رصدت عدسة "ناظورسيتي" حالة إنسانية بالغة في الألم، مُمْعِنة في الوجع، مُوغِلةً في الأسى، بل هي مأساة تفجع الأفئدة حدّ النزف، ويشيب لها الوِلْدان، لرجل شاءت السماء أن تأخذ الأقدار بناصيته صوب العُتهِ والجنون، ربّما رأفةً به، طالما وراءه يقيناً حكاية حزينة لم تُروى بعدُ، على لسانه أو بالنيابة عنه من قِبل أحد، فظلّت مدفونة في صدره، فقط كلّ ما وقفنا عليه هو أن الرجل المضطرب عقليا دام يبيت في الخلاء لزمنٍ طويل، وتحديداً منذ نحو خمس سنوات، وما يزال إلى الحين على حاله، غير مراوحٍ مكانه وسط وادٍ ناشفٍ، اتخذته ساكنة دوّار البراكنة بجماعة اِيكسان، مطرحاً للأزبال. ورغم أن ذوي الذائقة الأريحية شيّدوا له حجرة صغيرة شبيهة بكوخٍ طيني يأوي إليه وقت الصقيع، ويقيه في المقابل من شديد الحرّ، فإنّ الساكنة ضاقت ذرعاً من رؤية "بقايا" إنسانٍ يعيش لسنوات حياةً "بهيمية" وسط مزبلة على أطراف البلدة، رفقة كلبين متشردين مثل صاحبها تماما، وحدهما الوفيان له، بعدما خذلته الضمائر الإنسانية ومؤسسات الإقليم المختصة التي تخرج فئة "المختلين عقلياً" عن أجندة حساباتها، لكون هؤلاء أكثر الفئات صمتاً والأكثر صوماً عن الكلام والتعبير عن كلومهم ومكنوناتهم داخل المجتمع، إذ لَمَّا تعذر على المختلين عقلياً الإفصاح عن أوضاعهم الكارثية ومآسيهم الصعبة للغاية التي تفوق التصوّرات، فلا أحد يقيم لهم اعتباراً من أصله، بل تخطى الأمر إلى درجة أنّ الجميع يفرون منهم متجاهلين إياهم وكأنهم مسوخٌ بشرية، لمجرد كونهم هكذا لا يحتجون ولا يشجبون ولا يذرفون الدمع ويَحيُون الضنك على هامش الحياة في الشوارع الخلفية للمجتمع فصاروا نسياً منسياً، مع أنّ تصرفاتهم ونظراتهم ولجوئهم نحو العزلة ولسان حالهم، لمن يجيد القراءة السلوكية، جميعها تدين بشدة عالمنا الموبوء إدانة لا تُغتفر. المأساة المعروضة أمامنا نعي مسبقاً أننا كما لو نصبّ الماء على الرمل كما يُقال في المثل المغربي الدارج، لأن مثيلاتها خارجة بالمرّة عن اهتمامات المسئولين بالمنطقة، غير أن نقلها بكلّ أمانة للرأي العام واجبٌ من صميم رسالتنا الصحافية النبيلة، وموازاةً مع ذلك، تُطلق ساكنة المنطقة المشار إليها صرخات نداءٍ، تُطالب عبرها من جمعيات المجتمع المدني، التعاطف مع المعني بالأمر، كما تحثّها على زيارة المنطقة بهدف الوقوف على المشهد المؤلم.