لعل صورة المدرس(ة) في الإعلام المرئي المغربي سواء كان سينما أوتلفزيون، يطبعها الكثير من التشويه والتزييف والتحامل مع الاستهداف،وذلك ناتج عن عدة أسباب نذكر منها: 1 جهل العاملين بميدان الاعلام للمشاكل الحقيقية التي يتخبط فيها نساء ورجال التعليم والظروف العامة التي يعملون في إطارها. 2 ضيق الأفق الدرامي لهؤلاء الذين يتناولون حياة المدرسين فضلا عن فقرهم الثقافي والمعرفي الذي ينعكس حتما على أعمالهم الفنية بشكل سلبي. 3 القرار السياسي الذي يعود إلى بعض الجهات النافذة في الدولة والتي تسير وتتحكم في دواليب الإعلام المرئي، بهدف الإساءة للمدرسين ومكانتهم بغية الحد من تأثيرهم في المجتمع. سأحاول في هذه الورقة أن أقدم بعض النماذج من الأعمال السينمائية والتلفزية التي سعت بقصد أو بغيره للإساءة للمدرسين، لأن الأمر لم يعد فلتة أو حدثا عرضيا غير مقصود أو انحراف قد يحصل هنا أو هنا، بل يبدو أن وسائل إعلام عديدة في بلادنا وجدت في رجل التعليم مادة دسمة للتحقير والإساءة،وتمرير خطابات لا تخلومن العدائية وسوء النية، وذلك عن سبق الإصرار، لأن المسألة ما كانت لتكون كذلك لولا تواترها وتكرارها، جلها تتضمن صورا قدحية للمدرس. وبدل استغلال رسالة الفن في التنوير وترسيخ القيم النبيلة ودور المدرس في ذلك عبر الإعلاء من مهنته ومكانته واستجلاء الحقائق، لا تعمل هذه الوسائل إلا على تأكيد وتكريس الصورة النمطية السوداوية المرسومة عنه في المجتمع،وذلك في قالب للأسف بعيد حتى عن الفن ورسالته السامية وعن الفنان الذي أصبح مثار سخرية المُشاهِد وتَأفُفِه بسبب بلادة المنتوج وافتقاره إلى الإبداع والرؤية الفنية الجمالية. فإذا استثنينامسلسل من "دار لدار" للمخرج عبد الرحمان ملين سنة 1996م حيث حظي المعلم هذه المرة بصورة إيجابية،بحيث يقدم البطل في شخص المعلم كمنقذللخادمة من معاناتها الطويلة، باعتباره هنا يمثل رسول الرحمة الذي أخرجها من ظلام الجهل إلى نور العلم والمعرفة بعد أن تزوج منها وقام بتعليمها القراءة والكتابة. 1 فها هو فيلم "الباب المسدود" للمخرج عبد القادر لقطع سنة 1998م، أول فيلم سينمائي مطول يتناول وضعية رجل التعليم ومعاناته في العالم القروي، بمعالجتهلقصة معلمين شابين حديثي العهد بالمهنة، وهما يزاولان عملهما بإحدى المدارس الفرعية في الجنوب المغربي، ويسلط هذا الفيلم الضوء على معاناة مادية ووجودية عاشها الموظفان الشابان تمثلت في غياب أبسط وسائل العيش الكريم، غير أنه، وبمجرد اقتراب الفيلم من نهايته، يكتشف المتفرج أن إحدى الشخصيتين مصابة بالشذوذ الجنسي، وهذا ما يمكن أن يوصف بالسم في الدسم، بحيث أن الفيلم يبدو في مجمله منصف لمهنة التدريس لكن كل ذلك كان مجرد إيهام وتوطئة لإيصال الرسالة الأهم وهي الحظ من مكانة المعلم وضرب صورته ورمزيته في المجتمع وتكريس عدم أهليته للرسالة المنوطة به ألا وهي التربية والتدريس وعدم الثقة به. 2 كذلك مسلسل "دواير الزمان" للمخرجة فريدة بورقية سنة 2000مالذي سلطت فيه الكاميرا الضوء على جزء من المعاناة الوجودية للمعلم في علاقته بمحيطه الاجتماعي وتمظهرت في تذمره من المستوى الهزيل للتلاميذ، مما دفعه إلى حثهم على بذل مجهود أكثر وهذه على أي حال صورة إيجابية للمعلم، لكن الكاتب ومعه المخرجة اختارا له أنيخاطب تلامذته في لحظة يأس خطابا يفوق إدراكهم، مما يعني أن الكاتب لم ينفذ إلى شخصية المعلم بالعمق الذي يجعله يتحدث على لسانه بشكل أقرب إلى الواقع، بيد أن هذه الصورة الإيجابية سرعان ما ستتلاشى بمجرد تورط المعلم في عملية جنسية تفضي إلى حمل شريكته ثم تهربه بعد ذلك من المسؤولية، وهذا التهرب من المسؤولية دلالة على جبن المعلم عن مواجهة أخطائه. 3 أما فيلم "ابن الثلج " للمخرج محمد الغرملي سنة 2002،فإنه اختار أن يتناول المهنة في قالب من الدراما حيث تدور قصته حول معلم ساذج وبليد لا يعرف معنى التحضر مسجون بقريته، لكن في يوم من الأيام تأتي فتاة جميلة وتنقلهُ من الجهل إلى التحضر، وفي ذلك إمعان في تشويه صورة هذه الفئة الاجتماعية/الاساتذة خاصة بالتعليم الابتدائي، حيث ظهر المعلم في مشاهد متكررة يتحدث بجمل عربية فصيحة في حواره مع أفراد أسرة غنية، وبين الفينة والأخرى يحاول أن يلوك جملا باللغة الفرنسية، أما الدلالة الناتجة عن هذه الصورة فتكمن في أن المعلم كائن بعيد عن روح العصر من خلال نوعية لباسه أولا، ومن خلال اللغة التي يتحدثها والتي بالتأكيد تعكس طبيعة تفكيره. 4 وها هو أيضا مسلسل "العين والمطفية" للمخرج شفيق السحيمي سنة 2002م الذي حاول بطريقته أن ينقل لنا شخصية المعلم في الوسط القروي بصورة مختلفة، فعوض أن تتمثل فيه قيم العلم والمعرفة والوعظ والارشاد، انقلبت الآية وأصبح متلقيا لها، فالمعلم في الفيلم ليس إلا كائنا بليدا يفتقر إلى الذكاء بحيث يسيره الآخرون ويهزؤون به في إشارة من كاتب القصة والمخرج إلى الأمية الوظيفية والمعرفية التي توجد عليها هذه الشخصية، وذلك احتقار خطير للمهنة وممتهنيها. 5 فيلم "ألف شهر" للمخرج فوزي بن سعيدي سنة 2003م، حيث يصور لنا الأستاذ كشخص شهواني استغلالي انتهازي أناني مرفوض اجتماعيا. 6 بينما فيلم "القسم 8" للمخرج جمال بلمجدوب، سنة 2003م تتخذ فيه الأستاذة ليلى من التماطل والامتناع عن أداء الواجب المهني حلا لظاهرة شغب التلاميذ، في إشارة إلى العقم الابداعي التربوي لديها، رغم بعض التدارك لاحقا في الفيلم. 7 كذلك الأمر في فيلم "المعلمة"للمخرج حسن المفتي الذيأنتجته القناة الثانية سنة 2004م، حيث حاول رصد بعض أوجه المعاناة التي يكابدها نساء ورجال التعليم المشتغلين في الوسط القروي، وذلك بالتركيز على معاناة الشخصية البطلة"أمال" والصراعات التي واجهتها بمجرد ولوجها مهنة التعليم،بدءا بالمشكل الأساس المتمثل في التعيين في وسط قروي نائي يفتقر لشروط الحياة الكريمة، والذي بدوره سينتج عنه مشكل آخر بعدما وجدت نفسها في صراع مع كبير القرية ونافذها الحاج الوردي، لكن الفيلم بالغ في تصوير الواقع وقدم المعلم كشخص ضعيف لاحول له ولا قوة، انهزامي، وهذا ما تجلى مثلا في شخصية الحاج الوردي وهو يمارس الوصاية والسلطة بشكل شبه مطلقة على المشتغلين بالمدرسة، بينما يُظْهِر المدير عبر جل مشاهد الفيلم كشخص تابع ذليل خائف جبان لا يقوى على مجابة الحاج الوردي، كما يُظْهِر الفيلم شخصية المدير في أحد المشاهد في وضع حقير جدا جشعا طماعا في مال الحاج،وإذا كان المدير في هذا الوضع فبالتأكيد وضع المدرس سيكون أسوأ بكثير لدى المشاهد ،لما للمدير من قيمة إدارية قانونية رمزية. 8 أما فيلم "اللعب مع الذئاب" للمخرج سعيد الناصري سنة 2005م، رغم أن الفيلم لا يتناول شخصية المدرس بشكل رئيسي بل يعالج اشكالية الثروة والزواج بين الأقارب ومسألة التبني، إلا أنه يظهر في مقطع مهين جدا لأستاذ التعليم الابتدائيحيث يرد على لسان الممثل/البطل سعيد الناصري وهو في نفس الوقت مخرج الفيلم قائلا: "أنَا مَعْنِديشْ حْتَى المُسْتَوَى دْيَالْ مُعَلِّمْ حَتَى نْوَلِّي أُسْتَاذْ دَقَّة وَحْدَا" في إشارة إلى احتقار المعلم ومكانته. 9 كما أن فيلم "صدى الجبل" للمخرج عبد الله العبداوي سنة 2009م، يحكي قصة أحمد وهو شاب مغربي متفائل يعين في قرية نائية بمنطقة معزولة بجنوب المغرب بعد تخرجه من مركز تكوين المعلمين،ويضطر لفراق عائلته وأصدقائه ومدينة أكادير التي يعشقها مستعدا لمواجهة قسوة العيش في العالم القروي، وبالفعل تواجهه العديد من المصاعب لكنه يتخطاها بقوة وعزم، وفي ذلكاعتراف بمجهود المعلم المغربي، بحيث أن الفيلم يعكس الوجه الحقيقي لحياة رجل التعليم في الجبال خلال السنوات الأولى من تعيينه، كما أن الفيلم لا يخلو من القيم النبيلة والأخلاق السامية التي يتسم بها رجل التعليم وحبه لعمله رغم كل العوائق التي تعترضه لأداء مهمته النبيلة، إلا أن مخرج الفيلم أصر إلا أن يمرر صورة سيئة عن المدرس عندما صَوَّرَه كشخص متردد وفي نفي الآن متسرع. 10 في حين صور لنا فيلم "جوق العميين" للمخرج محمد مفتكر سنة 2015م، الأستاذ كشخص منبوذ وهامشي في المجتمع. 11 أما فيلم"غزية" للمخرج نبيل عيوش سنة 2017م، فقد نقل لنا صورةالأستاذ وهو يترك قسمه بعد تدخل المفتش التربوي في درسه،حيث سيدخل بعدها في حالة انهيار، ثم يترك حبيبته التي كان يقضي معها الليالي الحمراء. 12 أما فيلم "مول البندير" من إخراج إبراهيم شكيري سنة 2019، فإنهيحكي لنا قصة أستاذ غير متزوج يعيش مع والدته في نفس البيت، لكنه دائم التأخر عن العمل بفعل بُعد المنزل عن المؤسسة التعليمية التي يشتغل بها، وهذا الوضع صار يسبب له عديد المشاكل،وللتغلب على ذلك قرر الانتقال إلى مسكن قريب من مقر العمل، وهناك ستنقلب حياته رأسا على عقب، إثر علمه أن صاحبة المنزل المُكْتَرى هي "شيخة"، وتنظم بين الفينة والأخرى سهرات ستترك مفعولها في نفسية الأستاذ، وبعدما استعصى على المعلم مسايرة تسديد ما بذمته من سومة الكراء، سيقرر الاشتغال ضاربا للبندير في الأعراس والسهرات من أجل المال، وبغض النظر عن واقعية القصة التي تنقل لنا المعاناة المادية للمدرس إلا أن ذلك لا يبرر فنيا ولا قيميا معالجتها بتلك الطريقة المهينة للمدرس بشكل خاص وللمهنة بشكل عام. 13 وها هو فيلم "الأستاذ" للمخرج محمد علي مجبود سنة 2020م، يرصد لنا الاستاذ في صورة شخص ضعيف الشخصية غير واثق من نفسه، لذلك كانت نهايته مأساوية. وآخر حلقات هذا الاستهداف لنساء ورجال التعليم هو ما تَكَرَّمَت به التلفزة المغربية منمسلسل"أولاد يزة" للمخرج ابراهيم الشكيريالذي يُبَث هذه السنة 2024م خلال شهر رمضان في أوقات الدروة على القناة التلفزية الأولى، حيث يقدم رجل التعليم في صورة موغلة في البشاعة،وكإنسان بئيس بلباس غير متناسق، في تحامل مقصود، لأنه إذا صادف أن وجدنا أحد المدرسين على تلك الصورة فإنها لا تعدو أن تكون حالة شاذة، وبالتالي لا يجوز تعميمها وإيهام الرأي العام وخصوصا التلاميذ والآباء أن تلك هي صورة المدرس العامةكشخص يثير الشفقة ومُتَحَكَّم فيه من قبل زوجته. خلاصةالقول إن وجود بعض الحالات الشاذة في قطاع التعليم لايعني ولايبررتناولها من باب النكتة أو الاستهزاء والتحقير،خاصة إذاكنا نسعى إلى بناء جيل جديد تُوكَلُ إليه مهمة دفع عجلة الترقي والتقدم الحضاري،حيث لامناص عن وظيفة المدرس كرسالة سامية ذات أخلاقيات خاصة،تستوجب من الجميع سواء الإعلام أو المجتمع أوالأسرة المحافظة على صورتها الذهنية،لأن خدش هذه الصورة لها انعكاسات أخطر من أن تخدش صورة مهنة أخرى من المهن،لأن مهمة المدرس هي صناعة الإنسان عماد المجتمع،فعلى يديه يتعلم الطبيب والمهندس والقاضي والمحامي والوزير والعامل والفلاح والتاجروالشرطي والجندي والفقيه والرياضي والفنان والصحفي وغيرهم من المهن التي تشكل المجتمع،لكن عندما تستهدف مكانته الاعتبارية ورمزيته،فلن يتمكن من الاضطلاع بدوره التاريخي،والنتيجة سيدفعها مجتمعنا برمته عبرالتقوقع في درك الحضارة الإنسانية. شفيق العبودي العرائش في 25 مارس 2024