محمدية بريس مع حلول كل موسم صيف، تغزو اللوحات الإشهارية التي تشجع على الاقتراض من شركات القرض والبنوك، جل شوارع المدن المغربية وخاصة منها تلك التي تحتضن أعدادا كبيرة من الموظفين والمستخدمين. ولا تكتفي هذه الإشهارات باقتراح قروض استهلاك خاصة بقضاء العطلة الصيفية أو اقتناء سيارات أو ومواجهة مصاريف الدخول المدرسي، بل تتعداها لتشمل حتى المناسبات الدينية كحلول شهر رمضان أو عيد الأضحى. ويبقى مضمون هذه الإشهارات غير موضوعي وينطوي على الكثير من المعطيات الكاذبة في ظل غياب قانون لحماية المستهلك من جشع هذه المؤسسات التي يبقى همها الوحيد هو تحقيق الربح بغض النظر عن الوسيلة التي تلجأ إليها. ويعتبر مجال القروض في المغرب من المجالات الضعيفة التقنين، باستثناء بعض الدوريات والقرارات لكل من والي بنك المغرب ووزير المالية التي تصب كلها في تعيين الحد الأقصى للفوائد التعاقدية لمؤسسات الائتمان (أي شركات القرض والبنوك)، وظهير العقود والالتزامات الذي يعود تاريخه إلى سنة 1913 والذي يقوم على مبدأ "الغفلة بين البايع والشاري" وهو المرجع الأساسي في هذا المجال وخاصة الفصول من 870 إلى 878 منه حيث يشترط في فصله 871 أن يتم القرض بفائدة عبر عقد مكتوب بين الطرفين وأن يكون أحدهما تاجرا. ومادام العقد محررا من طرف شركة القرض، فإن هذه الأخيرة ستحرص من خلاله على ضمان كل حقوقها وتضمينه العديد من البنود المجحفة والتعسفية التي تجعل الزبون تحت رحمتها. وإذا أراد الزبون أن يطلع على محتواه قبل التوقيع عليه، فإنه سيحتاج إلى عدسة مكبرة حتى يتمكن من التمييز بين الحروف الصغيرة جدا التي كتب بها العقد والنتيجه أن أن المقترض سينتهي به المطاف إلى التوقيع على إعلان علمه بشروط العقد دون الإطلاع عليها. أما إذا طلب نسخة منه، فلن يحصل إلا على ملخص للعقد تحت مسمى الشروط العامة للقرض الشخصي. والأكثر من ذلك كله، أن شركات القرض أصبحت تلجأ إلى أحدث التقنيات الاستسواقية من أجل التحايل على المقترض بهدف إغراقه بالديون لأقصى مدة ممكنة وبفوائد مرتفعة. ولعل أخطر أنواع التحايل هاته، هي تلك الصيغ التي تقترحها على المقترض بإدماج مجموع ديونه في قرض واحد بدعوى أن ذلك سيخفض من الأقساط الشهرية. والحال أن تخفيض الأقساط الشهرية لن يتأتى في أغلب الحالات إلا من خلال إطالة مدة سداد الدين التي قد تصل إلى 84 شهرا. وهذا ما يجعل المقترض غير قادر على الأداء المسبق لديونه حتى ولو لجأ إلى البنوك التي تقترح سلفات بفوائد مخفضة مقارنة مع شركات القرض، وذلك لأن عملية التجميع تجعل مبلغ القرض مرتفعا علما أن أقصى مدة للسداد هي 60 شهرا في حالة اللجوء إلى مؤسسة بنكية. وحسابيا ستكون عملية شراء القرض غير ممكنة في حالات كثيرة، لأن نسبة التحمل المسموح بها محددة في 40% من الأجر الشهري الصافي للمعني بالأمر في حالة القرض الاستهلاكي. وهي عملية غالبا ما تكون في غير صالح المقترض، لأنه مع مرور الوقت يصبح القرض الجديد أكثر كلفة من القديم. والخلاصة أنه في ظل غياب رقابة صارمة من طرف الدولة وقانون لحماية المستهلك، فإن المقترض كغيره من المستهلكين، يبقى غير محمي من استغلال وجشع شركات القرض التي ما فتأت توظف كل الإمكانيات المتاحة لإغراء المستهلك وحثه على الاقتراض، إما من خلال الإشهارات الجذابة الكاذبة أو من خلال الارتباط بالمتاجر ومؤسسات البيع وتبسيطها لمساطر الحصول على قروض الاستهلاك. وإن كان للاقتراض من هذه المؤسسات، مزايا كثيرة لا يمكن إنكارها في ظل الأوضاع الراهنة التي تتميز باستمرار تدهور القدرة الشرائية بفعل الارتفاع المستمر للأسعار وجمود الأجور، فإن هذه المزايا يمكن أن تتحول إلى كابوس يؤرق المدين ويؤثر بشكل سلبي على حياته الاجتماعية متى وصلت الاستدانة من هذه المؤسسات إلى حد الإفراط التي قد يصبح معه الشخص في حالة عجز عن الأداء أي في وضعية المديونية المفرطة. ومعناها إقدام الفرد على الاقتراض دون تقدير لقدراته الحقيقية على التعهد بالتزاماته تجاه أسرته والجهة المقرضة. وليس الإدمان على الاقتراض هو وحده الذي يسبب هذه الوضعية، بل هناك عوامل أخرى لا تكون في الحسبان كالطلاق، وما يترتب عنه من مصاريف النفقة وغيرها، أو فقدان العمل أو وفاة أحد الزوجين في حالة القرض المشترك، ليصبح المقترض في وضعية عدم القدرة على تسديد الديون المستحقة عليه عند حلول أجلها. ومن هنا يتبين أن كل شخص مقترض يمكن أن يجد نفسه بين عشية وضحاها في وضعية الاستدانة المفرطة، ومن هنا أيضا تأتي ضرورة توفر البلد على آليات لمعالجة هذه الظاهرة وعلى قوانين صارمة لحماية الأشخاص من جشع مؤسسات القرض أولا ثم من أنفسهم ثانيا. وعلى الرغم من ضخامة هذه الظاهرة بسلبياتها الاجتماعية والاقتصادية، فكل ما يتوفر عليه المغرب في مجال الحماية من المديونية المفرطة، هو مجرد اتفاقية مبرمة بين "الجمعية المهنية لشركات التمويل" والوزارة المكلفة بالمالية تتحدد بموجبها الاقتطاعات الموجهة للقرض في حدود 40% فيما يتعلق بقروض الاستهلاك و50% بالنسبة لقروض السكن. وهذه الاتفاقية نفسها لا يتم احترامها من طرف هذه الشركات التي ابتدعت أشكالا تحايلية جديدة من القروض لإغراق الفرد بالديون دون أدنى اعتبار لقدراته الحقيقية على الالتزام بسدادها في حينها، تماما كما هو الحال بالنسبة لصيغة القرض المتجدد التي تقتطع أقساطه مباشرة من الحساب البنكي عوض المصدر، مع العلم أن مؤسسات القرض المذكورة تدعي أن لها قانون أخلاقيات تلتزم من خلاله بعدم إسقاط الأفراد في وضعية الاستدانة المفرطة من خلال تحديدها لمبلغ 1500 درهم كحد أدنى للأجر الذي لايجوز بعده الإقراض وهو ما تعتبره هذه الجمعية بمتابة ضمانة لكرامة المواطن حتى يدبر معيشه اليومي. واعتبارا لما سبق، تبقى الدولة هي المسؤول الأول عن هذه الوضعية مادامت لم تضع حدا للضعف القانوني المسجل في هذا المجال وتماطل في طرح مشروع القانون الخاص بحماية المستهلك على مسطرة المصادقة، الذي لا يعني فقط المقترضين بل يهم عموم المواطنين بكل فئاتهم. ومن منا لا يتذكر أو ينكر ضحايا السخانات الصينية القاتلة وحالات التسمم التي تؤدي بأرواح لاتحصى سنويا والممارسات الإشهارية التجارية الكاذبة...الخ. وجذير ذكره أن مشروع قانون حماية المستهلك الذي سبق للجنة القطاعات المنتجة بمجلس النواب أن خصصت بشأنه يوم عمل خلال شهر يونيو 2006، قد خصص قسما كاملا منه لموضوع الاستدانة وتم استنباط بعض بنوده من القانون الفرنسي لحماية المستهلك. ولعل هذا الأمر ما جعل لوبيات القرض تتحرك في كل الاتجاهات لتلقي بكل ثقلها من أجل تجميده وإبقائه حبيس رفوف البرلمان، رغم دعوة الملك إلى الإسراع بإخراج هذا القانون إلى حيز الوجود في خطابه لشهر غشت 2008 وعلى الرغم أيضا من عدم تنصيصه على إشكالية المديونية المفرطة وتحديد المسؤوليات عنها، المتضمنة في القانون الفرنسي الذي ينص على خلق سجل وطني لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة وتحميل شركة القرض ضمنيا المسؤولية عنها إذا تبث أن طالب القرض لم يدل بمعلومات كاذبة أو وثائق مزورة. ومن البنود التي جاء بها هذا المشروع، إلزامية منح شركة القرض للمقترض أجلا للتفكير قبل الإقدام على التوقيع النهائي على عقد القرض. وحدد الأجل في 7 أيام بالنسبة لقروض الاستهلاك وفي 15 يوما بالنسبة للقروض العقارية مع إمكانية التراجع خلال مدة 7 أيام بعد التوقيع على العقد. كما ألزم شركة القرض والبنك بتقديم عرض مسبق للمستهلك يكون مصاغا بشكل واضح ومتضمن لكل تفاصيل القرض وأن يبقى هذا العرض صالحا لمدة 15 يوما حتى يتمكن الشخص الراغب في الاقتراض من تقييم العرض ومقارنته بالعروض الأخرى المقدمة من طرف مؤسسات مشابهة. ولجمعيات المجتمع المدني المعنية بقضايا الاستهلاك نصيبها من المسؤولية كذلك مادامت لا تعمل على تعبئة المواطنين وتوعيتهم بحقوقهم وواجباتهم. وضعف الوعي هذا، يرجع في قسط وافر منه إلى ضعف مستوى الإعلام السائد بالبلد وطبيعة اهتماماته وتوجهاته وعدم قدرته على الالتصاق بهموم الشعب.