قلت لنفسي، وأنا أشق طريقي بصعوبة بالغة وسط الملايين، هذه هي المرة الثانية التي أحتفل فيها مع الناس بهذا اليوم المجيد. كانت المرة الأولي في عام 1952. وكنت في الثامنة من عمري، ولا أذكر منها سوي فرحة والدي الذي اصطحبني معه لكي نخرج مع الناس في مدينة المحلة الكبري; ابتهاجا بخروج الملك فاروق واكتمال نجاح الثورة المصرية التي ناب فيها عن الشعب المصري جيشه العظيم في الثالث والعشرين من يوليو. ونتج عنها رحيل الملك المخلوع في السادس والعشرين من يوليو. وها أنذا أخرج في اليوم نفسه، لكن بعد واحد وستين عاما، وقد وهن مني العظم، واشتعل الرأس شيبا، غير أن مشاعر الابتهاج والحماسة من حولي كانت تنسيني الكثير من سنوات عمري، وتعديني بالفرحة التي لم أشهد مثلها من قبل; فأمضي في طريقي عابرا ميدان التحرير وسط آلاف مؤلفة تتزايد كل دقيقة، فتزداد صعوبة العبور التي كانت توقفني مرات ومرات، لأتأمل مع من حولي طائرات الهليكوبتر التي كانت تستقبل في كل مرة بهتاف الآلاف المؤلفة: الجيش والشعب إيد واحدة.. كانت الشمس لا تزال في السماء، لكنها أصبحت محتملة; فقد جاوزت الساعة الخامسة بقليل، واقتربنا من موعد غروب الشمس، غير أن ضوء ما بعد العصر كان يجعل تفاصيل أجساد الطائرات واضحة، ومن المؤكد أنه كان يتيح لقائديها رؤية الآلاف المؤلفة من الجماهير المحتشدة في الميدان، هادرة بالهتافات الحماسية، والآلاف من الشباب والرجال والنساء والأطفال، وفيهم الكهول من أمثالي، يرفعون صور الفريق السيسي الذي كان الكثيرون يرفعون صورته إلي جانب صورة عبد الناصر حبيب الملايين كما كنت أراه في أيام الشباب. ومضيت في طريقي، أعتمد علي يد ياسر الشاب الذي كان رفيقي في عبور ميدان التحرير. ولم أتوقف عن النظر حولي، وأنا سائر أتجنب المناضد التي وضعها الباعة الذين صارت أعلام مصر وشعارات الثورة وصور السيسي مادة مربحة لهم، ولم يفت نظري الإقبال الشديد علي صور الفريق السيسي الذي كانت الآلاف من حولي تردد الهتاف له وللجيش المصري الذي أصبح يد الشعب وضميره وقوته الرادعة والحامية الحارسة في آن. ولم تكن الهتافات تتباعد عن الجيش والشعب، وعن السيسي الذي أصبح بطل الجماهير وتجسيدا لصورة المخلص والقائد الذي انتظرته الجماهير طويلا. وقد فاجأني مشهد لا ينسي في أول شارع طلعت حرب، بعد أن استغرق مني عبور ميدان التحرير حوالي ساعة وربما أكثر، وذلك بسبب توقفي عند المشاهد الدالة التي كنت أريد حفرها في ذاكرتي، متيقنا أنني قد لا أشاهد مشهدا مشابها لها مرة أخري. المهم أنني بعد أن مررت ما بين عربتين مدرعتين، توقفت أمام المبني الذي يقع فيه نادي محمد علي التابع لوزارة الخارجية، كانت هناك دبابة، يقف إلي جانبها رجل عادي المظهر، أربعيني العمر تقريبا، رافعا لوحة مكتوبة بخط يد غير مدربة، جزمتك علي راسي يا معلم، وعلي رأسه يضع حذاء جندي من القوات المسلحة في آن، وإلي جانب الكتابة يضع صورة الفريق السيسي. والحق أنني تسمرت أمام هذا المشهد الذي أوقفني مشدوها. أعرف أن عبارة جزمتك علي راسي يا معلم عبارة عامية، يقولها أولاد البلد، حين يريد أحد الصبيان تأكيد احترامه للمعلم الكبير الذي يدين له الصبي بفضل التعلم أو بما ينزله منزلة هذا الفضل. لكن أن يفعل مواطن مصري ذلك مع قائد الجيش الذي لا ينكر أحد دوره الحاسم في إنهاء حكم الإخوان الفاسد الذي استولي علي مصر، ساعيا إلي أخونتها وإفقادها هويتها، فهذا شيء يستحق الوقوف عنده فعلا. وهو ما فعلته عندما وجدت نفسي متأملا ملامح الرجل واللوحة التي وراءه، وصورة السيسي الموجودة عليها، كما لو كان هو المعلم. وهي كلمة لها مخزونها الدلالي المرتبط بعبد الناصر في الذاكرة. وأبناء جيلي يذكرون ملاحم سنوات التحرر الوطني التي قادها عبد الناصر، ومنها ملحمة تأميم القناة التي كانت بداية تأكيد استقلال الإرادة الوطنية المصرية; وهي الإرادة التي لا تزال جماهير الشعب المصري تختزن في ذاكرتها الوطنية الأغاني التي كتبها صلاح جاهين وغيره لعبد الحليم حافظ عن الإنجازات الوطنية لجمال عبد الناصر. وجيلي يذكر كلمات الأغنية الشهيرة التي كتبها أحمد شفيق كامل لعبد الحليم حافظ بعنوان حكاية شعب، وتمضي الأغنية إلي أن تقول: ضربة كانت من معلم، خلت الاستعمار يسلم وكانت كلمة المعلم في الأغنية تشير إلي عبدالناصر، وهاهي الذاكرة الشعبية تستعيد الكلمة من جديد; ليطلقها الوعي الشعبي علي السيسي الذي رأت فيه الملايين العديدة من الفقراء صورة أخري لعبد الناصر وحبيبا آخر للملايين; فهو قائد جيش ينحاز إلي الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ويضع فوقها الاستقلال الوطني والكرامة الوطنية التي لا تقبل العمالة للولايات المتحدة أو غيرها من دول الاستعمار القديم أو الجديد. ولذلك تقبل السيسي ممثلا للجيش الوطني، ومعه ممثلو النخب الوطنية، خطة الطريق التي وضعتها حركة تمرد صاحبة الفضل في حشد ثلاثين مليون مصري ضد حكم الإخوان، وقد استجاب الجيش وقائده إلي تفويض وأمر قائده الأعلي صاحب الشرعية الحقيقية- الشعب، وخلع الرئيس الإخواني الذي فقد سند الشرعية التي استردها الشعب. وخرج الجيش من المشهد السياسي، وظل يرقب خطة الطريق دون أن يكون لاعبا أساسيا فيها; واكتفي بأهم المهام; وهي حماية الأمن القومي. وعندما رأي القائد العام للقوات المسلحة تزايد مخاطر أعداء الداخل الذين تحولوا إلي إرهابيين بعون من حلفائهم في الخارج طلب القائد العام للقوات المسلحة من قائده العام، وهو الشعب( بألف لام التعريف) أن يفوضه ويأمره بالتصدي للإرهاب والمواجهة الحاسمة لفاعليه في الداخل والأصابع الممتدة لأعوانهم في كل مكان; فخرج الشعب في ملايين أكثر عددا من ملايين30 يونيو، مفوضين السيسي وآمرين إياه بالتصدي للأعداء; وقد خرجت معهم، وعندما تركت الرجل صاحب لافتة جزمتك علي راسي يا معلم قلت لنفسي، وأنا أقترب من مقهي ريش لتناول الإفطار مع أصدقائي، قبل ذهابنا جميعا إلي ميدان التحرير: نعم، ضربة كانت من معلم، لكن وضع حذاء عسكري علي الرأس، فهو أمر غير وارد حتي في ذهن السيسي نفسه، وهو سبب آخر لتحوله إلي حبيب لملايين سنة2013. "الأهرام"