الدم هو السائل الأحمر الذي يجري في العروق الدموية؛ من شرايين، وأوردة، وشعيرات دموية، وينقل المكوِّنات الغذائية إلى خلايا الجسم كلها، وهو نسيج ككل الأنسجة، غير أنه نسيج مُتحرِّك، بخلاف الأنسجة الثابتة التي تلتزم مكانًا واحدًا. وهناك تعبير أدبي رائع لأهل الاختصاص في علم الطب، بأن الدم بمثابة بحرٍ زاخر بقِطَع الأسطول: فهناك سفن للإمداد، وهي كريات الدم الحمراء، وهناك سفن للدفاع تتمتَّع بقدرة على المناورة والمراوغة والاقتحام، وهي الكريات البيضاء، وهناك سفن للإنقاذ من الموت المحقَّق هي الصفائح الدموية، وهناك سفن تحمل المواد الغذائية (السكر)، وهناك سفن تحمل المواد المرمِّمة (البروتين)، وهناك سفن تحمل الفضلات. فالدمُ بحرٌ زاخر، فيه سفن (إمداد، ودفاع، وإنقاذ، وسفن تحمل المواد الغذائية وأخرى للفضلات)، كل هذه السفن تتحرك بحُريَّةٍ دون أن تصطدم بغيرِها، وبسرعات مُحدَّدة من رب العالمين، تحت مراقبة (رادار) إلهي لا يعبَثُ به البشر ولا يتدخَّل فيه أحد. مصنع الدم: المصنع الأساسي للدم هو نُخاع العظام الذي ينتج أكثر مِن 8 ملايين خلية / ثانية، وهذا النخاع موجودٌ في الضلوع، وعظم الصدر الأوسط (عظمة القفص)، والجمجمة، وعظام الحوض، والفِقرات، ونهايات العظام الطويلة في الأطراف الطويلة، ولا تتكوَّن هذه المُكوِّنات اعتباطًا، ولكن الخالق الحكيم زوَّد الجسم بجهازٍ دقيقٍ لضبط هذه العملية الإنتاجية، فإذا كان الجسمُ في حاجةٍ إلى مزيدٍ منها كما في حالات النزيفِ والصدمات، أرسل ذلك الجهازُ إشارةً إلى نخاع العظام، طالبًا منه المَدَد، وإذا كان هناك فائضٌ كانتِ الإشارةُ تكفي ذلك، والإشارة التي يُرسِلها الجسم إلى نخاع العظام عبارةٌ عن هرمون الأريثروبوتين الذي يُنشِّط النخاع لتكوين المزيد من الدم ومكوناته. مكونات الدم: 1- البلازما: وهي سائلٌ يميلُ لونُه إلى الصفرة، وتشكِّل حوالي (55 %) مِن حجم الدم، ومهمَّتُها الأساسية هي تسهيل حركة الخلايا الدموية، وتوصيل وحمل العناصر الغذائية مِن جهاز الهضم إلى سائر الخلايا، وتوصيل الفضلات الناتجة عن أنشطة الجسم المختلفة من عَرَق وبَول ونحوه، إلى الأجهزة المختصة لطرحها إلى خارج الجسم. 2- كريات الدم الحمراء: تبلُغ نسبتُها في المتوسط 5 ملايين / ملم مكعب، ومهمَّتُها الأساسية نقلُ الأكسجين من الرئتين إلى سائر خلايا البدن، والعودة بغاز ثاني أكسيد الكربون من الخلايا إلى الرئتين للتخلص منه، وهذه الكريات لها خصائص لا يُصدِّقها العقل؛ لأن بإمكانِها أن تمرَّ في مَمرٍّ ضيق – هو عُشر حجمها – بمرونة فائقة، ونخاع العظام يصنعُ في كلِّ ثانيةٍ واحدةٍ مليونَيْنِ ونصفَ مليون كرية، ويموت في كل ثانية مثل هذا العدد، وإذا ماتت هذه الكريات ذهبت إلى مقبرةٍ جماعية اسمها الطِّحال، ففي الطِّحال تُحلَّل هذه الكريات الميِّتة إلى حديد وإلى هيموجلوبين، ويذهب الهيموجلوبين إلى الكَبِد ليُكوِّن الصفراء، ويذهب الحديد ثانيةً إلى نخاع العظام ليُعاد تصنيعه مرة ثانية، فسبحان المدبِّر، وصدق الله إذ قال: ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾ [الأنعام: 95]. وكذلك الطِّحال له دورٌ آخر، وهو تخزين كمية إضافية من الكريات، يطرحها في حالة الاحتياج إليها، وبهذا يُعَدُّ الطِّحال مُستودَعًا ومقبرة في وقت واحد، فإذا لم تفِ هذه الكمِّية الاحتياطية يأتي دورُ نُخاع العظام لتصنيعِ ما يحتاجه الجسم، فإذا كان الفاقد أكثرَ مِن الإنتاج، أو حدث تعطُّل في المصانع، حدث في الجسم اختلالٌ يظهر في شكل الأنيميا (فقر الدم). حكمة الله تعالى في أدق خلية بالجسم: الكريات الحمراء خلايا مِجهَريةٌ، لا ترى إلا بواسطة المِجهَر (الميكروسكوب)؛ إذ يبلغ قطرُ الواحدة منها سبعةً من الألف (0,007) من الملليمتر، وسمكها اثنانِ من الألف (0,002) من المليمتر. وهذه المساحة السطحية لها أهميتُها الخاصة في حمل الأكسجين من الرئتين إلى الأنسجة؛ لأن تبادُلَ الأكسجين يتمُّ مِن خلال سطوح الخلايا، ويجب إتمامه بسرعة أثناء المرورِ بها. وقال أهل العلم في هذه الأرقام المتناهية في الصغر: إن مجموع تلك الخلايا يُؤلِّف مساحةً إجمالية تعادل تقريبًا حجم شبكة الهدفِ لكرة القدم! والشيء العجيبُ أن هناك أوعيةً شعرية لا يزيد قطرُها على قطر كرية الدم الحمراء، وبإذن الله تعالى تمر الكريات الحمراء في هذه الأوعية الدقيقة إلى أن تسير واحدةً تلو الأخرى في نَسَق واحد، ومن هذه الأوعية أيضًا ما يكون قطرُه أقلَّ بكثير من الكرية، فتتطاول هذه الكرية الحمراء، فتأخذ شكلًا بيضويًّا، من أجل أن تسير في هذا الوعاء الدقيق، ومن هنا منح الله تعالى تلك الكريات خاصيةَ المرونة التي تُساعِدها على دخولِ أصغر وأدق أوعية دموية، ويبلغ عددُ الدورات التي تدورها تلك الكرية العجيبة 1500 دورة يوميًّا داخل الجسم، وتقطع رحلةً يبلغ طولها حوالي 1150 كم خلال عمرها الذي يبلغ 120 يومًا، وهكذا لا تترك جهازًا أو نسيجًا أو خليةً إلا مرَّت به وزوَّدته بما يكفيه من الأكسجين. ولكي تُدرِك أهميةَ هذه الوظيفة يكفي أن تعرِف أن حرمان المخ من هذا الغاز لدقائق معدودة – لا تزيد على خمس دقائقَ – يُؤدِّي إلى إتلافِه إتلافًا كاملًا، وأما باقي الأعضاء، فقد تقاوم الحرمان من الأكسجين مدة أطول (لا تزيد على ساعة). ومِن حكمة الله تعالى أن يزيد عدد كريات الدم الحمراء في الأشخاص الذين يعيشون في الجبال، عن عددها في أولئك الذين يعيشون قريبًا من البحر، وسبب ذلك أن نقص الأكسجين في المرتفعات العالية يدفَعُ الجسم إلى تكوين المزيد مِن تلك الكريات، وتلك الزيادة تزيدُ مِن كفاءة الدم في الأكسجين، وبذلك يُعوَّض نقصه في الجسد، فتختفي الأعراض المزعجة الناتجة عن خفض الأكسجين؛ مثل: صعوبة التنفس، والإحساس بالغثيان، والقيء، والهبوط العام، وصدق رب العزة في قوله: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125]. عُمر الكرية الحمراء: يصل عُمر الكرية الحمراء إلى 120 يومًا، وعلى ذلك فإن الكريات الحمراء في الدم تتبدَّل كلها في مدى 120 يومًا، أما عدد الكريات التي تتجدَّد في اليوم الواحد، فيصل إلى 240 مليار كرية حمراء؛ أي: عدد ما يتجدَّد في فترة 120 يومًا يساوي (240 × 120 = 28800) مليار كرية حمراء في الدم الكامل، ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]. فهذه الطاقةُ الإنتاجية الهائلة لنخاعِ العظام الأحمر، هي الطاقة العادية في الظروف العادية، ولكن الجسم إذا تعرَّض لظروف غير عادية – كالنزيف وخلافه – يحتاج معها إلى ضعفِ هذه الطاقة؛ حيث وهب الله سبحانه وتعالى نخاعَ العظام طاقةً تصلُ إلى ستة أو سبعة أضعافِ طاقته العادية، إذا أصيب الإنسان بالأنيميا التي تنتج عن نقص في عدد كريات الدم الحمراء. كذلك تتغيَّر عدد الكريات الحمراء على مرِّ اليوم، ففي أول اليوم يكون منخفضًا نوعًا ما، أما في آخره فإنه يزداد نوعًا ما، كما يزداد أثناء المجهود البدني العنيف. 2 – الصفائح الدموية: لا يزيد طول الواحدة من الصفائح على 3 مِن الألف (0,003) من الملليمتر، وتبلغ نسبتها من 150,000 إلى 400,000 ألف / ملم مكعب، ومهمَّتُها الأساسية الإسهام في تخثُّر الدم، ووقف النزيف عند حدوث جرح أو نحوه من الإصابات، فهي تُسارِع إلى الوعاء الدَّموي الذي يتسرَّب منه الدم، ثم تلتصق بجداره لتسدَّه ويتم عملية التخثُّر. والصفيحاتُ ليست خلايا، بل هي أجزاء مفلطحة مِن السيتوبلازم، وهي ذات شكلٍ غيرِ منتظم، ولا تحتوي على نواة أو عضيات، ويتراوح عمرها من سبعة إلى عشرة أيام، فسبحان الله إن نقص عدد الصفائح الدموية يُؤدِّي إلى عدم القدرة على تصنيع جلطة دموية عند حدوث أي جرح، وبالتالي يستمر النزيف حتى الموت. والسؤال الآن: لماذا لا يتجلط الدم داخل الأوعية الدموية، ويتجلط خارجها؟ الدم يتجلَّط عند حدوث جرح؛ لوجود وتحويل المادة البروتينية السائلة الموجودة في الدم، وهي الفبيرونجين إلى مادة صلبة تسمَّى الفبيرين، وهي خيوط متصلبة تتجمَّع لتمنع خروج الدم من الجلد. أما عدم تجلُّط الدم داخل الأوعية، فيرجع إلى أن الدم يسري بصورة طبيعية في الأوعية التي هُيِّئت لذلك بنعومتها وتركيبها الخاص، وكذلك لوجودِ مادةِ الهيبارين التي يُفرِزها الكَبِد التي تقفُ عمل الصفائح الدموية. ومِن هنا نفهَمُ أن في الدمِ عناصر تجلُّط وعناصر تميُّع، ومن توازن هذين العنصرينِ يبقى الدمُ بهذه الحالة العجيبة، فلا هو من السيولة بحيث ينزف دم الإنسان كله في وقت قصير، فيموت، ولا هو من اللزوجة بحيث يتخثَّر ويتجلط ويسد الأوعية، فهذه معادلة ربانية دقيقة بين اللزوجة والميوعة. 4 – كريات الدم البيضاء: تبلغ نسبتها من 5 – 11 ألف/ ملم مكعب، وهي لا لون لها، وتتحرَّك في الدم بطاقةٍ ذاتية، بمعنى أنها تتحرَّك بحركة الدم، أو بعكس حركته، ومهمَّتُها الأساسية الدفاعُ عن الجسم، وتُعَد خطَّ الدفاع الأول عن الجسد، وهي في حالة تأهُّب واستعداد في صد المعتدِين؛ من الميكروبات، والجراثيم، والفيروسات، فهي تُعَد ممرضات أجسامنا ويسميها البعض (بوليس الدم)؛ لأنها تُطارِد المجرِمين بنجاح، وسبحان الله لم يستطع أحدٌ إلى الآن تحديدَ طول عمرها؛ لأن هذه الكريات جنودٌ، والجنود عامة لا تُعمَّر كثيرًا، بل تقضي نحبها أثناء القتال في سبيل الإبقاء على أجسامنا سليمةً. وكما ذكرنا في أعداد سابقة، فإن الكريات البيضاء بمنزلة جيشِ الدفاع؛ ففيه قسم استطلاع يستطلع العدو وأسلحته وخصائصه، وقسم يصنع الأسلحة، وقسم يحارب، وقسم يمحو وينظف مكان المعركة. وكريات الدم البيضاء لا تتصارَع مع الميكروبات فحسب، بل هي مَنُوطةٌ بها وظيفةٌ أخرى مُهمَّة، وهي القضاء على جميع الخلايا التالِفة التي استُهلكت، فهي تقوم دائمًا داخل أنسجة الجسم بعمل تفكيك وتنظيف المكان لبناء خلايا جديدة للجسم. الحكمة الطبية من تحريم أكل الدم: حرَّم الشرع أكلَ الدم؛ لأن الدم يحمِلُ فضلات وعوامل مرضية خطيرة؛ كالجراثيم، والفيروسات، والطفيليات، ولهذا يُعَد الدم وسطًا خطيرًا يُمكِن أن ينقُلَ العَدْوى إلى الآخرين، وأن تتكاثر فيه الميكروبات…، واستثنى الشرعُ مِن التحريم الكَبِدَ والطِّحالِ اللَّذينِ سمَّاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم دمًا؛ بسبب غناهما المُفرِط بالدم، فقال: ((أُحِلَّت لنا ميتتان ودمان؛ فأما الميتتانِ فالحوت والجراد، وأما الدَّمَانِ فالكَبِدُ والطِّحال)). نقل الدم: أُجرِيت أولُ عمليةِ نقل دم في التاريخ عام 1667م، في فرنسا؛ حيث نقل الدم مِن شاة إلى صبي مصاب بنزيف، فنجا الصبي من الموت بتقدير الله تعالى، وتَمَّت محاولةٌ ناجحة عام 1825 م في بريطانيا من شخص إلى شخص بواسطة محقنة، واستمر الأمر هكذا بدائيًّا دون أُسس علمية صحيحة، إلى أن اكتشف العالم النمساوي – كارل لاندشتاينر – في عام 1901م أن الدم له أربعة أنواع أو مجموعات أو فصائل من دماء البشر، ورمَز لهم بالأحرف (A,B,AB,O)، وأصبح بالإمكان مطابقةُ دمِ المُعطِي مع دم الآخِذ، وتلافي حصول التنافر الدموي، وكانت أولُ عملية ناجحة بأسس علمية عام 1918 م في إنجلترا. فوائد التبرع بالدم: 1- في التبرُّع بالدم أجرٌ كبير للمتبرع؛ لِما فيه من نفعٍ للآخرين، وقد يكون فيه إنقاذٌ لهم من الموت المُحقَّق. 2- يساعد على تنشيط نخاعِ العظام الذي يقوم بإنتاج جميع مُكوِّنات الدم، ويجدد خلايا الدم، فيعيد للجسم كلِّه النشاطَ والحيوية. 3- أثبتت الدراسات العلمية أن التبرُّع بالدم يُقلِّل مِن مخاطر حدوث النَّوبات القلبية. 4- يُسهِّل جريان الدم في الأوعية الدموية. 5- يُقوِّي الروابط الاجتماعية بين الناس. أخي الكريم: إن بحث الدم وحدَه أكبر آيةٍ دالَّة على عظمة الله، وهذا التنسيق والتدبير داخل أجسامنا ما هو إلا إعجاز وذكرَى للبشر، وصدق ربُّ العزةِ إذ يقول: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]. أ. د. علي فؤاد مخيمر