رحل الصحافي المهدي بنونة الذي شغلت ذكرياته حيزا كبيرا من مساحة ذاكرة المغرب السياسية المعاصرة. إذا صح القول المأثور " الصحافة هي مهنة المتاعب " فيمكن الجزم بالقوة نفسها، ان الإعلامي المغربي الرائد ، المهدي بنونة ، الذي فقده المغرب فجر اليوم ، بعد معاناة طويلة مع تداعيات مرض الشيخوخة. انتصر في معركة الحياة، فقد جاوز الثانية والتسعين من العمر، دون أن يكف عن الانشغال والاشتغال بالمهنة المتعبة، الأثيرة لديه ؛ فهو من مواليد مدينة تطوان (شمال المغرب) يوم 22 فبراير (شباط) من العام 1918 ، من أسرة عريقة معروفة بالوطنية والعلم ونشر الوعي والمعرفة. بدأ بنونة ، خرجاته الأولى من أجل طلب العلم، عام 1929 ، وهو فتى يافع في الحادية عشرة من عمره ، حين سافر إلى ما هو أبعد بكثير بحساب ذلك الزمن ،عن مدينته الجميلة الوادعة ، مخلفا أصدقاءه وذكريات طفولته الغضة ، ليجد نفسه في أجواء الغربة في فلسطين ، وتحديدا في مدرسة النجاح في مدينة نابلس، التي انتسب إليها في مرحلة الدراسة الثانوية ، هو وثلة من رفاقه التلاميذ التطوانيين الذين قاسموه متعة ومتاعب السفر من أجل الحصول على ما لم يكن متيسرا في مدينتهم تطوان في ذلك الظرف. فوالده الحاج عبد السلام ، كان متصلا بالخارج ، مدركا أهمية اكتساب المعرفة كسلاح في معركة الاستقلال، ما جعله يتحمل فراق نجله المهدي. عاد بنونة إلى مهد صباه عام 1936 سنة اندلاع الحرب الأهلية الطاحنة مع إسبانيا التي كانت تحتل شمال المغرب التي اتخذت مدينة تطوان عاصمة إدارية لها، يمثلها بها مقيم عام، إلى جانب خليفة السلطان الشرعي للمغرب، لكنه لم يمكث في مدينته إلا قليلا، إذ غادرها عام 1937 متوجها هذه المرة إلى القاهرة، بهمة أكبر ، حيث سيتلقى تكوينا بأرض الكنانة في الصحافة، توجه بالحصول على دبلوم سنة 1941،ما فتح له صفحات الجرائد المصرية والاشتغال شبه منتظم، مدة ثلاث سنوات في جريدة "الأهرام " القاهرية ، ذات المنزلة الرفيعة، ما مكّنه أيضا ، من تعميق الإطلاع على أصول المهنة وطقوسها وأسرارها وتوثيق الصلات بأقطاب السياسة والصحافة المصرية ، خاصة وأنه شارك عام 1937 في القاهرة في تأسيس لجنة الدفاع عن المغرب الأقصى الذراع السياسي والإعلامي للحركة الوطنية المغربية، المناهضة للاستعمار الفرنسي في الجنوب والإسباني في شمال البلاد ، والتي أصبحت صلة وصل بين المشرق والمغرب. عاد الراحل ،إلى تطوان عام 1944 ، وهي سنة مفصلية في تاريخ المغرب ، ففيها رفعت الحركة الوطنية في الجنوب، عريضة المطالبة بالاستقلال يوم الحادي عشر من كانون الثاني- يناير . عاد ليمارس إلى جانب نشاطه الإعلامي والسياسي، المهام التعليمية و التربوية ، في المعهد الحر ، حيث زرعت بذرة الوعي الوطني في شمال المغرب. لكن الشاب المتقد حيوية ،المتشبع بالفكر المناهض للاستعمار، في أسرة "آل بنونة " لاحظ فراغا نقابيا في مدينته، رغم وجود فئة عمالية لا بأس بها ، أفرزها النشاط الصناعي والتجاري والمالي الذي جلبته الحماية الإسبانية. هكذا، بادر بتكليف وتنسيق مع حزب" الإصلاح الوطني" إلى تأسيس نقابة عمالية داعمة للحزب في معاركه السياسية، بل إن، بنونة ، النحيل الجسم، أصبح عضوا في اللجنة المركزية للنقابة الوليدة، التي لم تكن في الحقيقة إلا عجلة احتياط سياسية يتم اللجوء إليها كوسيلة ضغط ، إذا ما عرقل الاستعمار حركة حزب الإصلاح. تولى ، الراحل ، الذي طوع قلمه الصحافي ، بعدما تمكن من اكتساب لغات أجنبية (الإسبانية والانكليزية والفرنسية ) عدا العربية التي كان من المتحدثين والكتاب البارعين فيها، تولى عام 1953 إدارة وتسيير جريدة (الأمة) في تطوان ، باعتبارها اللسان المعبر عن حزب الإصلاح الوطني، حيث راكم فيها تجربة عملية مضافة ، أهلته لأن يلتحق بعد استقلال البلاد عام 1956 بقسم الصحافة في الديوان الملكي والعمل إلى جانب الملك الراحل محمد الخامس ، حيث شاهد وسجل وحضر الكثير من الأحداث والتحولات واطلع على صراعات وملابسات ومناورات ودسائس ومؤامرات صغيرة وكبيرة. شهد المغرب ، بعد الاستقلال حراكا سياسيا وحزبيا ، حمل بنونة ، على التفكير في إحداث وسيلة إعلامية غير مسبوقة في البلاد ، تعبر بمهنية وموضوعية عن ذلك الخضم السياسي والاجتماعي الذي يمور في أرجاء البلاد. هكذا توفرت الشروط لإطلاق أول وكالة مستقلة للأخبار ،عام 1959 برأسمال خاص ، غير خاضعة بالمطلق لتوجيه الدولة ، ولكنها في الوقت ذاته ليست على النقيض من توجهاتها . اختار لها اسما معبرا "وكالة المغرب العربي" استشرافا لحلم مستقبلي بتحقيق وحدة بلدان شمال افريقيا. لم تكن الوكالة متوفرة على الأموال اللازمة ؛ رأسمالها الوحيد ، هو حيوية ووطنية وحماسة مديرها بنونة ، الذي أقنع الملك الراحل بالحضور لتدشين مقرها ومنحها الشعار المهني الذي تحتفظ به علامة لغاية الآن "الخبر مقدس والتعليق حر" وقد أصبحت مملوكة بالكامل للدولة. حاول بنونة والطاقم الصحافي المحدود الذي كوّنه في الوكالة، أن يطبق رسالة الوكالة ، دون أن يصطدم مباشرة مع الدولة ، التي تفتحت لديها شهية السيطرة عليها، بعد أن أصبحت مرجعا إعلاميا ذا مصداقية في الداخل والخارج. قاوم بنونة ، ما أمكنته المقاومة، لكي يهرب من كماشة الدولة التي وجدت نفسها، وهي تخوض معارك سياسية ضارية مع المعارضة اليسارية خلال عقد الستينات ومنتصف السبعينات من القرن الماضي، بدون ذراع إعلامية تواجه بها ضربات خصومها ، غير قانعة بحيز التغطية الذي تخصصه لأنشطتها ، الوكالة المستقلة، المستقرة في الطابق السفلي لعمارة سكنية وسط العاصمة المغربية. الحكومة كانت تريد صوتا خالصا مخلصا لها. وهذا ما لا يقبله بنونة ، الخبير في المدارس الإعلامية في الغرب قبل الشرق واستقلاله. وكأنما ، بنونة ، اشتم جوع الدولة لمنشأته الإعلامية ، فأسس ما يمكن أن يصبح بديلا أو داعما لها ، حينما أقنع صحافيي الوكالة، بالانخراط في تجربة إصدار يومية مستقلة بالفرنسية (لا دبيش) أي القصاصة .استوحى اسم المطبوعة من الوظيفة المماثلة التي تقوم بها الوكالة. لكن التجربة توقفت في تشرين الاول- اكتوبر 1971 ، ممهدة لنهاية فترة استقلال الوكالة عن الدولة ، فقد وجدت هذه الأخيرة مبررا قويا لتأميمها والاستيلاء كليا عليها بعد فشل المحاولة الانقلابية العسكرية الأولى في تموز- يوليو 1971، رغم الدور المشهود الذي قام به بنونة ، في رفع ستار الغموض المطلق الذي أعقب المحاولة الدموية الفاشلة ، فهو الذي التجأت إليه وكالات الأنباء العالمية ليؤكد لها استقرار الوضع وفشل الانقلاب والمهم أن الملك الحسن الثاني على قيد الحياة. ذلك الموقف لم يشفع لوكالته أن تستمر مستقلة ، فغادرها بنونة والألم يعتصر قلبه غير مقتنع بالتعويض المادي المجزي ، ولا سيما أن من خلفه على رأس إدارتها لم يكن إلا محررا عمل إلى جانبه ، بفضله أتقن المهنة . ويحسب للمدير الأسبق عبد الجليل فنجيرو ، والسفير السابق في لبنان ،أنه على الأقل، لم ينس المدير المؤسس فأقام حفلا تكريما له ، وأطلق اسمه على بهو الوكالة. ينبغي التنويه ، بصفحات مضيئة في سجل العمل الإنساني للمهدي بنونة فقد انخرط فيه منذ زلزال مدينة أكادير عام 1960 لينضم بعد ذلك إلى العمل بنشاط مستمر، في منظمة الهلال الأحمر المغربية التي ترأسها لغاية اليوم، الأميرة للا مليكة شقيقة الملك الراحل الحسن الثاني، حيث مثل المنظمة في العديد من التظاهرات الدولية. ورد في نبذة حياته التي وزعتها بعد وفاته الوكالة التي أسسها، أنه ألف عددا من الكتب، صدر أولها باللغة الإنكليزية بعنوان "مغربنا" وكما يدل على ذلك العنوان وسنة صدوره، سرا عام 1951 ، فإنه دفاع عن استقلال المغرب ونقض للأطروحة الاستعمارية. وعلى العموم ، فإن ما خلفه الراحل من صفحات مكتوبة ، قليل ، قياسا إلى عمره المديد وتجربته الزاخرة من جهة ، وبالنظر إلى الأسرار الكثيرة وخبايا السياسة المغربية التي اطلع عليها والأحداث التي شاهدها ، منذ صباه ، بحكم المهام التي جعلته دائما في الواجهة ، قريبا من منابع القرار ، رغم بعض فترات الفجوة بينه وبين الملك الحسن الثاني . هناك مسألة أخرى هي أن الرجل كان فصيحا في أحاديثه ، معتنيا بسلاسة الأسلوب حتى وهو يتحدث في جلسة دردشة عادية. الا أن ما نشر له من كتب قليل جدا. وإذا أضيف إلى ما سبق ما عرف عن الراحل من شدة الولع بجمع الوثائق وتنظيم أرشيفه الخاص وأرشيف عائلته ، فمن المؤسف حقا أن لا يكون قد دون مسار حياته بالتفصيل. المؤكد أن ذكرياته تشغل حيزا كبيرا من مساحة ذاكرة المغرب السياسية المعاصرة. قد يعتذر، بنونة ، أنه اشرف على إنشاء مؤسسات ومقاولات إعلامية ناجحة ، ليس في بلاده فقط ، وكوّن أجيالا من الصحافيين المغاربة ، وهذا يكفيه ..لعل أسرته تفاجئنا ، بمذكراته المثيرة التي فضل أن لا ينشرها في حياته ، باستثناء الحوارات المطولة التي أنجزها مع الصحافي السوداني طلحة جبريل و جمعت في كتاب "المغرب .. السنوات الحرجة" صدر ضمن مطبوعات جريدة "الشرق الأوسط" . حمل معه أسرارا كثيرة ، ومشكلته أنه يشبه الكثير من صناع الأحداث والقرار في المغرب. يذهبون مخلفين علامات الاستفهام والتعجب، وشعورا بالظمأ لدى الأجيال الجديدة.