في عين زغوان، على مسافة عشرة كيلومترات من وسط المدينة، على الطريق الذي يقود إلى المرسى، ضاحية شاطئية وسكنية، بين رواد وقرطاج، تعرضت امرأة للاغتصاب من قبل شرطيين في الخدمة، فيما كان زميلهما يهدد رفيق المرأة ويبتزه. لكن من كان يتصوّر أنّ المرأة المُغتصبَة ستجد نفسها متهمة من قبل القاضي بالفحشاء والسلوك غير الاخلاقي؟ ضُبِط الثنائي وهما يمارسان الجنس، وكانت المرأة المغتصبة في لباس غير لائق، هذا بحسب أقوال هذه الفئة الجديدة من رجال الشرطة الذين يدافعون عن الأخلاقيات الإسلامية التي يُستشهَد بها لمضايقة النساء اللواتي ينتهجن الأسلوب الغربي ويتجاهلن احترام العورة الذي عفا عليه الزمن. يشبِّه هذا المفهوم العري الجزئي لجسم المرأة بعري استفزازي يثير الفوضى في المدينة. ويفرض التقيد بستر العورات في أحسن الأحوال ألّا تظهر المرأة سوى وجهها ويديها، وفي أسوئها، ألا تظهر شيئاً سوى عينيها اللتين تلمعان ويتحرك بؤبؤاهما خلف الإطار المفرّغ للبرقع الذي يغطي جسمها كله باللون الأسود. وبحسب مفهوم العورة هذا الذي يرفضه الكثير من النساء والرجال في تونس، تصبح الضحية هي المذنبة. هذا هو قانون المجتمع الذكوري، قانون يود الإسلاميون فرضه على تونس التي ظننا أنّها اكتسبت حداثة قوامها المساواة بين الجنسين. باتت البلاد مُهددة من قبل حكومة النهضة الإسلامية التي، على الرغم من خطابها المؤيد للحداثة والديموقراطية، لا تزال متمسكة بالنزعة الاسلامية التي ترتكز على إعادة إحياء المفاهيم والأفكار القديمة العهد التي أرساها المجتمع الذكوري والهيمنة الذكورية (أو ما يسمى الفالوقراطية) باسم الإسلام. بحسب هذه الرؤية الذكورية، المرأة هي دائماً مصدر الرغبة، هي تثيرها وتشعلها؛ من خلال عريها الجزئي الذي يُشبَّه بالعري الكامل، تثير إغواءً ينتج فتنة. هي وحدها مصدر الفتنة. هذه الفتنة هي التي تولّد لدى الرجل فكرة الاغتصاب. بالتالي، إن اغتُصبَت امرأة فذلك لأنّها وضعت نفسها في موقفٍ يعرضها لذلك. يبدو أنّ هذا المنطق البغيض مرّ في تفكير رجال الشرطة والقضاء، الذين برأهم وزراء الوصاية. والأفظع من ذلك أيضاً أنّ المدافعين عن النظام الاسلامي ومؤيديه عبر الانترنت يهددون باغتصاب النساء اللواتي عبّرن عن تضامنهن مع هذه القضية ودافعن بعزم عن الضحية. هذا ما حصل مع رجاء بن سلامة، الاستاذة الجامعية والمثقفة الناشطة جداً في قلب المجتمع المدني، والحريصة في نضالها ضد الهيمنة الاسلامية. هكذا بعد دعوة أنصار الاسلاميين، عبر المدونات، إلى قتل المناضلين في سبيل الحداثة، وصلنا اليوم إلى التحريض على الاغتصاب. هذا الانقلاب في الأدوار الذي يضع الضحية في مقام المذنب مرفوض تماماً. ينبغي أولاً التذكير بأنّ المرأة ليست وحدها مصدر الرغبة. فالطاقة التي تتحدى القانون قد تصدر عن الرجل أيضاً. الرغبة الشديدة أو الخفيفة تتخطى الهوية الجنسية. هي تخالج أشخاصاً من هذا الجنس أو من الجنس الآخر من دون تمييز. دومينيك شتراوس كان خير مثال على المشاركة الذكورية في الفوضى التي تسببها الرغبة. هذه هي الأمثولة الأولى التي تُطيح المفاهيم الذكورية التي تجعل من المرأة الناقل الحصري للفتنة. الأمثولة الثانية مُستمَدة من نظام حقوق الانسان الذي ينص على حق كل إنسان في التصرف بجسمه كما يشاء، سواء رجلاً كان أو امرأة. لا يُمنح الجسم للشخص الآخر إلا عبر وساطة الارادة الحرة التي تقبل الارتباط، فضلاً عن القبول والخيار الحر للطرفين. يحدث الاغتصاب ما إن يغيب هذان الشرطان المسبقان. من هنا ليست المساواة بين الجنسين في هذا المجال موضوع نقاش، وهذا ينطبق أيضاً على التزام مسؤوليتهما. بالتالي، لا نجد الفرق بين الجنسين إلا من الناحية البيولوجية بحيث يُعطى الرجل قوة جسدية أكبر يستغلها في إطار الاغتصاب. أما الأمثولة الثالثة فتعيدنا إلى قلب معركة الأخلاقيات. مع النظام الإسلامي، الحرية في خطر. يسعى الاسلاميون إلى إضفاء الطابع الاسلامي على المجتمع مجدداً. يحلم هؤلاء بإعادة إرساء العرف الاسلامي في مجتمع ابتعد عنه. كذلك، يعملون على إحياء مؤسسة الحسبة التي نشأت في القرون الوسطى. والمقصود بالحسبة شرطة أخلاقية شعارها التعبير القرآني الذي يترجم كالتالي: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». وضع هذه النظرية ابن تيمية في نهاية القرن الثالث عشر، وأحياها في القرن الثامن عشر ابن عبد الوهاب، مؤسس المذهب الوهابي، الذي لا يزال يُطبق حتى اليوم في السعودية. تترك حكومة النهضة حرية التصرف للوهابيين المحليين (الذين يسمون أنفسهم السلفيين) لتهيئة الظروف الملائمة لإعادة إرساء الحسبة. غير أنّ هذه المؤسسة لم تكن قائمة دائماً في المدينة التقليدية. يشيد حافظ، شاعر القرن الرابع عشر وصاحب الروح الحرة، في عدد من قصائده الغزلية بنهاية الحسبة وتنحية راعيها المحتسب لدى قدوم أمير ليبرالي إلى شيراز. وفي التقليد المالكي الأندلسي المغاربي انحصر دور المحتسب بالتحكم بالسوق وحسب، من خلال اكتشاف البضائع المغشوشة، والحرص على تطابق الأوزان مع المقاييس وعلى انتظام المعاملات التجارية. من خلال هذا اللجوء الخبيث إلى الحسبة، يريد الإسلاميون أن يضعوا حداً للحرية الأخلاقية النسبية. وفي سبيل تحقيق مشروعهم، يلجأون إلى السلفيين لترهيب النساء والفنانين والمثقفين والجامعيين. يزرعون الرعب في الوسط الليبرالي الذي يواكب الحداثة. من خلال التسامح مع السلفيين، يدنّس الإسلاميون الذين في السلطة، عن عمد، المبدأ الذي يوكل إلى الدولة مهمة حفظ الأمن وحماية المدنيين من أعمال العنف. لتتفتح الحرية، لا بد من تحرير الناس من الخوف. بيد أنّ الاسلاميين يتعمّدون زرع الخوف؛ فهم لا يشجعون الممارسات الإجرامية التي يرتكبها السلفيون وحسب، بل يجعلون من رجال الشرطة والقضاة عناصر لتطبيق الحسبة يحولون الضحايا إلى مذنبين. يزداد الشعور بعدم الأمان ويسود الرعب عندما يختلط ممثلو السلطة مع المجرمين.