لقاء ممتع ذلك الذي أتحفنا به الباحث المغربي الدكتور محمد الولي، ارتحلنا معه في عوامل الصراعات الإيديولوجية في الساحة المغربية، ومنها الصراعات الإسلامية الحركية والعلمانية، أو صراعات ضحايا "العمي الهوياتي" أو "العمى العاطفي"، حيث يعلن طرف من المجتمع الحرب على الطرف الآخر. هام جدا أيضا، وصف الولي زيارة بعض النشطاء الأمازيغيين المغاربة لإسرائيل، كونها لا تسيء للعرب وللفلسطينيين، بقدر ما تسيء إلى الفضيلة الإنسانية. ندعو القارئ الكريم لتأمل أجوبة محمد الولي، في واقع البحث العلمي بالدول العربية مقارنة مع الحالة التركية والإسرائيلية، التحديات الجمّة التي تواجه الهوية المغربية، وقضايا أخرى في هذا الحوار. + إذا سلّمنا بأن الكيان العبري وتركيا وإيران، تعتبر أهم أقطاب البحث العلمي والتنمية الثقافية في منطقة الشرق الأوسط، فما الذي يحول عمليا دون أن نجد دولا عربية في نفس خانة هذا الثلاثي؟ هل الأمر يتعلق بإرادة سياسية، أم بتواضع أداء المؤسسات الأكاديمية، أم بتواضع مؤسساتي عربي شبه مُعمم، بخصوص الرهان على البحث العلم؟ ++ لا وجه لمقارنة هذه الدول بالدول العربية، ولو أنه تجوز مقارنة هذه الدول في ما بينها، فهي تتشابه من حيث إن لها مشاريعها الخاصة في كل المجالات العلمية والسياسية والعسكرية والاجتماعية الخ. إلا أن أهم ما تتفق فيه هذه الدول هي أطماعها التوسعية في محيط الشرق الأوسط، وهناك أيضا تنافس على التهام الشرق الأوسط بين إسرائيل وإيران. ويبقى الطرف الإيراني ضعيف جد مقارنة بإسرائيل، إذ إن أعداءها في المحيط كثر، في حين أن حلفاءها ضعاف: حزب الله وسوريا وحماس. ولا وزن لشرف قضية هذه الأطراف أمام الترسانة النووية الإسرائيلية. بالنسبة لتركيا، لقد نهضت متأخرة بعض الشيء بسبب محاولاتها الاندماج في الوحدة الأوروبية وإشاحة وجهها العلماني الكمالي القومي، عن العالم العربي؛ وبسبب عقدة تاريخية تتعلق بماضيها العثماني. إلا أنها حينما استفاقت بفعل اصطدامها بجدار الوحدة الأوروبية، وسماعها ضجيجاً على أبوابها بين متشاجرين على غنيمة الشرق الأوسط أحست وكأنها وصلت متأخرة، إلا أن القاعدة تقول أن "الوصول المتأخر خير من عدم الوصول"، ولذلك، فهي لا تتطلع إلى الفوز بقسط من جثة "الرجل المريض" في الشرق الأوسط فقط، بل إن فرائصها ترتعد من تغول إسرائيل خاصة، ومن مشاريعها المتمثلة في التهام الشرق الأوسط بالكامل بعد أن أحكمت القبض على جزء منه. محاولات تركيا تسعى إلى لجم هذه المحاولات، لا منعها. كما أنها تريد أن تبين للغرب ولأوروبة أن هناك لاعباً يتمتع بالثقة الشعبية في تركيا وفي الشرق الأوسط، وأن هذا يؤهلها للعب الأدوار المهمة في صحراء الشرق الأوسط. وهذا الأمر قد يؤهلها أكثر للدخول إلى المنظومة الأوروبية. هناك تضييق الخناق على تركيا من طرف إسرائيل خاصة وجزئياً من إيران. إلا أنه التهديد الحقيقي هو إسرائيل لأن إيران غارقة في مستنقعها المحلي والدولي ولن تنفك منه إلا بثمن مرتفع. وهي غير مقبولة في الغرب بسبب نظامها السياسي النزاع إلى الاستقلالية واكتساب التقنية العلمية وجسارته على قول: لا! لأمريكا. وهي مرفوضة عند العرب بسبب مذهبها الديني. وبسبب سياستها التي تكتسب أنصاراً في العراق وفي لبنان وفي سورية وفي غزة. هذا الوضع يجعل إسرائيل اللاعب الوحيد في الشرق الأوسط. إنها الخطر الحقيقي. أعتقد أن أكبر خطر يهدد الشرق الأوسط هو وجود إسرائيل، لأننا نتحدث عن دولة قامت على طرد شعب من أرضه وحشرت مكانه شعبا جمعته جمعا من كل أقطار العالم. كما أنها تعمل كل شيء لجعل إسرائيل دولة دينية يهودية، وهذا يعني أن مشروع طرد ما تبقى من الفلسطينيين داخل إسرائيل، أي "اتْرانْسفِير"، قابل للتنفيذ في أية لحظة، كما أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا حدود لها رسمية، بمعنى أن كل العالم العربي، يمكن أن يكون محل أطماعها. بطبيعة الحال لا تستثني هذه الأطماع الدول التي ترتبط معها باتفاقيات سلام، بل إن تلك الدول هي اللقمة السائغة. إلا أن أهم نقط قوة إسرائيل هي ضعف الدول العربية. ففي الدول العربية ما تزال الأمية متفشية بشكل مخجل. أما سوء التغذية، وفي بلدان مثل السودان التي كان يقال لنا إنها هي وحدها يمكن أن تغذي كل القارة الإفريقية، فهذا أمر أصبح مسلما به. + ما هي قراءتك للواقع المجتمعي في المنطقة العربية عموما؟ + أبدأ بأوضاع المرأة، والتي تتردى إلى مراتب لا تليق بالآدميين، بدليل أن العبودية ما تزال تجد لها موطئ قدم في العالم العربي، وخاصة في موريتانيا، فهي محرمة قانوناً ولكي الواقع يقول شيئاً آخر، كما أن الطفولة مهدورة، وهؤلاء لا يشتغلون في المعامل فقط بل تشتغل الفتيات والصبايا في البيوت حيث يعانين من تحمل حياة العبودية الحقيقية. البطالة من جهتها متفشية، والصحة تتردى إلى مراتب مخجلة، أما مشكل السكن، فإنه يؤرق أغلب المغاربة والعرب عموما، وهل نذكر مصر حيث يحتمي المصريون المحرومون بالسكن في المقابر قبل الموت. ما جدوى الموت إذن بالنسبة إلى هؤلاء؟ أما مدن الصفيح فإنها تحتل فضاءات مترامية في المدن المغربية. والفساد الإداري ينخر كل المؤسسات، والأملاك العامة مستباحة، والثروات الوطنية غير مراقبة، ثم إن الكفاءة غير ملتفت إليها في اختيار المسؤولين، والمحاسبة والتقويم والنقد كائنات غريبة عندنا. الفوارق الاجتماعية مرعبة، حيث الطبقة المتوسطة تتزاحم في الأسواق الشعبية مع الطبقات الدنيا، نحن أمام مواجهة حقيقية بين أقلية ترفل في الغنى الفاحش وغير الشرعي وغير المشروع، وبين أغلب الشعب المقهور وهناك دفع حقيقي للطبقة المتوسطة لكي تلتحق بالطبقات الدنيا. أما التعليم، فإنه يعيش مفارقة حقيقية، لأنه بدون بوصلة موجهة وتخطيط محكم، نجد أنفسنا أمام أقسام متكدسة وبرامج ومقررات يتم إعدادها على عجل، وهي المقررات التي تجعلنا، حينما نقارنها بالقرارات الأوروبية، "نبكي الدم" كما يقول أهل الريف المغربي، وبالنسبة لمحرري هذه المقررات، فإنهم من النكرات المدفوعة دفعا إلى التأليف في مجال ينبغي قصره على العلماء، لأن هذه وسائل تربية شعب كامل، وأعتقد أن ما يجوز في التهريب لا ينبغي قبوله في التأليف المدرسي، ثم إن المدرسين كالتلاميذ لا يحظون بتقويم حقيقي جدير بالثقة، والنتيجة، أصبح المستوى يَتدَنَّى بسرعة تتحدى كل الصواريخ، بحيث أن حامل البكالوريا لا يمكن أن يأخذ الكلمة لمدة خمس دقائق بالعربية أو الفرنسية ويتحدث بأسلوب يستوعب الحد الأدنى من السلامة اللغوية والحجاجية والبرهانية والبنائية. التعليم العلمي يلقن في الثانوي بالعربية وفي الجامعة بالفرنسية. والجامعة التي تعتبر في الدول الراقية حاضنة البحث العلمي والابتكار التقني والنظري، أصبحت مجرد أقسام تلقن وتحفظ فيها دروس مكرورة. والبحث العلمي هو مبادرات فردية عصامية، وإذا كانت هذه العصامية مثمرة في العهود الغابرة، فإن التطورات القائمة اليوم، تتطلب من البحث العلمي تأسيس مختبرات وتجهيزات وتتبع لما يجري في العالم وبراءات ابتكار هي بمثابة رأسمال جبار، إذ يمكن تسويقها في العالم، وكل هذا غير متوفر عندنا. أليس من المخجل أن نسمع مثلا، إشاعة استيراد بذور الطماطم من إسرائيل، وهي بذور تستورد من العالم "المتقدم" ويتدخل فيها العلم وتعطي غلة واحدة، الشيء الذي يلزم بالتوجه في كل موسم الغرس أو البذار للتسوق من مختبرات الغرب بالأثمان المفرطة الغلاء. هذه المعاملة الغربية في هذا المضمار وصفها الفيلسوف والعالم الفرنسي ألْبِيرْ جَاكَارْ بأنها ديكتاتورية حقيقية تسلط على العالم الثالث. + هذا سرد لأوضاع سوداوية في واقع الأمر.. ++ المرعب حقاً هو فقدان الأمل والإحباط الكاسح لقلوب الناس والشعور بانسداد كل الآفاق. وهيمنة روح الأنانية ونزوع الناس نزوعاً جارفاً إلى التماس الخلاص الفردي أو العائلي الضيق. وخيانة النخبة، بل المثقفين الذين يُعتبرون حملة مشعل التقدم والتضحية لقيادة الشعوب. وفي مناخ مثل هذا يهيمن التشتت، بل التَّذَرُّر، ويرافق هذا، التملص المخيف من أداء الواجب. في هذا الجو انحطت القيم، كل القيم، إلى الدرك الأسفل، من قبيل انتشار الموبقات كالسكر والمخدرات والعهارة والعمالة والمثلية المعلنة والنفور من الزواج وتأخره بالنسبة للأغلبية وفشل المتزوجين وعجزهم عن بناء بيت الزوجية بسبب الضائقات الاقتصادية وهيمنة الانتهازية والأنانية وانعدام الحب الذي يذبل في سعير الحياة اليومية، بل وشيوع الخيانة الزوجية؛ وأعتقد، أنه في ظل هذا الوضع، يمتد سن الطفولة ويبتعد سن الرشد، بحيث أنه من المعتاد أن يتكفل الأب بالأبناء إلى سن الثلاثين وبعد الثلاثين، وأحياناً يرافقهم بالدعم المادي والمعنوي بعد الزواج.. إنها صورة قاتمة حقا. + "استحقاقات مواجهة إسرائيل، فرضت التضحية بمقتضيات تشجيع البحث العلمي"، هذا أهم رد تروجه أغلب الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية بشكل عام، بخصوص تواضع أداء المؤسسات العلمية، ونحن نأخذ بعين الاعتبار أنه في الحالة الإسرائيلية، هناك دعم أمريكي وازن على جميع الأصعدة. إذا سلّمنا بهذا التبرير، كيف نفسر تقدم أداء المؤسسة العلمية في الحالة التركية مثلا مقارنة مع الحالة العربية القطرية؟ ++ هناك شيء أساسي ينبغي الاتفاق عليه، وهو أن الثروات الوطنية في العالم العربي مهدورة. أي إنها تدبر تدبيراً سفيهاً. هذا هو قلب المشكل، أما الحديث عن الخيار الديمقراطي، فإنه يتطلب التذكير بأن عجلة الديمقراطية لا يجرها شعب يرزح تحت نير الأمية، بل إن الديمقراطية في هذه الحالة يمكن أن تكون وبالا، بالصيغة التي نجدها مثلا في الديمقراطية في الولاياتالمتحدة؛ والتي تكاد تنتج نظاماً إجراميا، والأمر أفظع مع إسرائيل التي يقال إنها ديمقراطية، ولكن هذا لم يمنعها من أن تكون نظاماً عنصرياً أصولياً تطهيريا. تكمن مشكلة العالم العربي في أن الحكومات تتصرف في المال العام والأملاك العامة بدون حسيب أو رقيب. المفسدون متخمون إلا أنهم يستميتون في التصرف كجائعين. لهذا نفهم حكمة جبران خليل جبران، التي تعبر عن جرحنا الغائر هذا: أشْبعْ يَاإِلَهِي الْمُتْخمِين! ونفهم بيت أب الطيب المتنبي التي تعبر أجمل تعبير عن وضعنا الآن، وبالخصوص نفهم ما "يحدث في مصر الآن": نامتْ نَواطِيرُ مصرٍ عن ثَعالِبهَا قد بَشِمنَ ومَا تفْنَى العَناقِيدُ. لقد أحسن المتنبي وصف ما يحدث في مصر وباقي العالم العربي اليوم. ومما يلازم هذا الهدر، الفساد، وأتحدث عن الفساد في كل شيء، بحيث تكاد أغلب المؤسسات تعاني من هذا الفساد، ومعلوم أن الإدارة الفاسدة تعيد إنتاج الفساد وتعمقه، ويبدو المجتمع كأنه مستسلم للعبة التفرج على الفساد، أو منشغل بالحيل التي تؤهله لنيل حقة من الثمرة الفاسدة. + من السهل مؤاخذتك بأن تُروج لخطاب عدمي.. ++ أبداً. انظر إلى دولة مثل كوريا، ولنأخذ بعين الاعتبار تاريخ استقلالها وانقسامها إلى دولتين ومعاناتها مع ويلات الحرب الأهلية، وقلة الموراد.. رغم ذلك أين هي الآن، حيث ترتعد فرائص الولاياتالمتحدة من جبروتها الاقتصادي، وهناك أمثلة أخرى دالة، وأعتقد أن حسن التدبير لا السفاهة، هو وحده الذي أوصلها إلى حيث هي الآن. ما يصرف في مشاريع التنمية هو أيضاً غير مراقب مراقبة حقيقية في أغلب الدول العربية، ولا يمكن للعلم أن يتطور في مثل هذا المناخ، لأن النهضة تتطلب يتطلب الحرية والاستقلال والتوفر على برامج تنموية ووضع خطط للتصنيع وضمان السوق المحلي والخارجي والأهلية التنافسية وإعداد برامج علمية قادرة على الحياة. + كيف نقزم من الدعم الأمريكي لإسرائيل؟ ++ صحيح ما يقال على الدعم الأمريكي لإسرائيل، إلا أن الإمكانيات المتوفرة للعالم العربي أكبر بكثير مما يتوفر لإسرائيل وأمريكا، لولا أن ثروات العالم العربي غير مراقبة، بل منهوبة. ومن يجرؤ على الكلام، ولا أعتقد أن العلم يمكن أن يجرؤ على ذلك. أشعر بالخجل من الحديث عن العلم في بلدنا، لأن النسبة المئوية من الدخل الوطني المرصود للبحث العلمي هزيلة، ونتائجها غير دالة، كما لو أننا ندور في حلقة مفرغة، أما المجهودات القائمة، فتبقى عصامية، وغير منظمة وغير مندرجة في برنامج عام تحديثي. + سبق لمحمد الولي أن حاضر بمقر مؤسسة "منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين" في موضوع "الهوية المغربية". هل يمكن القول أن هذه الهوية، تواجه تحديات عقدية ومذهبية جليّة خلال السنين الأخيرة، على هامش صدور ممارسات ميدانية لبروز متشددة، سوءا تعلق الأمر بتشدد إسلامي حركي أو أمازيغي عرقي صرف أو علماني؟ ++ العلمانيون الحقيقيون عندنا حالات نادرة. وأكاد أقول لا يوجد عندنا علمانيون بالمعنى الحقيقي للكلمة. لأن العلماني عندنا يتوهم أن شتم الإسلاميين هي بطاقة مرور إلى نادي العلمانية، وارى أن أغلب العلمانيين عندنا يمارسون هذه العادية. ليس هناك نقاش حقيقي بين العلمانيين والإسلاميين، وأعتقد أن من يدعون العلمانيين يتعمدون هذا التجاهل. والسبب معروف وهو أنهم يعرضون بسلوكهم هذا خدمة. وبخلاف ذلك، أنظر كيف يتحدث إدْغارْ مُورَانْ عن الإسلام مثلاً وعن الحجاب، وتأمل، كيف يتحدث خوان غُويْتيسُولُو عن الإسلام وكيف يتحدث أَلَانْ غْرِيشْ وكيف يتحدث أنْدرِي مِيكِيلْ عن الإسلام وجَاك بِيرْكْ وجُورْجْ غَالَوِي وإدوارد سعيد إلخ.. كلام هادئ وموضوعي، رغم أن هؤلاء ينتمون إلى ديانات غير الإسلام وأحياناً غير متدينين، إلا أنك تلمس في كلامهم روحاً من الإخلاص والود والاستعداد لأخذ الحكمة من الإسلام وغير الإسلام. أنظر مثلاً حديث العلمانيين المزعومين عندنا. لو تم فصح خطابهم فحصاً دقيقا، لوجدته جديراً بأن يوصف بالتردي الأخلاقي، ناهيك عن العلمي. إنه يوزع الشتائم بدون أدنى مراعاة للحق ناهيك عن الحقيقة. كان أجدر بالعلمانيين عندنا أن يتعلموا من المتكلمين العرب في العصور العباسية، حيث يلتقي ممثلوا كل المذاهب والنحل والديانات، بل حتى الوثنيين والكفار والزنادقة كانت تحتضنهم هذه التجمعات. ولم يقل أحد من هؤلاء لمحاوره إنه يشتغل بأجندة إقليمية أو إنه مخابراتي أو إنه غير وطني أو إنه يتلقى أموالاً من دولة أجنبية أو إنه إرهابي أو إن حساباته البنكية ينبغي أن تراقب لأنه يمول الإرهاب.. إلخ. وفي الجهة الأخرى، نجد خطابا شبيها إلى حد ما بخطاب المشنعين، كأن هناك في الطرفين إصراراً على تمزيق خطوط التواصل والحوار، وكأن كل طرف يريد من الطرف الآخر أن يظل حيث يوضع أي خصم أو عدو لا محاور. + مع تصاعد أصوات تدعو إلى أحقية تحصين هذه "الهوية المغربية"، على هامش الكشف عن خلايا التبشير والتنصير مثلا، أو على هامش اندلاع الأزمة الدبلوماسية بين المغرب وإيران، والحديث آنذاك (خلال العام الماضي) عن مخططات إيرانية في مشروع تشيع المغاربة.. مع تصاعد هذه الأصوات إذا، تبرز أصوات مغربية مضادة، تندد إلى حريات عقدية وفكرية أكبر، وإلى مفهوم هوياتي "مطاط"، وحتمية الاحتكام إلى ما يسمى "المرجعية الكونية". ما هي سُبُل التوفيق بين هذه المطالب، إذا سلّمنا بأحقيتها طبعا، ومقتضيات الحفاظ على الثوابت الهوياتية للمغاربة؟ ++ نعم. من حق أي بلد، ومنها المغرب، أن يحصن هويته. ومن حق أي دولة أن تمنع كل من يحاول العبث بعقيدة المواطنين. مثل هذه التدخلات مرفوضة مبدئياً. إن ما تقوم به المسيحية الإنجيلية وهي إيديولوجية المحافظين الجدد في أمريكا، في المغرب وشمال إفريقيا شيء مقلق حقاً. لقد كتب الغربيون في الموضوع مقالات مثيرة. وقد سبق لي أن اطلعت على ملف نشرته مجلة "لونُوفِلْ أوبْسِرفَاتُور" عن "المحافظين الجدد" وعقيدتهم الهدامة الإنجيلية، ومشاريعهم في العالم وفي شمال إفريقيا، وتساءلت آنذاك، (منذ أزيد من خمس سنوات)، هل هناك جهاز وطني يهتم بمراقبة الأفكار الوافدة على المغرب ويقوم بجمعها وتدوينها وتصنيفها وتحديد خطورتها أو أهميتها ومراقبة آثارها في المجتمع وتشخيص المستهدفين بهذه الإيديولوجية الدينية جغرافياً واجتماعياً وضبط العناصر المغرية التي يتوسل بها هؤلاء المبشرون ومواطن ضعف المستهدفين. وتصورت أن هذا الجهاز المراقب ينبغي أن يحرر منهاج عمل لإبطال تلك الدعوات التبشيرية بهدوء، وأن يسخر لأجل ذلك مختصين في مجال مواجهة البروباغاندة (الدعاية) التي يستخدمها من يحاولون الإساءة إلى الوطن. وما يفعله الإنجيليون يمكن أن تقوم به أيد جهة أخرى. وفي كل الأحوال وجب تحصين الوطن والمواطنين ضد أي عابث. فيما يتعلق بالهوية، ليست هناك هوية كونية أحادية ونسق منسجم عالمي. ليست هناك بالأحرى هوية كونية تواجه هويات محلية أي هويات ثقافية موزعة على الشعوب المختلفة. الهوية الكونية التي يتحدث عنها اليوم هي في الحقيقة تيار فكري وإيديولوجي يشدد على ضرورة احترام الثقافات المحلية والاعتقادات المختلفة وتفادي مواجهة ثقافة لأخرى. بل الحقيقة أن هذه الهوية الكونية تحاول إعادة الاعتبار للهويات المحلية. ولهذا فإن أولئك الذين يعلنون الحرب على الهويات المحلية انطلاقاً من هويات كونية مزعومة إنما يمارسون نوعاً من الدجل والإساءة غير الأخلاقية. ففي النهاية الهوية الكونية هي مجموع الهويات المحلية وليست شيئاً غريباً ومختلفاً. الأدهى من هذا أننا كثيراً ما لاحظنا هوية محلية تتطلع إلى أن تفرض نفسها كهوية كونية أحادية. وهذا خطير للغاية، لأن الهوية الكونية الحقيقية هي معانقة كل الأطياف الثقافية المحلية. ولهذا فإن هناك خطورة اليوم في أن يفرض الغرب قيمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية باعتبارها قيماً كونية. من حق الناس ألا يستهلكوا الكوكاكولا رغم أنها عالمية، فرضت نفسها بالسلاح المادي والإشهاري، وهي مشروب ضار. وجبة "الماكدونالد" ليس وجبة عالمية، بل وجبة أمريكية وليس بالضرورة أحسن غذاء. وسيجارة "المارلبورو" سيجارة عالمية، تنتمي إلى هذه القيم الكونية، إلا أن هذه السيجارة تودي بحياة الملايين في كل سنة. وسروال "الجينز" سروال عالمي، ولباسه مزعج للغاية، فكأن لابسه يتحرك في ألواح خشبية. الهوية الكونية هي فتح الصدر لكل الهويات بقبولها واعتبارها هويات شعوب جديرة بالاحترام وليس باعتبارها نموذجياً سلوكياً يجب تعميمه على الإنسانية كافة إن ذلك نحر للإنسانية. هناك، في المغرب حالياً، خطأ واحد قاتل على كل حال وهو مشترك بين كل الأطراف التي تخوض في الموضوع. الخطاب الهوياتي في المغرب مُقَسَّط. وهناك من يعتبر هوية المغاربة عربية وكفى، ومن يعتبرها إسلامية وكفى، ومن يعتبرها أمازيغية وكفى.. إلخ، وجميع هذه التصورات جزئية. إلا أن الأخطر هو أن توضع العناصر الأخرى التي لا تدخل في الاعتبار موضع معاداة وتعارض وتحارب. لهذا تطفو بسرعة على السطح خطابات عنصرية منضوية تحت هذا التصور أو ذاك. والواقع أن هؤلاء جميعاً ضحايا ما أسميه "العمي الهوياتي" أو "العمى العاطفي"، حيث يعلن طرف من المجتمع الحرب على الطرف الآخر. والنتيجة معروفة في مثل هذه الأحوال: تفكيك تلاحم البنية المجتمعية فلا يصبح هناك مواطنون مغاربة بل إسلاميون وعروبيون وأمازيغيون وفرانكوفونيون.. إلخ. السبب في ذلك قلب المعادلة وهو التعلق بالجزء وإغفال الكل الشامل لكل العناصر. هذا الكل هو الذي أشدد عليه في تصوري الهوياتي. هذا الإطار الشامل والحاضن لكل العناصر الهوياتية هو العنصر الترابي، أي المغرب في شموله. وفي هذه الحالة لا تصبح الهوية جزئية وإقصائية كما فعل أولئك "النشطاء" الذي زاروا إسرائيل ليس لأجل خدمة أية قضية، إذ إن هذه الخطوة ضربة مؤلمة للأمازيغية نفسها، بل إن الزيارة لها هدف واحد هو وضع الملح في الجرح العربي الفلسطيني لا غير. وبالنسبة إلى إسرائيل فإنها لن تعطيهم شيئاً. إنها ستحتفظ بهم كاحتياط لاستعمالهم في أي شيء يخدم الصهاينة لا أكثر. إنهم الموجة الأخيرة من الفلاشا غير اليهود. هذا سلوك دنيء. لأنه لا يسيء إلى العرب والفلسطينيين بل يسيء إلى الفضيلة الإنسانية. الهوية الحقيقية محاولة لاحتضان كل ما فوق التراب المغربي من ثروات لغوية وثقافية ورمزية دون أن يعتدي أي عنصر على عنصر آخر. إن هناك تكاملاً وتعاضداً وتلاحماً لا تعارضاً وتعاندا، وأعتقد أنه على من يخدم الأمازيغية أن يعلم أنه بدون سند العرب المغاربة واحتضانهم لها، ستصبح ميتة لا محالة، تماماً كما أن العربية لم يطل عمرها، وهو خالد بحول الله، إلا بفضل معانقة الأمازيغ لها. لنتأمل رأيين في الهوية وهما صادران عن علمين من أعلام الأدب العربي والفرنسي. يقول محمود درويش في تحديد الهوية: "هذه الأرض أرضي بثقافاتها العديدة الكنعانية والعبرية واليونانية والرومانية والفارسية والمصرية والعربية والعثمانية والإنجليزية والفرنسية. أريد أن أعيش كل هذه الثقافات. من حقي التماهي مع كل هذه الأصوات التي رنت على هذه الأرض. لأنني هنا لست مقحماً ولا عابراً" كما جاء في كتابه "فلسطين كاستعارة"، وهو عبارة عن حوارات مطولة ترجمها للفرنسية من العربية إلياس صنبر ومن العبرية سيمون بيتون سنة 1997، "الهوية الوحيدة" التي أجاهر بها في مجموعتي الشعرية التي تشير إليها هي "أنا لغتي". ليس أكثر ولكن ليس أقل. وأقول إننا ندرك في هذه اللغة تجاور الرومان والفرس وشعوباً أخرى. إنني لا أتعرف على ذاتي إلا من خلال لغتي، لا أهتم أبداً "بالفوارق" العرق ولا الدم. لا أعتقد في الأعراق، سواء في الشرق الأوسط أو في غيره. إنني مقتنع، عكس ذلك، بان الاختلاط يثريني ويثري ثقافتي" بتعبير درويش دائما. ورغم تشديد درويش على اللغة العربية، فهذا لم يمنعه من التنويه باللغات الأخرى التي عاشت وتعيش في فلسطين. وفي كل الأحوال فإن درويش ينأى ويترفع عن كل الأطروحات العنصرية. ونستعرض نصاً آخر لأمين معلوف وهو مسيحي لبناني مستقر في فرنسا ومستفيد من الجنسية الفرنسية بالإضافة إلى جنسيته الأصلية. يقول معلوف في كتابه الممتع "هويات قاتلة" (Les Identités meurtrières) وقد صدر بالفرنسية. يقول معلوف: "أن أكون عربياً وأن تكون لغة أمي هي العربية وهي اللغة المقدسة في الإسلام، لهو واحد من المفارقات الجوهرية التي صاغت هويتي. يَعْقِدُ الحديث بهذه اللغة بالنسبة إلي أواصر مع كل الذين يتحدثون بها كل يوم في صلواتهم والذين هو في أغلبيتهم اقل إلماماً بها مني فحينما أكون في آسيا الوسطى وحينما أصادف شيخاً عالماً على عتبة مدرسة تيمورية، يكفي أن أتوجه إليه بالعربية لكي نحس أننا في موطن صديق ولكي يخاطبنا بقلب مفتوح وهو الشيء الذي لا يمكن أن يحصل لو خاطبناه بالروسية أو الإنجليزية. هذه اللغة نتقاسمها أنا وهو، كما نتقاسمها مع أزيد من مليار من الأشخاص الآخرين. ومع ذلك فإن انتسابي إلى المسيحية[...] يخلق هو أيضاً آصرة دالة بيني وبين مليارين من المسيحيين في العالم. إن كثيراً من الأمور تبعدني عن كل واحد من المسيحيين، كما تبعدني عن كل واحد من العرب ومن المسلمين، إلا أن هناك مع ذلك مع كل واحد منهم آصرة قرابة لا غبار عليها، في حالة هناك آصرة دينية وذهنية وفي حالة أخرى هناك آصرة لغوية وثقافية.