بالأمس القريب كانت كل هذه الأشياء تتنفس الحياة بقوة الجاه والسلطان، وكانت لها سطوة ونفوذ تستمده من صاحبها الذي خلع على نفسه «ملك ملوك أفريقيا وعميد القادة العرب»، لكنها الآن قبعت فوق رف التاريخ، لا تجد من يرثيها سوى أن تتحول إلى ذكرى على حاكم جائر لقي حتفه في حرب شرسة شنها ضد شعبه. فمع النسيم القادم من البحر إلى وسط مدينة مصراتة الليبية يمكن أن تتوقف وترى. هنا يوجد مسدس معمر القذافي وهاتفه الجوال.. وهنا سترته التي ظهر بها مع زعماء العالم.. وفي هذا الجانب توجد الأطباق التي كان يأكل فيها. أما في هذا المكان، فهناك مقعده الأخضر المطرز بالذهب الذي طالما جلس عليه ليلقي الخطب والنظريات المثيرة. كل هذه المفردات المشحونة بالذكريات تغري رجال الأعمال لمحاولة شراء بعض منها. لكن هذا غير مسموح به في الوقت الحالي، كما أن الأبواب الحديدية الضخمة والحراسة هنا تجعل التفكير في السرقة ضربا من الجنون. تقف بنات المدارس في مجموعات، ومن الجانب الآخر يقف الأولاد بحقائب الدراسة، يتطلعون قليلا إلى فرشاة أسنان العقيد، الذي قتله الثوار قرب سرت في شمال ليبيا، وقبعة ابنه خميس، الذي اغتاله الثوار قرب طريق بني وليد، وبذلة وزير دفاعه أبو بكر يونس، الذي قتل في سرت أيضا. البعض يلتقط الصور والبعض يحدق في صمت. كل هذه المقتنيات وغيرها المئات من ملاعق مذهبة ونياشين نادرة وهدايا رئاسية، يجري عرضها في صالة كبيرة تقع في شارع طرابلسبالمدينة الواقعة على البحر المتوسط، والتي يحترف أبناؤها الاقتصاد والسياسة وفنون القتال. وكان لأبناء المدينة من «الثوار» السبق في القبض على القذافي، قبل أن يتم قتله هو ويونس وابنه الآخر، المعتصم، عند سقوط سرت في أيدي المقاتلين في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي. وبينما تهب الريح، تمرق السيارات عبر الشارع الكبير الواسع الذي جرت فيه أشد أنواع المواجهات شراسة، لدرجة أن جميع المباني المطلة على جانبي الشارع أخذت نصيبها من قذائف المدفعية والقذائف الصاروخية وطلقات الرصاص. وفي نقطة معينة من وسط الشارع، تجد مجموعة من الدبابات المحترقة والمدرعات المنبعجة وحاملات الجند المحطمة. وترى بقايا لصواريخ ولقذائف ومنصات إطلاق النيران، وخوذات جنود. ومن بين هذا الركام الحربي الممتد على جانب الشارع بطول نحو ثلاثمائة متر وعرض نحو مائتي متر، ترى قبضة اليد ذهبية اللون التي تمسك بطائرة أميركية، وهو شعار من المعدن يعبر عن «صمود» القذافي في وجه الولاياتالمتحدة. وكانت هذه القبضة الكبيرة تظهر في مقر الحكم في باب العزيزية بالعاصمة طرابلس. وفي الجانب الآخر ترى النسر الضخم المعدني المجنح، الذي يبلغ عرضه نحو أربعة أمتار، وهو أحد المعالم الشهيرة، وكان موجودا في مجمع الحكم في طرابلس. وطغت ألوان العلم الليبي الجديد؛ الأحمر والأسود والأخضر، على معدات العرض وعلى الجدران. ومع هبوب الهواء المنعش، ترفرف أعلى هذه التذكارات التي كانت رمزا لمرحلة القذافي أعلام دول من خصومه اللدودين لعقود؛ الولاياتالمتحدة وبريطانيا فرنسا. ويعتبر بشير الشنبة، مدير المعرض، أن هذا العمل الذي تم إنجازه سريعا يعكس أحداث الثورة التي قدم فيها الليبيون آلاف «الشهداء» من أجل الخلاص من الظلم وبناء دولة الحرية والديمقراطية. ويساعد الشنبة في العناية بالمعرض وجمع المقتنيات فريق من الناشطين والإعلاميين والمتطوعين. ومن وراء كل هذه المعروضات كبيرة الحجم، التي تعكس شراسة معارك الشعب مع نظام حكمه، توجد صالة عرض، كانت في السابق مجموعة من المحال التجارية المتجاورة، وحولها صاحبها متطوعا إلى مكان مفتوح على بعضه بعضا. مكان واسع توجد على جدرانه صور ملونة خلف إطارات من الخشب والزجاج، لوجوه ألوف ممن قتلتهم آلة الحرب الداخلية التي استمرت نحو ثمانية أشهر. وجوه أغلبها لأطفال وشبان، وعدد أقل من الكهول والشيوخ الذين قضوا نحبهم في الحرب منذ تفجر الأحداث في 17 فبراير 2011. ويتوافد على زيارة المعرض المئات يوميا من أبناء مصراتة وأبناء المدن الليبية المجاورة، والقادمين لمصراتة من خارج ليبيا أيضا. والمعرض عموما أصبح بمثابة متحف مفتوح يجسد «الثورة» وصمود المدن الليبية التي انتفضت في وجه القذافي وما لاقته من عقاب قبل انتصار «الثوار» خاصة مدينة مصراتة التي تعرضت لحصار شامل وقصف مستمر بلا هوادة لعدة أشهر، من الكتائب العسكرية التابعة للنظام السابق. وتنظم عدة مدارس رحلات للطلاب من عدة مدن لزيارة المعرض. كما تقوم بعض التجمعات الشبابية بتسيير رحلات مماثلة للاطلاع على مقتنيات المعرض. ويقول جبريل حسين، وهو طالب من طرابلس هذه أول مرة أشاهد فيها بشكل مباشر نصب القبضة الحديدية الذي كان في باب العزيزية. ثم انطلق مع زملائه إلى داخل الصالة.. وفي طريقة عرض بدائية، تصادف أن تكون متعلقات آخر القادة المؤثرين سابقا في ليبيا، موجودة في وسط القاعة المغطاة جدرانها بالكامل بصور «الشهداء». على يمين الداخل إلى المعرض يجد أنواعا للذخائر التي استخدمتها قوات القذافي في المحاولات اليائسة لقمع انتفاضة الليبيين ضد حكمه الذي استمر لمدة اثنين وأربعين عاما.. ذخائر صغيرة الحجم مخصصة لحشو المسدسات والبنادق، منها الخارق والحارق والمضيء.. وذخائر أكبر قليلا في حجم طلقات المدافع والهاون. وفي الوسط يوجد كرسي القذافي الأخضر المؤطر بالذهب. ويقول المسؤولون بالمعرض إنه تمت مصادرة الكرسي الشهير من منزل القذافي في مسقط رأسه في سرت، حين وصلت كتيبة «التدخل السريع» إلى هناك لتصادر أيضا بعض المتعلقات الأخرى ومن بينها أطباق طعام ذهبية وملاعق وفرشاة أسنان. وعلى يسار الداخل إلى المعرض تجد ملابس القذافي الشهيرة ذات الطابع الأفريقي بألوانها الزيتية والخضراء، والتي ظهر بها في مؤتمرات إقليمية عقدت أواخر عهده في طرابلس وسرت وحضرها عدد كبير من زعماء القارة السمراء، واستقبل بها القذافي عددا آخر من الزعماء الغربيين. وتم وضع الشروح التعريفية على العديد من المقتنيات بألفاظ فيها لغة من الانتقام والاحتقار، منها مثلا اقتران متعلقات القذافي باسم «القرد» أو «القردافي»، ووصف ملابسه المعروضة مثلا بأنها «شلاتيت»، وهي تعني في اللهجة المحلية الملابس الوضيعة. وتوجد في المعرض أيضا إبداعات لفنانين من مصراتة ومن مدن ليبية أخرى، منها لوحات فن تشكيلي ومشغولات نسجية، ولافتات تعبر عن أحداث «الثورة وصمود الثوار». ويزخر المعرض كذلك بقسم يضم بطاقات هوية ومكاتبات وتسجيلات مرئية وصوتية من تلك التي عثر عليها المقاتلون مع جنود كتائب القذافي عند أسرهم أو قتلهم. وفي بداية عرض مقعد القذافي في المعرض كان بعض الزوار يحبون الجلوس عليه لالتقاط الصور التذكارية، ولهذا كما يقول المسؤولون في المعرض تم وضع بعض المقتنيات الأخرى فوق الكرسي للحيلولة دون الجلوس عليه حتى لا يصاب بالعطب. وتوجد الآن فوق الكرسي قطع من الأسلحة والخناجر الشخصية للقذافي وعدد من مساعديه. وتم تجميع هذه المقتنيات من عدة مناطق مختلفة في البلاد، وتخزينها لدى عدد من القيادات الشعبية والعسكرية في مصراتة قبل نقلها إلى المعرض. وهذه التفاصيل المتعلقة بوصول تلك المقتنيات إلى مصراتة لا يوجد اهتمام بها، مقارنة بالمتعلقات الشخصية التي كانت في حوزة القذافي في أيامه وساعاته الأخيرة، وحتى القبض عليه داخل نفق لمرور المياه أسفل جسر في جنوب سرت. ومن هذه المتعلقات الهاتف النقال الذي قيل إنه أجرى منه اتصالا بسيدة مجهولة في سوريا، وتلقى عليه اتصالا من ابنته عائشة التي كانت قد هربت إلى الجزائر. والمسدس الذهبي الذي كان في حوزته عند القبض عليه وقتله. وتوجد قطعة سلاح رشاش قصير ذكر البعض في المعرض أنه كان مع القذافي أيضا في نفق المياه، قبل أن يجهز عليه بعض الثوار الغاضبين بطلقات في الرأس والبطن. وإلى اليسار قليلا من مكان عرض متعلقات القذافي الشخصية الأخرى، تم تخصيص قسم لأنواع من أسلحة القناصة وطلقات القنص التي استخدمها عدد من محترفي تسديد الطلقات عن بعد، في عدة مواجهات جرت بين «الثوار» وكتائب العقيد الراحل في مصراتة وسرت. ومنها أسلحة روسية وأخرى بلجيكية وألمانية، بأحجام وأطوال مواسير وألوان مختلفة. وبجوار هذا القسم توجد متعلقات تخص أبناء القذافي خاصة المعتصم الذي قتل في سرت أثناء المواجهات، وخميس الذي كان مسؤولا عن أكبر الكتائب العسكرية الليبية وأكثرها شراسة، وهي كتيبة اللواء المعزز 32. هنا قبعات عسكرية تخص المعتصم وخميس من مختلف الأنواع.. وهنا معجون الأسنان الذي كان يستخدمه خميس، وهو من نوع «ريستورا»، إضافة إلى نماذج لوجبات وحلويات كان يتناولها الجنود التابعون للواء 32 على جبهات القتال مع الثوار. ويخضع المعرض لحراسة مشددة من مسلحين طيلة أربع وعشرين ساعة، حتى لا يتعرض للسرقة. ووفقا لمسؤولين في المدنية فإن رجال أعمال ليبيين وعربا وأجانب، حاولوا منذ البداية التفاوض على شراء بعض مما تركه القذافي، خاصة بدلته الأفريقية الشهيرة، ومسدسه وهاتفه النقال، وقدم بعض رجال الأعمال والأثرياء من محبي اقتناء التحف أسعارا وصلت إلى مائتي ألف دولار لهاتف القذافي وثلاثمائة ألف دولار لمسدسه، وعرض ثري ليبي نصف مليون دولار لشراء بدلتين من المقتنيات. كما كانت هناك عروض لشراء مقعده الأخضر المذهب، لكن مسؤولي المدينة يقولون إن مبدأ البيع «مرفوض» لأن هذه المقتنيات تعتبر آثارا لفترة لا يجب على الليبيين نسيانها، وأن ما تم جمعه من مقتنيات قيادات النظام السابق سيوضع في متحف وطني بعد استقرار الأوضاع في البلاد خلال الأشهر القادمة. *تعليق الصورة: تلميذات مدارس يشاهدن جانبا من المعروضات