إنه القتيل الثالث. هذا الربيع العربي لا يرحم. ليس ضرورياً أن يخترق الرصاص جسد الحاكم. أو أن يلتف الحبل حول عنقه. يقتل الحاكم حين يطرد من قلعته. حين يترك الأختام ويتوارى. وحين يقفز مساعدوه من السفينة. ويسأل عن المستشارين ولا يجيبون. وحين يتبدد الحراس. إنه القتيل الثالث. يقتل الحاكم حين تنتزع آلة القتل من يده الحانية. وتتفكك هيبته. ويتراكم الدم في الساحات. ويتلف أهل القصر الوثائق. وتنتفض المدن والأحياء. وتهاجم الصدور العارية بنادق الوحدات الخاصة. وتحرق الكتب والصور. جلس زين العابدين بن علي طويلاً على صدر بلاده. كان قاسياً وصارماً وظالماً. واستباحت البطانة خيرات البلاد. وامتهنت الأجهزة كرامة العباد. تلاعب بالقضاء. ولعب بالدستور. جدّد ومدّد. لكن حصيلة عهده الطويل تبدو شديدة التواضع حين تقارن بإنجازات القتيل الثالث. جثم حسني مبارك طويلاً على صدر مصر. لم تراوده الرغبة في التقاعد. توهم أنه باق كالنيل الذي يرد العطش عن ترابها. وانعقدت في الحزب والمؤسسات حلقات الفاسدين والمدّاحين والمبخّرين. وذهب الرجل بعيداً. ارتكب الإقامة المفتوحة ومعها حلم التوريث. هذا كثير. هذا فظيع. حاول إجهاض الربيع الذي انفجر. بدت «موقعة الجمل» مضحكة. بحّار منهك يحاول رد الطوفان بما تبقى من يديه. وعلى رغم ذلك تبدو حصيلة عهد القتيل الثاني شديدة التواضع إذا ما قورنت بإبداعات القتيل الثالث. وقف ذات يوم وقال: «أنا رجل غير مسبوق وسأعلن نفسي ملكاً لملوك افريقيا». أعد التاج والأساور والثياب المزركشة ونفّذ وعده. إنه القتيل الثالث. إنه معمر القذافي. إنه فعلاً رجل غير مسبوق. صفحة مميزة في كتاب الاستبداد العربي. طموحات متهورة. وأحلام مَرَضية. وممارسات غريبة. ونفط يتدفق متيحاً لتلك الأحلام أن تنزل الويل بشعبه وجيرانه والدول البعيدة ايضاً. إنه صاحب الأرقام القياسية. ليس فقط لأنه أقام اربعة عقود وتضاعفت شهيته. بل أيضاً لأنه لم يحدث ان انتهك حاكم القانون الدولي قدر ما انتهكه. لم يرسل حاكم من المتفجرات ما أرسل. هداياه انفجرت بحراً وبراً وجواً. قدرة استثنائية على إنجاب الحرائق والأرامل واليتامى. كثيرون غرفوا من نبعه وأرسلهم في مهمات. الأعوام الأخصب في مسيرة «أبو نضال» تحمل بصماته. والأمر نفسه عن كارلوس. وإنجازات «الجيش الأحمر الياباني». و «الألوية الحمر» الإيطالية. حقائبه انفجرت هنا وهناك. وأمواله زعزعت الاستقرار في أكثر من قارة. قصة لوكربي معروفة. وقصة طائرة «يوتا» فوق النيجر. الأخ القائد يحب الإثارة. يريد إخضاع العالم. واقتداء بماو تسي تونغ وجوزف ستالين كان له كتاب – منارة سمّاه «الكتاب الأخضر». المستبد يستجلب الكارثة. لشعبه وبلاده. لجيرانه ولعائلته. المستبد أعمى. مشروع زلزال. إنها نهاية حقبة. تلاعب هذا الرجل بمصير بلاده. وبأسماء الشهور. ومفردات القاموس. بدّد الثروات والأعمار. أضاعت ليبيا أربعة عقود في ظله. وأضعنا نحن سنوات نبحث عن بصماته وننقل ارتكاباته. سيكون مفيداً ان يعتقل حياً. وأن يروي أمام الشاشات قصة أربعة عقود من الارتكابات. علّ الرواية تفيد المشاهدين وتشجع الثوار على بناء دولة طبيعية تحكمها المؤسسات ولا تسمح بولادة «قائد تاريخي».