الرقص بلاغة الحركات، المرتفع بالروح والجسد.. محمد القنور عدسة محمد سماع محمد القنور . عدسة : محمد سماع. الرقص أقدم الفنون ، وأعمق مايمكن أن يصفه العلم بتفاعلات الجسد الحي مع الطبيعة،فهو موجز جميل لتاريخ بلاغة الحركات وروعة الأبدان في الكائنات الحية التي يعلو سلم ترتيبيها الإنسان. والرقص أقدم من اللغة نفسها، وأذكى من التاريخ، وأصدق من أقوال الحكماء، وأقدر من الجغرافيا على رسم ملامح المسرات والتأوهات، بل الرقص أحيانا أعنف من المكائد والأعاصير والبراكين، وقد يكون أكثر دموية من الغزو نفسه والسطو على الممتلكات،وأرق نعومة من إبتسامة الرضيع ونظرة الأم الحنون، وأشد جاذبية من الأمطار والجواهر والأبطال وفنادق الخمسة نجوم ، وحكايات الجدات، لأنه ليس سوى الشعر في الحالة المتحركة والمجسدة، ينبث في الموسيقى ، ويسقى بأنغامها،وألحانها، ليعطي صياغة جديدة للأعضاء، صياغة أخرى، ترتفع بها عن مهامها المخصصة لها كأعضاء، لتصبح تكلات يانعة للحركات، تتماوج مع الضياء والأضواء والظلال ومختلف العناصر المؤثرة في الحياة. وفن الرقص قديم قدم الإنسان نفسه حيث استطاع عبره تأمين حاجياته من مأكل ومأوى ووجد فيه المتعة والمتنفس لانفعالاته، والمعبر عن فهمه المتواضع لحالة ما، او حدث وقع له، انه المتعة الأولى التي يمارسها عمليا بوعي قاصر تطور مع مرور الزمن بتطور وسائله، وأصبح بأدواته الجديدة أكثر تعبيرا واكثر فاعلية في حياة الشعوب حتى وقتنا هذا، واذا كانت الطبيعة حوله تتحرك وتحرك معها الماء والرياح والأشجار والأعاصير والبروق وتضرم النيران وتخيف الحيوانات والإنسان، إلا أنها في النهاية مجرد حركات إيقاعية، فكان من الطبيعي أن يبتكر الإنسان حركته الإيقاعية لتعبر عن شعوره، لقد رقص تعبيرا عن الفرح وتعبيرا عن الطقوس، تحدث مع جماعته بالرقص ومع الحيوانات على مختلف أنواعها بالرقص، ومع آلهته بالرقص وصلى لها بالرقص وشكرها بالرقص. في حين تؤكد البحوث العلمية على أن الرقص ينشط الذاكرة ويساعد الجسد في بناء عضلات متناسقة إضافة الى إسهامه في تعزيز الثقة بالنفس، إلى درجة قررت فيها بعض البلدان الإسكندنافية كالسويد وفلندا إدراج الرقص كمادة إجبارية في برامج المدارس الابتدائية والمتوسطة. وأجمل الراقصين والراقصات ، نحلات العسل، و”سالومي” وهي تقدم للحاكم رأس النبي يحي، على الأقل في لوحات التشكيليين النهضاويين، مثل “رافائيل” و”دافنشي” و”بليني” و”كرافادجيو” وذكر الحمام في حالة الهيام بأنثاه، والشعب المغربي إذ يفرح بالملاحم والإنتصارات،من الكروية حتى التاريخية ، ومدراء الدواوين، والقمر إذ يتسلل من بين ثقوب السحاب الخفيف الشفيف، والفنانة نبيلة عبيد في فيلم الراقصة والطبال ، أمام النجم الراحل أحمد زكي، والمبدعة المغربية “حكيما” العروسي، والجدة عندما تستقبل أول حفيد لها، وراقصات الباليه في أوج الإندماج التعبيري، وقرود ساحة جامع الفنا،وطيور الكركي،والموظف الساعي إلى قلب المدير، والمايسترو موحا أشيبان في إستعراضات أحيدوس، وزملائه في الفنون الشعبية كراقصي “أڭلڭال”، والركبة، وتراقص الهدافين أمام شباك الخصوم في مباريات كرة القدم، ورقصات السياسي وقت المواسم الإنتخابية،وتشينويت رائدة الأغنية الأمازيغية، ومايكل جاكسون ذو الرقصة الفريدة و السحرية. الرقص بلاغة الحركات، المرتفع بالروح والجسد.. محمد القنور عدسة محمد سماع ومن أكثر أنواع الرقص دموية رقصة “عيشة الكونتيسا” التي نسميها بالمغربية الفصيحة “قنديشة” وهي تغوي العابرين والغزاة من جحافل البرتغاليين ب”مازڭان”،خلال القرن الوسيط ، وتستدرجهم من حصونهم المستوطنة على سواحل عبدة ودكالة نحو حتفهم، طبعا قبل أن تتحول “عيشة” إلى حكاية مخيفة، لها قوائم بقرة وقرني معزة، ورقصة العنكبوت الأرملة، ورقصة الثأر عند الهنود الحمر،وترقيص مراسلي الصحف على الإيقاع الجشع لبعض رؤساء التحرير،ومدلليهم في المراكز الرئيسية للجرائد، ممن هم وهن محسوبات على مهنة المتاعب دون علم من النقابة الوطنية للصحافة المغربية، ولا حتى من زملائهم وزميلاتهم ممن يكدون طول النهار وأناء الليل، ورقصة ذكر النحل قبيل فراقه القاتل لملكة الخلية، والتهديد بالترقيص في المحاكم ومصالح الضرائب، ومخافر الشرطة، والرقص مع بعض الكلاب والثعابين. وإذا كان الرقص في عمومه إستجابة لرغبة داخلية، وتفاعل قوي وباطني، يتوافق مع عوامل خارجية تشتعل مع النغم،ويحدوها الإيقاع واللحن، فإن الترقيص يتم بإستثارة خارجية، وبدون رغبة من الراقص أو الراقصة. أما كثير الرقص، فهو الرقاص، كالعقارب الموجودة في الساعة، والتي يسميها المغاربة بالرقاص تفننا وبلاغة، إذ ليس بينها وبين العقارب ، سوى الخير والإحسان، لتسارع إيقاعاتها الراقصة، وإن كان البعض يلاحظون تباطئها بعد الخامسة مساء في كل شهر رمضان من السنة، والرقاص إسم إختص به ساعي البريد في مغرب السلاطين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ربما لأنه كان له مدار بين القبائل والمدن يعتاد على المرور منه ، ولايخرج عنه مثل رقاص الساعة،كما يطلق الرقاص على حامل رسائل العاشق الولهان إلى ملكة الأحلام ، كما “رقاص” عويشة في حكايات حراز “عويشة” ومسرحية المبدع الطيب الصديقي، والساعي بالوشاية بين الناس،والحملة الصغار فناجين القهوة والمشروبات والسندويتشات من المقاهي إلى المكاتب والمصالح المجاورة، وكتبة الشكايات والطلبات أمام مقرات البريد المركزي، والمشعوذين والمتاجرين في الشعارات. ورغم أن المجتمعات العربية تتحفظ في وعيها الجمعي عن الرقص، فإنه يظل المحظور المرغوب فيه، عند الكثير من الشبان والشابات. وتحضرني حادثة في هذا الصدد، فبعد الربيع العربي الذي عصف بالكثير من الأنظمة العربية الديكتاتورية والعسكرية، وصعود التيار الإسلامي في أكثر من بلد عربي، قالوا لراقصة مصرية: “الإخوان المسلمين ها يْمْسِكوا الحكم في مصر”. قالت: “ومالو نمثّل معاهُم”. قالو لها: “إزايْ؟” قالت: “أكيد هح يِعْمِلُو مسلسلات دينية، وعاوْزِينْ كفار”. موحى والحسين أشيبان مايسترو رقصة أحيدوس / محمد القنور / عدسة محمد سماع وعلى خلاف الرقص الشرقي، الذي يعتمد على الحركة المتسارعة، والإلتواءات الضامرة، فإن الرقص المغربي بمختلف تلاوينه الأندلسية والعروبية والأمازيغية والحسانية والعبرية،يتدرج من الحركات الهادئة التي يستحوذ عليها الايقاع والنغمة المسترسلة على الاجساد إلى “الجدبة” التي تكشفها آواخر الكثير من مقطوعات “العيطة” بكل أنواعها، وبعض أنماط الفلكلور المغربي الأمازيغي، كرقصة الركبة المنحدرة من واحات زاڭورة، ورقصة “إڭلڭال” . وعندما نعود بذاكرة التاريخ الى الماضي البعيد وبالتحديد قبل الميلاد بألف عام، حيث كانت تسود وقتئذ عقائد وثنية متعددة في وادي النيل وبلاد الرافدين، ويبدو من نقوش قدماء المصريين، ونقوش الاشوريين على جدران معابدهم، ان نوعا من الرقص كان يمارس ضمن الشعائر الدينية يشبه الى حد بعيد الرقص الشرقي في عصرنا هذا. الراقصة االمبدعة المغربية "حكيما" العروسي .... محمد القنور عدسة : محمد سماع حيث كان الناس حينذاك يتقدمون الى الآلهة بأفضل ما لديهم للتقرب والتكفير عن الخطايا، وكانت الآلهة في طبيعتها رموزا لمواطن القوة والغنى والخصب والنماء في الطبيعة المحيطة بالانسان، وكانت هذه الالهة تختص في معتقد أتباعها بعناصر الخصوبة والنماء وحيث كانت وظيفة الخصوبة ترتبط رمزيا بالأنثى، فقد بدا من الطبيعي تقديم فتاة عذراء لتصير في خدمة الآلهة للتقرب إليها. كانت تقدم نوعا من الرقص في المناسبات والأعياد والشعائر الخاصة كطقس من طقوس العبادة والتقرب، وكان هذا النوع من الرقص يبرز الجزء الأدنى من البطن أو “الرحم” باعتباره مصدرا للخصوبة التي تمنحها الآلهة وهذه الصورة ظلت تقليدية لعدة عقود، وهي صورة الراقصة الآن التي تستأجر في حفلات الأعراس، وما تقوم به من حركات تشبه – حين نعود بذاكرتنا – رقص كاهنات عشتار وحاتور. بعد انكماش رقعة الوثنية في بلدان العالم الإسلامي، بفعل الفتوحات الإسلامية،انتقل الرقص من طقوس المعابد، الى حانات اللهو وصار طقسا من طقوس المتعة التي تقدم للعادي والبادي. ولعل أشهر من قدم الرقص هم الغجر أو “الخيتانوس” الذين سرت هجراتهم عبر القرون الوسطى من الهند وفارس عابرة الشام ووادي النيل الى جنوب اوروبا وشمال افريقيا والاندلس القديمة، وهم أقوام يستمسكون بعادات وتقاليد خاصة لا يميزهم دين ولا تجمعهم امة، درجوا عبر الأزمنة على التجارة، واحترف كثير من نسائهم الرقص وتقديم المتعة للجنود والتجار والمرتحلين، وسمين في مراكش ب “الشاميات” حيث كن يتواجدن بمقاهي درب ضباشي وحي القنارية وروض الزيتون القديم. وكانت هؤلاء الشاميات يتميزن عن الغجريات الأخريات بوفرة إطلاعهن على فنون الموسيقى والتمييز بين الألحان، وضروب الحركات الراقصة، بل منهن من كن يتقن العزف على العود ، كانت هؤلاء الشاميات يرتدين جلابيب طويلة مسبلة، ولا يزدن عليها إلا قطعة من القماش أو الحرير، يربطنها حول خصورهن . وتعتبر الراقصة نور التي أُجريت لها عملية تحويل جنسي من الذكورة؛ وفشلت في الحصول على حكم قضائي يقر بتغيير اسمها من “نور الدين” إلى “نور”، من أشهر الراقصات المغربيات المثيرات للجدل والأضواء والآراء في الساحة الوطنية. وأكد مصدر ل “مراكش بريس” أن الراقصة رغم مرور سنوات على إجرائها عملية التحويل الجنسي لها بمدينة لوزان السويسرية؛ لم تتمكن من تغيير اسمها من “نور الدين” إلى “نور “، بعد أن رفضت المحكمة الابتدائية لأڭادير طلبًا تقدَّمت به بهذا الخصوص، وهو الحكم الذي أيَّدته المحكمة الاستئنافية للمدينة نفسها. واستند قرار المحكمة إلى أن تقريرًا طبيًّا خلص إلى أن التكوين الجنسي للراقصة ذكوري، كما استندت المحكمة في قرارها ذلك إلى الملف الطبي المنجز في سويسرا. وتعود أزمة الراقصة نور التي يمر على محنتها عام جديد بحلول عام 2012، إلى كونها وُلدت “خنثى”، وعاملها محيطها العائلي على أساس أنها ذكر، لكنها اختارت أن تكون أنثى وتفرض أنوثتها على العالم كله. وتقول نور ل “مراكش بريس” التي إلتقتها في مهرجان الرقص الذي إنعقد السنة المنصرمة بمراكش ، إنها تحملت الكثير لكي تخرج الأنثى التي عاشت داخلها منذ طفولتها، وتجعل منها إنسانة مشهورة يتحدث عنها الجميع في حضورها وغيابها، بعد احترافها الرقص وعروض الأزياء. الرقص بلاغة الحركات، المرتفع بالروح والجسد.. محمد القنور عدسة محمد سماع والواقع، أن الراقصة نور تبدو لكل من يقع نظره عليها امرأة ناضجة وكاملة الأنوثة، بتقاسيم جسدها الأنثوي المتناسق، وملامحها الجميلة.. سيدة فارهة الطول، في مشيتها دلال،وغنج وفي حركاتها أنوثة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يفكر أحد أن هذه الأنوثة كانت في يوم من الأيام “ذكرًا” قبل أن تُجرَى لها عملية تصحيح للجنس في عام 2004 بمدينة لوزان في سويسرا بعد أن رفض أطباء في المغرب إجراء تلك الجراحة لتصير على ما صارت عليه. وتؤكد نور في كل البرامج التي تستضيفها، واللقاءات الصحفية التي تُجرَى معها، أنها ضحية عيب خلقي فيزيولوجي في تكوينها الجسدي، محاولةً بالتصريحات نفض الغبار عن كل ما من شأنه التشكيك في أنوثتها التي تناضل من أجل إثباتها على أرضية الواقع. ورغم إجراء العملية التقويمية ل”نور الدين” التي أخرجت الأنثى التي كانت بباطنه ، فإن هذا الأمر لم يشف غليلها، وأصرت على أن تتوغل في عوالم الأنوثة والنعومة والطلاوة عبر اختياراتها المهنية، فاحترفت عروض الأزياء قبل أن تبلغ العشرين من العمر. وتجدر الإشارة، أن نور اشتغلت لصالح عدد كبير من دُور الأزياء الإسبانية قبل أن تقرر العودة إلى المغرب، وامتهان الرقص الشرقي الذي تدرسه الآن وتمارسه بصفتها فنانةً استعراضيةً. وهو المجال فتح الباب على مصراعيه أمام نور لدخول عالمَيْ الأنوثة والشهرة من أوسع أبوابهما؛ فهي تعمل أستاذة رقص داخل وخارج المغرب؛ تقيم ورشات رقص في أمريكا وكندا وفي إفريقيا ومصر، وقد حصلت على شهادة مؤخرا باعتبارها سفيرة للرقص عبر العالم.