعويضا سنويا رمزيا لا يتعدى 7200 درهم، بمعدل 20 درهما عن كل رُبْع (حصة من ماء العين)، علما أنه قل من يؤدي هذا الواجب من المتصرفين في الماء حاليا. كما يتقاضى العامل تعويضات على هامش عمليات كراء الأرباع (الحصص) تخضع لأريحية المكري والمكتري، وليست هناك تعريفة محددة. هذا وتحتكر عائلة بن الطاهر هذه المهمة منذ عقود، حيث إن أول عامل معروف الآن هو السي قدور بن الطاهر كما ذكر أعلاه، خلفه ابنه السي محمدين الذي خلفه بدوره ابنه السي محمد الذي آلت المهمة بعد وفاته إلى ابنه الأكبر السيد قدور، بينما يضطلع بها حاليا ابنه الأصغر السيد نور الدين بمساعدة السيد امحمد الخضير. وليس في هذا الأمر ما يدعو إلى الاستغراب، حيث إن العادة جرت في هذه القرية على أن تتخصص عائلات في تحمل بعض المهام (القضاء، خطة العدالة، التعليم الديني والإمامة والخطابة، السلطة الإدارية…). ومما يرويه شهود عاصروا السي قدور بن الطاهر، أنه كان يحدد مواقيت الحصص بدقة متناهية دون حاجة للاستعانة بساعة، لأنه كان يتوفر على موهبة ربانية تعفيه من الاحتياج لهذا النوع من الاختراعات العصرية، بل كان الناس يضبطون ساعاتهم عليه. ٭خلاصة إن تدبير الماء بهذه الطريقة المحكمة والعادلة نجح في تجنيب هذه القرية ويلات صراعات دموية كانت هذه المادة الحيوية سببها ووقودها وغنيمتها، علما أن هذه القرية شهدت خلال القرن 19 حربا أهلية بين ساكنة أزقتها رغم أن مساحتها الإجمالية لا تتعدى كيلومترا مربعا أو أكثر قليلا، وكان الماء أحد الأسلحة المستعملة في تلك المواجهات التي لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها. كما أن دقة هذه الآلية جعلتها أمرا "مقدسا" إذ لم يحدث أن تمت المطالبة بمراجعتها على الأقل في الفترة التاريخية التي مازالت ماثلة للأعيان. لكن هذا لا يمنع من توجيه الدعوة للقطاعات الحكومية المختصة للالتفات لهذه القرية، أولا من خلال تعزيز البنية التحتية المائية بشكل يحسن استغلال هذه الثروة ويحد من مظاهر هدرها، فضلا عن ضرورة الإسراع بإنجاز شبكة لتوزيع الماء الصالح للشرب وأخرى للتطهير السائل تفاديا لانعكاسات بعض الممارسات العشوائية على البيئة وعلى صحة الساكنة وسلامة محيطها، وثانيا من خلال استغلال مخطط المغرب الأخضر لتشجيع أنشطة فلاحية مدرة للدخل وذات قيمة مضافة من شأنها تثمين الموارد المائية المتوفرة.. بدل هدرها في زراعات ذات مردودية ضعيفة جدا.. مما يشجع على الهجرة القروية.