عادل امليلح منذ سنوات ونحن نشاهد عبر وسائل الإعلام المتنوعة العروض العسكرية الروسية التي لا تنتهي، أرتالا من الدبابات التي تجوب الساحة الحمراء، والراجمات التي تطلق وابلا من الصواريخ، وأسرابا من الطائرات السريعة والسفن العسكرية المتنوعة، ناهيك عن الغوصات النووية المرعبة القابعة تحت جليد القطب الشمالي تحمل رعبا نائما لا أحد يتمنى له أن يستيقظ، وطالما سمعنا عن صاروخ فرط صوتي جديد، إس-400، وآر إس 26، واسكندر، وسارمات… صواريخ تحمل أسماء مرعبة مثل الشيطان ويوم القيامة… كنا معجبين بهذا التنوع الرهيب في وسائل القوة العسكرية الروسية، واعتقدنا أن ما يحسم الحروب هي القبضة العسكرية، وأن الدول تقاس بجيوشها وعتادها الحربي، وكم راقبنا اقتناء بعض الدول كالجزائر وسوريا وإيران للمعدات العسكرية الروسية حيث منحنا ذلك إنطباعا أن هذه الأدوات قادرة على كبح جماح الغرب واستراتيجياته في المنطقة… والحقيقة أن هذه السذاجة لم تغزو روح الأطفال العفويين وحسب، بل وحتى الخبراء العسكريين والجيوبولتكيين والجيوستراتيجيين، ناهيك عن القادة السياسيين، فحتى أمس عندما أعلن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" عن عمليته العسكرية في أوكرانيا وتقدم مئات الآلاف من الجنود الروس والدبابات نحو العاصمة الأوكرانية، وتهديده برد قاسي على كل من يعترض العملية العسكرية الخاصة، لم يشكك أحد في قدرة بوتين على غزو أوكرانيا، حيث كانت وسائل الإعلام الغربية تقصر الأيام التي ستسقط فيها العاصمة "كييف" وينتهي فيها عهد زيلينسكي، لدرجة أن الغرب حاول عرض طائرة خاصة لنقله وأسرته خارج أوكرانيا خوفا من قتله أو اعتقاله. وبينما كانت سمعة المنظومة العسكرية الروسية تعطي إنطباعا قويا على أن الحسم سيكون عاجلا، كانت الأحداث تتحرك عكس ذلك، ليتضح فيما بعد أن هذه العملية لم تكن سوى حصان طروادة رمزي بدون جنود، حصان من ورق يحمل في جوفه جنون العظمة، وضعف عسكري خطير، وأخطاء تكتيكية تفتقد لأبسط المقومات الاستراتيجية. أتذكر حديث مستشار بوتين "ألكسندر دوغين" الملقب بعقل بوتين وهو يصرح لأحد المنابر الإعلامية عن أوراسيا الجديدة، قارة تخضع للمنظور الروسي على خريطة الجيوبولتيك الدولية، أوراسيا المتميزة بوحدتها التاريخية والجغرافية وتقاربها الديني والعرقي، المنفصلة عن الغرب، وكشرط لهذا الهدف النبيل جعل من بوتين النبي المبشر، وباني أركان هذا الطموح الذي لم تصله حتى تخيلات أكبر الأدباء الروس مثل ديستويفسكي وليو تولستوي… كما أتذكر أحد مسلسلات نيتفليكس تحت عنوان "منزل الورق House of Cards" التي كانت تتمحور حول صناعة السياسة والساسة في البيت الأبيض، حيث صورت بوتين تحت إسم "فيكتور بيتروف" وهو الدور الذي جسده باتقان الممثل "لارس ميكلسن"، في صورة من الغرور والحماس المفرطين، وكأن الغرب كان يدرس شخصية بوتين منذ عهود، ذكرني ذلك بغرور بوتين عندما استقبل الرئيس الفرنسي على طاولة بامتداد المسافة بين فرنساوروسيا، وكذلك ضربه بيده على مكتبه وهو يعلن عن عمليته العسكرية في تحدي صارم قل نظيره وتحذير هزع بخواطر قوى معادية حينها، حماس بوتين وغروره، لا وجود له في عقيدة أي دكتاتور سبقه عبر التاريخ.. فعندما حاول هتلر غزو بولندا التي كانت تعد أكبر دولة بأوربا قبل الحرب العالمية الثانية دفع بأكثر من مليون ونصف جندي نحو المعركة معتمدا حربا خاطفة تحرق الأخضر واليابس، وعندما حاول نابليون بونابارت بلوغ أعتاب روسيا كان تعداد جيوشه تفوق النصف المليون جندي مجهزين بالبنادق والمدافع القوية، لكن بوتين حاول غزو أكبر دولة أوربية والتي تأتي في مراتب متقدمة في التصنيف العسكري في القرن الواحد والعشرين بأقل من مائة ألف جندي، وهذا ما يعني الحمق عينه، فعلى ماذا كان يستند هذا الخيار الاستراتيجي؟ لقد ظنت النخبة المقربة من بوتين أن هناك مؤشرات تصب في صالح روسيا ومشروعها الكبير في بناء أوراسيا العظمى ومن بينها: – الرهان على الانقسامات الداخلية بين الدول الأوربية، خاصة بعد خروج بريطانيا وتصاعد أحزاب اليمين المتطرف في أوربا التي معظمها تتبنى سياسات مضادة للإندماج الأوربي، بالإضافة إلى تزايد حدة الأصوات المناهضة للاتحاد الأوربي، كلها أعطت انطباعا قويا بأن أوربا على شفى الانهيار، وكانت مقالات عدة تكتب بحماس عن هذا الأمر، وربما ظنت النخبة أن العملية العسكرية ستسرع هذا التفكك من خلال إنقسام مواقف الدول الأوربية من الحرب الروسية الأوكرانية، مما قد يحد من نفوذ حلف الناتو.. – الرهان على ورقة الطاقة وخاصة الغاز، فربما ظن الروس أن بعض الدول الأوربية لن يكون بمقدورها التحرر من التبعية الطاقية لروسيا خاصة ألمانيا التي كانت تعتمد في تأمين حاجاتها من الغاز على الغاز الروسي، وربما دفع ذلك العديد من الدول الأوربية للقبول بشروط بوتين وفق ما يراه ويؤمن به من خلال استخدام ورقة الطاقة. – الرهان كذلك على ظهور معارضة داخلية في أوكرانيا تصطف مع روسيا، مما سيسهل تغيير النظام وتنصيب آخر، مواليا للمصالح الروسية، تماما كما حدث في جورجيا حيث تم تنصيب نظام موالي لروسيا وقمع المظاهرات في أوكرانياوسورياوبلاروسيا وكازاخستان… حيث كانت روسيا لا تتوانى في إرسال جيوشها لهذه الدول تحت مسمى معاهدة الأمن الجماعي، وحماية الأمن القومي الاستراتيجي الروسي.. – الرهان على المجموعات الجديدة والتي تقدم نفسها كتكتل في مقابل الغرب، أقصد مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، التي تتبنى نفس الطرح الروسي المناهض للهيمنة الأمريكية ونظام القطب الواحد، والداعية لنظام دولي جديد متعدد الأقطاب، خاصة الصين الحليف الكبير لروسيا، والتي ترى في تايوان ما تراه روسيا في أوكرانيا، خطرا قوميا وشرا لا بد من الوقوع فيه.. – ثم هناك ذلك الرهان على القوة العسكرية التي امتلكت سمعة وهيبة من أعمال خارجية كالتدخل في سوريا وقلب الموازين لصالح الرئيس الحالي بشار الأسد، وكذا النفوذ الكبير الذي حققته مجموعة فاغنر خاصة في إفريقيا. لقد كانت رهانات بوتين على الأقل فيما يتعلق بأوكرانيا وأوربا خاسرة، وتتسم بقصر نظر استراتيجي خطير جدا. فمع تعثر الغزو الروسي وتباطؤ تقدمه في كل الجبهات، أفصح ذلك عن مواقف جديدة، وبين بالملموس أن جيش بوتين يعاني من مشكلة ما، فمن تدمير المئات من الدبابات وقطع الإمداد على الجيش الروسي، إلى إغراق القوات الأوكرانية بمساعدة المخابرات الغربية لأقوى طراد روسي في البحر الأسود "مسكوفا"، طرادا غرق ولم يطلق رصاصة واحدة باتجاه أعدائه، وكأن المعدات العسكرية الروسية الجبروتية عمياء لا ترى ما حولها، ومع تغير الخطة الروسية والتركيز على الأقاليم الشرقية اتضح أن بوتين راهن على الساكنة الموالية لروسيا وبالتالي ساعده ذلك على خلق وضع جديد في شرق أوكرانيا، أما ما قسم قشة بوتين هو تلويحه المستمر باستخدام السلاح النووي رافعا شعار المظلومية في وجه المنتظم الدولي، وتعثر القوات الروسية لقرابة سنة في السيطرة على مدينة أوكرانية صغيرة لا أهمية استراتيجية لها "باخموت" تحولت لفخ لدحر واستنزاف القوات الروسية، مما تطلب الاستعانة بخدمات مجموعة فاغنر غير النظامية، وما زاد في الطين بلة هو قصف متكرر داخل الحدود الروسية وقصف أوكرانيا لجسر شبه جزيرة القرم وتفجير خط نورد ستريم لنقل الغاز، ولم يتوقف الأمر هنا بل وصلت الطائرات المسيرة الأوكرانية لقبة الكرملين وجابت أجواء موسكوا لم تلتقطها لا عيون إس-400 ولا إس-500، انفجرت في مشهد بنورامي فوق رأس بوتين إذ تم صدها في أخيراللحظات. وكأن منظومة الدفاع الروسية لا ترى أبعد من مظلة الكرملين، مع العلم أن القدرات الأوكرانية تبقى محدودة ومعظمها دفاعية، لكنها فاعلة، ولم يجد بوتين من سبيل غير اتهام أوكرانيا بالارهاب وإرسال المئات من المسيرات والصواريخ التي يتم اسقاط معظمها، ينضاف إلى ذلك أن القوات الروسية تحولت من مرحلة الهجوم إلى مرحلة الدفاع أمام الهجوم المضاد الذي أعلنته أوكرانيا مؤخرا، لكن المفاجأة هي إعلان مجموعة فاغنر التمرد وتقدمها بعمق يفوق 700 كيلومتر داخل الأراضي الروسية في اتجاه العاصمة الروسية موسكو تحت شعار "مسيرة العدالة" دون أن يعترض سبيلها أحد، وهو ما يعتبر حدثا استثنائيا في عهد حكم الرئيس فلادميير بوتين.. وما أظهرته اللقطات من محاولات الروس قطع الطريق من خلال حفر الخنادق في الشوارع واستقبال هذه الأخيرة بالترحيب في العديد من المناطق الروسية، يبين بالملموس أن هناك خللا عميقا في المنظومة الروسية في أبعدها العسكرية والسياسية والاقتصادية، وأن الأوضاع تسير في غير صالح الروس أو لنقل في غير صالح بوتين، قيصر روسيا الجديد الذي ليس له سواعد القياصرة ولا أقدام ستالين الزاحفة، واتضح بالملموس أن بوتين ليس سوى شخصية ثانوية في هرم السلطة الروسية، حيث كان من المفترض اقالة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ورئيس المخابرات ومستاشري بوتين وغيرهم مما خططوا ودشنوا للعملية العسكرية الفاشلة، لكن لم يقع أي شيء من هذا القبيل، مما يؤكد أن الروس لا يتعلمون من تاريخهم عندما انهزموا في أفغانستان، على الرغم من اتهامات رئيس فاغنر لشخصيات روسية بارزة بالجبن والخيانة، فلماذا تتخبط روسيا في كل هذه المشاكل؟ فشل روسيا استراتيجيا في أوكرانيا لم يعد محط جدال أو شك، وينتظر العالم اليوم ما سيقع داخل روسيا أكثر مما يقع داخل أوكرانيا، ففي لغة الجيوبولتيك ترتبط أوكرانيا مباشرة بروسيا عبر حدود تصل إلى حوالي 1600 كيلومتر، بالإضافة لحدود مع بيلاروسيا أحد أقوى حلفاء روسيا تصل إلى قرابة 900 كيلومتر، وهذا يعطي لروسيا امتيازان وهما: عامل الاتصال الجغرافي وعامل الإمداد البري المباشر، لكن روسيا فشلت في استثمار هذه المميزات، والغرض من العملية العسكرية كان بهدف منع انضمام أوكرانيا إلى حلف النيتو NATO، وتقديم ضمنات لعدم تهديد الأمن القومي الروسي بما في ذلك منع أوكرانيا من امتلاك السلاح النووي أو حتى نشره على ترابها، غير أن هذا الهدف الذي جعلته المؤسسة الروسية محور أمنها القومي، جاء بطريقة عكسية، حيث تسعى اليوم كل من السويد وفلندا إلى الإنضمام لحلف الشمال الأطلسي، خاصة فلندا التي لها حدود طويلة مع روسيا، إن الأغراض الاستراتيجية الروسية جاءت عكسية تماما، فهي لم تؤدي لتسريع تفكك الاتحاد الأوربي واضعاف الناتو، بل عززت اتحاد الدول الأوربية وفتحت عيونها على مخاطر كثيرة مما عزز كذلك من حضور حلف الناتو وعودة بعض الدول الأوربية لتسليح نفسها مثل ألمانيا، وأخرى لرفع نفقاتها العسكرية ومساهمتها في حلف النيتو، وأن الدول الأوربية استطاعت أن تؤمن حاجاتها الطاقية بدون الانصياع للابتزازات الروسية، ناهيك عن ثقل العقوبات الاقتصادية وافتضاح الأدرع العسكرية الممثلة في مخاطر مليشيات فاغنر.. لقد قاد الغرور بوتين إلى أن أصبح دكتاتورا منفصلا عن الواقع، فمن إعدام المعارضين من خلال السم، إلى التلاعب بنتائج الانتخابات وتغيير الدستور إلى تسخير المجهود الحربي الروسي دون الالتفاف لموقف الشعب الروسي، دكتاتور يتوهم نفسه بالعصمة والنبوة في بناء شيء عظيم مرسوما على الورق، شيئا يحتاج لما هو أهم من العقيدة العسكرية، فبناء أوراسيا والإطاحة بالهيمنة الأمريكية يحتاج إلى اقتصاد صناعي قوي، يحتاج إلى ثقافة بمعلومات عصرية، يحتاج للسلطة سياسية مبنية على الديمقراطية، وبما أن المآسي عندما تهز عروش الديكتاتوريات تجعل منهم مجانين وحمقى، فإن خيار بوتين الأخير هو استخدام السلاح النووي التكتيكي في أوكرانيا، وربما حتى مع هذا لن يحقق شيئا كبيرا، فلعل معظم مخزون السلاح النووي قديم ومتهالك، إذ قد تنفجر الرؤوس النووية بأنواعها الاستراتيجية والتكتيكية داخل الحدود الروسية قبل وصولها لأوكرانيا أو لأحد معاقل حلف النيتو في الدول المجاورة، كما لا أستبعد أن تشعل روسيا بعض الحروب الإقليمية بما يؤدي لابعاد التركيز الدولي على روسيا، ربما تعود روسيا لتنفيذ عمليات مستمرة على الأراضي السورية وتأجيج الحرب الأهلية في السودان واثارة الفوضى في العديد من الدول الأفريقية كافريقية الوسطى ومالي حيث تنتشر عناصر فاغنر ناهيك عن تحريك أوراق اقليمية ثقيلة.. لكن الحقيقة المدركة والأدلة توحي كلها أنه خلال الأشهر المقبلة لن يكون هناك بوتين في روسيا، لقد أصبحت مسألة أيام حتى يتم ازاحته من عرشه، وأن العالم ينبغي أن يؤهل نفسه لمرحلة ما بعد بوتين. فهل هي لعنة أبرياء الشعب السوري؟ أم هي لعنة شخصية محكومة بمنطق مبالغ فيه؟ وربما لعنة الاخفاق الاستراتيجي في التوفيق بين الغرور السياسي والعسكري ومتطلبات أرض الواقع؟ صحيح أن الخبراء يحددون بدقة المسؤوليات في الحرب الأوكرانية الروسية، باعتبار أن الحرب جاءت كرد فعل تجاه سياسة حلف الناتو في التوسع شرقا نحو الحدود الروسية، لكن بعض طموحات روسيا دعمت مخاوف حلف الناتو، فالتدخل في شؤون العديد من الدول والتقارب مع الصين، واغتيال المعارضين، وتهديد التحالف الدولي في سوريا وبناء شركات عسكرية عابرة للقرات… كلها عوامل طرحت مشكلة انفلات وخروج روسيا من هيمنة الغرب على النظام الدولي، وبما أن السياسة الروسية أخذت منحى تصاعدي يترافق مع الخطاب الجديد الذي يصب في سبيل بناء نظام دولي جديد متعدد الأطراف، فإن أمريكا لن تقبل بالتنازل عن عرشها بسهولة، ولتقليم أظافر الدب الروسي كان لابد من حشره في زاوية ضيقة، زاوية طرحت قضية مركزية عند الجيوبولتيين مثل ماكندر باعتبار أن جغرافية روسيا توجد في قلب منطقة الصراع الدولي. وما يقع اليوم هي أن روسيا تفقد نفوذها الخارجي سريعا، وأن الصين التي تعول عليها روسيا قد اختارت التريث كثيرا قبل القيام بأي تحرك غير محسوب العواقب، خاصة مع تنامي التحالفات على طول امتداد بحر الصين، فاضعاف روسيا جيواستراتيجا سيفتح الطريق للتعامل بشكل أفضل مع الصين. ومما لا نقاش فيه اليوم أن روسيا دخلت مرحلة الهزيمة الجيوستراتيجية، التي ستنتهي حتما بفقدان روسيا لنفوذها الخارجي والإطاحة بالرئيس الحالي والنخبة المرتبطة به، في سبيل بناء نظام جديد قادر على التفاوض مع الغرب لرفع العقوبات الاقتصادية وإعادة ادماج روسيا في اقتصاديات الغرب القوية.