في مصر، تنصرف فكرة الدولة مباشرة إلى الحاكم، وقد تكرس هذا المعنى في السياق التاريخي. فقد كان الحاكم في مصر ملكاً وإلهاً وكان الخروج على طاعته خروجاً على إرادة الله. كان ذلك سائداً في مصر الوثنية واستمر في مصر الإسلامية باجتهاد فقهاء السلطان، وأظن أننا لا نزال نعاني من بقايا ذلك حتى هذه اللحظة وصعوبة فك الاشتباك بين السياسة والدين على نحو صحيح وليس بطريقة انتقامية وتعسفية، طريقة تضمن للدين احترامه ومكانته ولكن تمنع الحاكم أو المحكوم أيضاً من استغلاله لتبرير استبداده، وهذه من لوازم الشعوب الإسلامية التي لم تعرف بعد الدولة الحديثة، وهذا هو السبب في أن الاتجاه الكاسح إلى تأكيد صورة الدولة المدنية الحديثة يقع في خلط واضح لأن الدولة بطبيعتها مدنية أما نظام الحكم فيها وتداوله فهو الذي قد لا يكون كذلك، إذ قد يقتصر الحكم على رجال الدين، كما هو الحال في الدستور الإيراني، أو يفسح الحكم للعسكريين كما كان الحال في مصر منذ 1952. والدولة التي يحكمها رجال الدين أو العسكريون هي دولة مدنية لكنها بالقطع ليست ديموقراطية حتى لو توافرت فيها البيئة والعلامات الديموقراطية. ولذلك يتم التركيز على أن الدولة المطلوبة هي الدولة المدنية، وهذا تحصيل حاصل، ثم أن تكون ديموقراطية، والديموقراطية تكون للنظام السياسي وليس للدولة، ولكننا نصنف الدول إلى ديموقراطية واستبدادية بالنظر إلى نظامها السياسي. ولذلك لا ضير في أن يصبح العسكري حاكماً في الدولة الديموقراطية لأن الحاكم يصل إلى السلطة وفق النظام الديموقراطي ويمارس السلطة وفق هذا النظام. فالنظام أقوى من الحاكم. لكن الحاكم العسكري في الدول غير الديموقراطية يأتي بقوة الجيش وسلطة القهر والقمع وهذا هو مكمن الخطر الذي أراه الآن في مصر وهو أن مصر ليس فيها نظام ديموقراطي، ولا يكفي النص عليه في الدستور ثم يفترق النص عن الواقع وإنما لا بد من مؤسسات وقوانين وسلوك وثقافة ديموقراطية وهي حزمة رباعية لا انفصال بينها. فإذا استقر هذا النظام وتغلب صار غالباً ومقيداً لأي حاكم مهما كانت خلفيته مدنية أو عسكرية. والحقيقة أن مصر دولة على الورق ولذلك فإن انسياب السلطة فيها واحتكار الجيش والشرطة والأمن لفكرة الدولة دفع البعض إلى المطالبة إما بنظام مبارك الذي حل محل الدولة أو بحاكم عسكري يقمع الحريات مقابل الأمن والقوت وهذا هو حال مرحلة ما قبل الدولة تماماً كما شاع منذ 1952 الحرص على حاكم عسكري ومحافظ عسكري ما دام الصراع مع إسرائيل مستمراً لأن إسرائيل جيش لبس لباس الدولة. إن معنى الدولة في مصر هو الجيش والشرطة، ولذلك فإن انتقاد تصرفاتهما في علاقتهما بالناس تلقى موجة من السخط على كل ناقد لأنه يقوض الدولة والأمن القومى. في هذه المرحلة هذا صحيح إلى حد كبير لأنه لا يمكن احترام القانون من جانب الأمن الذي لم يتمكن بعد سقوطه في كانون الثاني (يناير) 2011 وصحوته في حزيران (يونيو) 2013 من استرداد توازنه القانوني أي استخدام العنف وفقاً للقانون. لكن الجيش والشرطة ليسا عادة هما الدولة في الدول الديموقراطية لأن الضابط العام لتوزيع السلطة هو الدستور الذي يقدسه الجميع وهو عقد بين أبناء الشعب يفوض الحاكم بمقتضاه أن يستخدم الجيش للخارج والشرطة للداخل، وإذا مارست الشرطة العنف خارج دائرة القانون كان تصرفها كتصرف العصابة التي تشكلت أصلاً في غيبة القانون وترتبط شرعية استخدام القوة من جانب الشرطة بمدى كفاية غطائها القانوني وإلا سقطت عنها هذه الشرعية وأصبحت أعمالها عدواناً إجرامياً على حقوق المواطنين وحياتهم. أما الجيش فمستحيل أن يستخدم في الداخل إلا في الكوارث الطبيعية في الدول الديموقراطية. الشرطة والجيش أدوات للسلطة في دولة تضبطها إرادة شعب وضع الدستور وحرص على حمايته من أي من رجال السلطة. من ذلك يتبين أن مصر تمر بمرحلة استثنائية بالغة الخطر نفهم جميعاً أبعادها لكننا يجب أن نتعاون على إنشاء الدولة بسلطاتها الدستورية وأن يتم تثقيف الشعب لحماية هذه الدولة وإعادة الجيش والشرطة إلى حوزة القانون والدستور وتأكيد استقلال القضاء وجدية الإعلام الذي صار ذراعاً مؤلمة للجهات السيادية العليا. إن الأولى بالإصلاح هو المجتمع، وليس نظام الحكم، لأن المجتمع هو الوعاء الذي تخرج منه الحكومة وهو المخاطب بأحكام الدستور والقوانين وهو الضابط للدولة في معناها الأوسع. لذلك فإن تدهور المجتمع يفرز أسوأ العناصر في حكمه ويحقق الانفلات، فتصبح الشرطة أداة باطشة لحاكم فاسد لا رقيب عليه كما أن ذلك المناخ إضافة إلى عداء إسرائيل لأي نظام ديموقراطي في مصر يجعل الجيش طرفاً في العملية السياسية لشغله عن المواجهة عند اللزوم مع اسرائيل. إن مصر اليوم هي البيئة المثالية التي لا تريد اسرائيل أن تخرج منها إلا جثة هامدة، وعلى المصريين أن يستجمعوا عقولهم وأن يمكنوا العقلاء من القرار، وأن يتركوا صراع الديكة والصراع على السلطة لكي نعيد بناء دولة حديثة مدنية ديموقراطية مستنيرة قدوة لغيرها في عصور الظلام وليس عالة على غيرها أو ساحة لمؤامرات البعيد والقريب. "الحياة" اللندنية