لم أجِد غير هذا العنوان، لأُسَمِّي به هذا المقال، الذي هو تعبير عن القلق الذي يَأْكُلُنِي، إزاء ما يجري من انتكاساتٍ في واقعنا اليومي. يبدو أنَّ العقل جُنَّ، أو أصابَه الشَّلَل والخَرَف، ولم يَعُد يدور في الاتِّجاه الصحيح. لم يَعُد الناس يقرأون، ولم يَعُد لهم ما يكفي من الصَّبْر للبحث والنظر والإنصات والتأمُّل، ما نكتبُه وما نقوله، أو ما يصدر عَنَّا من أفكار، لا تَجِد من يقرأُها بما تقتضيه القراءة من صَبْرٍ وأناةٍ. يكفِي أن تستعمل كلمة دِينٍ، أو تنتقد السلوكات السلبية المرتبطة ببعض أدْعِياء الدِّين، ومُدَّعِيه [ثمَّة فرق بين المُدَّعِي والمُؤْمِن]، أو بمن وضَعُوا أنفُسَهُم كأوصياء على الدِّين، ويتكلمون باسم القرآن، وهُم لا يفقهونَه، أو ‘لا يتجاوز تراقيهم'، كما في حديث للرسول، ويتكلمون باسم الله، وهُم يُسيئون له، أو يُتاجِرُون باسمه، في السياسة، كما في المال، وفي استباحة الدَّعارَة، واستغلال النِّسَاء، و'النص' لا يَهُمُّهُم إلاَّ في ما يَمَسُّ مُتَعَهُم الخاصَّة، أو شهواتهم، بالأحرى، من مثل تعدُّد الزوجات، وزواج القاصرات، يكفي أن تضع يدَك في هذا الجُحْر، لتجد نفسَك مُحاصراً بهذه الدَّبابير العمياء، التي ما فتِئت تكبُر وتتجبَّر، وتعِيتُ في البلاد فساداً، باسم الدِّين، وباسم الاسلام الذي لم يكن، حتى في تاريخ ظهوره، بمثل هذا التَّزَمُّت، أوالتَّطَرُّف، الذي بات ينتشر في الأرض، كما تنتشر النَّار في الهشيم. ثمَّة عوامل وأسباب عديدة ساهمت في هذا البلاء الذي لم يكُن له سابِقٌ، منها: الاعتقاد الخاطىء عند هذه السلفيات العمياء، أنَّ وصُول ‘الإسلاميين' للسلطة، هو تعبير عن انتصار فكرهم، وهو ما يسمح لهم بالعمل على نشر أفكارهم في الناس، أوَّلاً، بمحاربة ‘العَلمانيين'، لأنَّ هؤلاء ‘مُرْتَدِّون'، وخارجون عن الدِّين. فالعلمانية، عندهم، هي ‘الماركسية' و ‘الشيوعية' و ‘الكُفْر' والإلحاد، والعلماني، هو العقبة التي ينبغي التَّخَلُّص منها، حتى يسهل ‘نشر الإسلام'، وهو الإسلام بالمعنى الذي يفهمونه، لا بالمعنى الذي يعرفه عامَّة الناس، وهو ما جاء في الكتاب والسُّنَّة. وسيُمَهِّد هذا، ثانياً، الطريق لِ ‘دولة الخلافة'، التي هي دولة لا توجَد إلاَّ في خيالِهم، ولاشيء في تاريخ الإسلام يُشير لوجود دولة بهذا الاسم، أو بالصُّورة التي ما فتيء هؤلاء يَتَوَهَّمُونَها. وثالثاً، أنَّ كُلّ من يتكلَّم في الدِّين، أو يخوض فيه، لا يحق له أن يخرج عن ‘الإجماع′، وهذا الإجماع ليس سوى ما تعتبره هذه السلفيات العمياء مصدر الشريعة ومرجعَها، في ‘إقامة العدل'، أو ‘الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر'. دون أن يُدْرِكُوا أنَّ الحكومات الأسلاموية، كلها فشلت في تدبير الشأن العام، وليس لها مشروع سياسي مجتمعي واضح، ومنها من كان الدِّين عندها، فقط، ذريعةً للوصول للسلطة، مثلما نجد في نموذج العدالة والتنمية المغربي، الذي هو امتداد للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، رغم نَفْي بعض ‘خبراء' الحركات الإسلامية لهذه العلاقة. ليس بين من وصلوا للسلطة، بَعْدَ ما جرى من ثورات استطاع أن يكون مثالاً لِ ‘الحاكِم بأمر الله'، أو يكون ظل الله على الأرض، أو لِسانه النَّاطق باسمه. شبكات التواصُل الاجتماعية التي هي وسيلة لنشر المعلومات وتعميمها، فَهُم باتُوا يستعملون هذه الوسائط، التي تُتِيح لَهُم قول ما يريدونَه، وبَثّ الجهل والرُّعْب والخوف و'الفتنة' في الناس، دون حسيبٍ ولا رقيب، وباتَ من السَّهْل نشر التَّخاريف باسم الدِّين، أو بادِّعاء المَشْيَخَة، والإمارة، أو الأهلية العلمية لِلْخَوْض في شؤون الدِّين، بتلاوة بعض الآيات المنزوعة من سياقاتها التاريخية، والثقافية، أو أسباب نزولها، وبعض الأحاديث التي تبقى، دائماً، في حاجة للمراجعة والتدقيق، ناهيك عن الشطط، والإفراط في التأويلات التي تتفادى ‘النص' كُلَّما تعلَّق الأمر بالتضليل والدَّجَل، وتستحضره، كُلَّما كان الأمر فيه مصلحة، أو منفعة، بما فيها الاستفراد بالسلطة، وإعمال السيف لقَهْر القَلَم واللِّسان، وقَتْلِهما. فهذه الوسائط، التي هي من نِعَم العِلْم والتقدُّم العلمي الذي جاءنا من الغرب ‘الكافر'، بدل أن تكون وسيلة للحوار والنقاش، وتوسيع المعرفة، ونشر الفكر الحُرّ، في اختلافاته، أو في مظاهره المختلفة، فهؤلاء يستعملونها بنوع من القَهْر والحَجْر على هذا الفكر الحُرّ المٌخْتَلِف الجَريء، والعمل على إسْكاتِه، حتى لا تتعرَّى أفكارُهُم التي لا سَنَد لها، لا في الدِّين، ولا في العلم، ولا في الواقع الذي هو اليوم غير ما كان عليه زمنُ، وواقع الخُلَفاء. المدرسة والجامعة اللتان أصبحتا مَشْتَلاً لتفريخ مثل هذه السلفيات. فالطريقة التي يُدَرَّس بها الدِّين، أو نعتبره ‘تربيةً إسلاميةً'، وما يُقَدَّم للتلاميذ والطُّلاب من نفسيرات وشروح ومراجع وتأويلاتٍ، وحَشْر الدِّين في زوايا ضَيِّقَة، مُغْلَقَة، أو مُظْلِمَة، لا تسمح بالضَّوء، ولا بتوسيع مفهوم الإيمان، وفق ما جاء به القرآن نفسه، وتذهب للِتَّعَصُّب، وشحن التلاميذ والطلبة، بالأفكار التكفيرية، بدل الحوار والتسامُح مع الديانات والمُعتقدات الأخرى، كل هذا، وغيره، مما بات يُهَدِّد فكر الإنسان، هو بين ما ساهم في هذا التَّطَرُّف الديني، و في انتشار مثل هذه السَّخافات التي لا تَمُتُّ للدِّين بِصِلَة، والدِّين منها بَراء. حين تعمل وسائل التواصل الاجتماعية على نشر مقطع من فيلم مغربي، هو لحظة دخول الزوج على زوجته، بما هو شرع الله، وفق ما تُؤَكِّدُه مظاهر الاحتفال في الفيلم، باعتباره نَشْراً للإباحية، واعتبار اللقطة لقطة جنسيةً فاضِحَةً، فهذا لَعمري، هو العَماء، وجُنون العقل بعينه. لكن، علينا أن نكون يَقِظِين، ونفهم الأمور في سياقها. فالذين عمِلوا على نشر هذه الأكذوبة بادِّعاء الحَياء، والخدش في الدِّين، هُم أشخاص يعيشون أزمة جنسيةً حقيقية، وهُم أشخاص تَوَهَّمُوا الجِنْس، واسْتَكْمَلوا اللقطة من عندهم، لأنَّها لم تستجب للاشعورهم، وكانت بالنسبة لهم خيبة أمَل، أو بحسب نظرية التلقي، فالمخرج خَيَّبَ أُفُق انتظارهم، ما دفع بهم للِصُّراخ والعويل، بُكاءً على ما ضاعَ منهم، وهذه هي حقيقة العقول التي ينطوي عليها هؤلاء، ممن يَعِيثون فساداً في الدِّين، قبل غيره. شخصياً، تُرْعِبُنِي مثل هذه الأمور التي يعتبرها البعض غير ذاتِ أهميةٍ. انظروا عدد الذين التحقوا بجبهة النُّصْرَة، وداعش، بسوريا ل ‘قتال المرتدين'، وعدد الذين كانوا من مقاتلي طالبان في أفغانستان. فهؤلاء هُم حصيلة هذا الفكر الذي هو قنابل موقوتة، أو أحْزِمَة، تَتِمّ تعبِئَتُها بمثل هذه الخطابات التكفيرية الجاهلة، من قِبَل هؤلاء ‘الشيوخ' الذين ابْتلانا بهم الزمن، أعني زمن الجنون، وانحسار العقل وانْطِواءه. فعندما يصبح العروي كافراً، والجابري كافراً، واليسار، دون استثناء، كافراً، وعميلاً للخارج، يأْتَمِر على الأمة، ونساء مغربيات، من مناضلات وأُطُر حزب معارض، وهُنَّ من خيرة نساء المغرب، يِصْبِحْن فاجرات، وعاهرات، لأنَّهُن من أنصار الحداثة والتقدم، فهذا يكفي ليجعلني، أكون قَلِقاً، خائفاً على ما يمكن أن يحدث في بلدي، خصوصاً مع ما تعمل السلطات على اكتشافه من شبكات إرهابية، كامنة في مهاجعِها، تنتظر اللحظة التي تَنْقَضُّ فيها على من تعتبرهم أعداء الله ومارقين وفُجَّار. وما يزيد من قلقي، هو صمت السلطات على مثل هذه السلوكات، وهذه التصريحات الرَّعْناء، بما فيها من حِقْد وضغينةٍ، وأعني سلطة ‘رجال الدين' من العلماء، الذين يعرفون خَطَر هؤلاء على الأمة، وسلطة القضاء، الذي يتزعَّمُه اليوم واحد من الذين وصلوا للسلطة باسم الدِّين، وهو رجل قانون، يعرف ما يترتَّب عن مثل هذه المظاهر المتطرفة من انحراف، وضمنها ما صدر عن الذراع الدعوية لحزبه، الذي دخَل على خط التكفير، وهذه هي الطريقة نفسها التي كان يعمل به الإخوان المسلمون في مصر، حتى وهُم في السلطة، حين تركوا جمعيتهم الدعوية تعمل على مراقبة ‘الأخلاق'، ونشر التطرف والانحراف الدينيين، والنتيجة يعرفها الجميع. وما يدعوني للقلق أكثر، هو هذا الصمت المطبق للمثقفين والمفكرين المغاربة، من كُتَّاب وجامعيين، وعاملين في مختلف حقول المعرفة. ففي الوقت الذي تتعبأ فيه كل السلفيات لتكفير الفكر الحُرّ، وتكفير النقد والإبداع، وتكفير المفكرين والفنانين، والسياسيين، ممن يُنادُون بالقطع مع الفكر السلفي الماضوي الاجتراري، لا نجد صوتاً لمُثقفينا، عِلْماً أنَّ منهم من اعتبر المثقف في منأًى عن كل هذا، وهو كائن لا يعنيه تكفير التفكير، لأنه وُجِدَ ليكون خارج هذا كله. انظروا ما يجري في مصر، كمثالٍ، فتشرذم المثقفين، وصمت المؤسسات الثقافية، وبقاؤها خارج هذا الصراع الثقافي في جوهره، وفي أساسه، هو ما جعل المصريين يدخلون دوَّامَة الإرهاب، والقهر والمَنْع. فحين نكون قابعين في جحورنا، لا نتكلَّم إلاَّ بعد أن تكون الحرب انتهتْ، ونعمل على إحصاء الخسائر والضحايا، بدعوى أنَّ هذا هو عمل المثقف، فهذا، هو الظلام بعينه، وسيَّان أن تكون طيور الظلام جاهلةً لا مكان للعقل في رؤوسها، أو تكون من مثقفي الأمة، ممن يُؤجِّلون العقل لإحصاء الخسارات والضحايا، والاكتفاء بتشخيص ووصف وقراءة ما جرى. هؤلاء، جميعاً ظلاميون، لأنه اختاروا الجُحُور والجُحودَ، بدل المواجهة، وفضح ما أصبح عليه العقل من جنون وانحراف. لا فرق عندي بين الطرفين. فالسَّاكِت عن الحقّ شيطان أخْرَس. "القدس العربي"