لم تجابه «ثورة» عربية من ثورات العام الماضي، بجحود و«قلة حظ» مثلما حصل مع ثورة السوريين ضد نظام قمعي لا يقل بشاعة عن نظام القذافي. الجامعة العربية، مع نبيل العربي، لا يعرف المرء: هل تريد مساعدة النظام أم مساعدة المقهورين؟! تطرح الجامعة أطواق النجاة للنظام، طوقا بعد طوق، من اجتماع إلى اجتماع، حتى وصلنا إلى مهزلة توقيع البروتوكول، ثم توقيعه، ثم تجميع وفد المراقبين، تجهيزا لإرساله، ثم إرساله، ثم الدفاع عن أخطاء وفد الجنرال الدابي، أحد رجالات عمر البشير المطلوب هو بدوره جنائيا! ثم كان آخر الاختراعات «التفكير» في الاقتراح القطري القاضي بإرسال قوات سلام عربية، لا ندري من سيقودها ومن سيمولها، وممن تتألف، وما مهمتها بالضبط؟ كما نبه محقا المحلل السعودي عبد العزيز بن صقر، وهو أمر كما نرى قد يأخذ وقتا كافيا لكي يتم القضاء تماما على كل المظاهرات في سوريا، إما بالموت أو السجن أو المطاردة. إذا كان مجرد إرسال بضعة رجال ليرصدوا أمرا معروفا ومشتهرا للجميع، وهو توحش قوات الأسد وشبيحته العلني، عبر «وقائع الموت المعلن» حسب عنوان الروائي الكولومبي الشهير ماركيز، إذا كان هذا الأمر، حسب الجنرال «اللطيف» الدابي، ما زال في بدايته، وقد يأخذ سنين حتى «يبلور» وفد الدابي رؤيته ويكتب تقريره النهائي! فما بالك بتكوين قوات عسكرية عربية للتدخل في سوريا من أجل إنقاذ المساكين في سوريا من قتلة الأمن أو الشبيحة؟! السؤال: لماذا كانت الجامعة العربية حاسمة وسريعة وعملية في السعي لمحاصرة نظام القذافي وإسقاطه، وإسباغ الشرعية على تدخل قوات الناتو الغربية، بينما تمشي السلحفاة في طلب النجدة الدولية للسوريين، ما دامت هي عاجزة، وحلولها من شاكلة وفد الدابي؟! لماذا حظيت حركة المصريين ضد نظام مبارك بغزل دافئ من الجامعة العربية، وكان نبيل العربي نفسه أحد نجوم حكومة الثورة، بينما يتم تقريع المعارضة السورية تلميحا وتصريحا، أو يتم مساواة الضحية بالجلاد؟! لماذا كان إسقاط نظام زين العابدين بن علي بردا وسلاما على قلوب أصحاب الجامعة العربية، وتم التغزل - وما زال - بثورة الياسمين في تونس، بينما يتم تحاشي الإشادة، رسميا، بالثورة السورية؟ هل دماء السوريين من نوع آخر؟ لقد كان بن علي ومبارك سربا من حمام السلام، قياسا بما يفعله قتلة النظام السوري، وما زالوا بأهالي حمص ودرعا وإدلب ودير الزور وحماة واللاذقية وجبل الزاوية وريف دمشق، وغير ذلك، يوميا، وعلى عينك يا تاجر؟! هذه التناقضات الفاضحة هي التي تجعل المرء يطرح الكثير من الشكوك حول المخفي والمعلن من أجندة الجامعة العربية ونبيل العربي في تحديد الموقف من النظام السوري. أن تكره حكومة الجزائر أو السودان أو العراق، أو نصف لبنان طبعا، سقوط نظام بشار الأسد وانتصار الثوار، فهذا مفهوم، إما لأسباب طائفية أو سياسية، لكن ما لا يفهم أبدا أن يقف شخص مثل رئيس تونس «الثوري» المنصف المرزوقي ليعزف نفس معزوفة النظام الجزائري، بل ويتكلم بلغة متخاذلة أكثر من نبيل العربي. يقول المرزوقي – لا فض فوه! - محذرا من مغبة أي تدخل عسكري في سوريا. في حديثه لصحيفة «الخبر»الجزائرية المنشور يوم 15 يناير (كانون الثاني) الحالي: «نحن التونسيين ضد أي تدخل أجنبي مهما كانت صفته، بسبب أن الوضع في هذا البلد (سوريا) هو أعقد بكثير منه في ليبيا». وأعرب المرزوقي عن قلقه من تطيف وتسلح وتشرذم الثورة السورية، وقال: «أنا قلق جدا على الثورة السورية، لأنها تطيّفت وتسلحت وتشرذمت، وهنا يكمن الخطر الأكبر، وهذا ما قلته لأصدقائي السوريين». وأشار المرزوقي إلى أنه كان ضد التدخل العسكري في ليبيا، وقبله فقط بعد تدهور الأوضاع فيها بشكل خطير، وقال: «لم نقبل التدخل إلا بعد أن صارت الأمور لا تطاق، وكان ذلك دون أدنى قناعة، عملا بالمثل التونسي الذي يقول: لا يدفعك للمر إلا الأمر منه». المثل كما نعرف يا فخامة الرئيس الثوري ليس تونسيا فقط، هو مثل شائع في المنطقة العربية، لكن ليس هذا هو المهم، بل طبيعة القراءة الكارثية للمشهد السوري. لو أخذنا بمنطق السيد المرزوقي، ما كان الشيخ عبد الجليل وعبد الرحيم الكيب في ليبيا وصلوا للحكم، واستقبل هو الرئيس «الثوري» بدوره، مصطفى بن عبد الجليل، لولا طائرات «الناتو» ومجلس الأمن، والضغط الدولي، بل ولو استمر نظام القذافي في الحكم، لما قدر له هو أن يصل بهذه الطريقة إلى سدة الرئاسة، حيث كان القذافي سيسعى بكل قوة لإجهاض المسار الذي حدث في تونس، وبلغ بجماعة راشد الغنوشي و«النهضة» إلى قيادة تونس والتخلي عن موقع الرئاسة، المخفف الصلاحيات، لشخص مثل المنصف المرزوقي. الغريب فعلا هو تبرير المرزوقي لتراجعه عن الاعتراض على تدخل القوات الأجنبية «الغربية» في ليبيا، وهو حسب شرحه: «تدهور الأوضاع بشكل خطير». والسؤال يا فخامة الرئيس: هل الأوضاع في سوريا لم تصل بعد إلى التدهور الخطير؟! آلاف القتلى وعشرات الألوف من السجناء والفارين، والبلد معرض لحرب أهلية بسبب «عدم» التدخل الأجنبي، وليس بسبب وجوده! المنصف المرزوقي وكل الثوار العرب، على الأخص منهم الإسلاميين، الذين حازوا نصيب الأسد من السلطة، يفكرون الآن بشكل واقعي مصلحي بعدما وصلوا إلى الحكم. أهل الحكم في تونس، وفي ظل وجود دولة جارة ومؤثرة جدا مثل الجزائر صديقة للنظام السوري، يجعل من مصلحة الحكام الجدد في تونس أن يحسبوا خطواتهم جيدا في الموقف من الثورة السورية. أما تخوف المرزوقي من وقوع الانقسامات والفوضى في سوريا لو حصل التدخل الأجنبي، فأحرى به أن ينظر إلى جارته ليبيا «الثورية» وما يحصل بها الآن من صراع إخوة السلاح، وانتشار الفوضى الميليشياوية، وهم بلد موحد النسيج، وليس به طوائف وديانات مثل سوريا، بل دين واحد ولون واحد، تقريبا. ففي ليبيا، وفقط حصيلة آخر أسبوع، واصلت ميلشيات «ثورية» متنافسة القتال لليوم الثالث بالقرب من بلدة (غريان) وأسفر القتال عن مقتل شخص وإصابة ستة آخرين، رغم محاولات الحكومة الانتقالية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار. وكان مقاتلون من بلدتين ليبيتين متجاورتين، رفضوا تسليم أسلحتهم بعد مرور خمسة أشهر على الإطاحة بمعمر القذافي، قد انخرطوا قبل عدة أيام في القتال وتبادل القصف بالمدفعية والصواريخ. وذكر طبيب في مستشفى غريان أن عدد القتلى وصل إلى 3، كما أصيب 42 شخصا. وذكر صحافي من وكالة «رويترز» في غريان التي تبعد 80 كيلومترا إلى الجنوب من طرابلس أنه يستطيع سماع أصوات انفجارات متواترة خارج البلدة. لماذا لا يعتبر المنصف المرزوقي، ومن يشاطره الرأي من حكام وأبناء الربيع العربي أن هذا الأمر يعتبر كافيا لتبيان خطأ المسار الدولي «التدخلي» في ليبيا، ما دام أن هذا هو سبب تخوفه من تكرار التدخل في سوريا؟ الحق أن هناك حالة تخبط أو تكاذب أخلاقي وسياسي عربي بخصوص المأساة السورية، سواء من الثوريين الذين ذاقوا طعم السلطة، بنفس المبررات التي تتحرك بها الثورة السورية - لكنها حلال لهم وحرام على السوريين! - أو من الأنظمة العربية المناصرة للنظام السوري لأسباب طائفية أو سياسية، مثل العراق أو السودان. الجامعة العربية تحاول ستر هذا التناقض والعري العربي بثوب هو نفسه مهلهل، ومناورات من الطراز العتيق، طراز ما قبل الثورة، في سياق متداخل وعجائبي من ساسة ثوار أو أعداء للثوار أو نصف ثوار، لكنهم اختلطوا هذه المرة بلوحة واحدة لا تسر الناظرين.. لقد كنت غير منصف عزيزي المنصف.