من البديهيات الواضحة أن هناك فرقا شاسعا بين المسجد وبين التلفزيون وغيره من المنابر الإعلامية، سواء في طبيعتهما أو في الوظائف الموكولة لكل منهما. ومن ثمة لا احد يمكنه ان ينتظر من وزارة الشؤون الاسلامية ان تخصص خطبة الجمعة القادمة للراي الرافض للدستور. لكن هذا لا يعني ان الذين طالبوا بذلك كانوا على خطأ في انتقادهم لتكليف الخطباء بالدعوة الى التصويت بنعم كما حصل يوم الجمعة الماضي. أكثر من ذلك فالمفترض حتى في الذين يؤيدون المشروع الدستوري، وخاصة من الديمقراطيين، ان يعبروا، وبوضوح، عن رفضهم لقيام الوزارة المذكورة ب(تعبئة) خطباء الجمعة بتلك الخطبة التي تحدثت عنها وسائل الإعلام، وقالت انها عممت على كل مساجد البلاد وتليت فيها يوم الجمعة الماضي. والرفض هنا بمنطق الاشياء وبالمبدئية الذي يجب ان تحكم التعامل مع القضايا الكبرى والحساسة. فشرح مضامين الدستور واتخاذ موقف منها هو, عمل سياسي ووظيفة مكانها خارج المساجد. ولا نرى دستور 2011 في حاجة إلى ديباجة خطب الجمعة ولا إلى توظيف نصوص القرآن ولا إلى الاستشهاد بالأحاديث النبوية. فالقوى السياسية والنقابية المقتنعة بقول نعم لهذا الدستور تقوم بدورها التفسيري والتعبوي في هذا الاتجاه، ولها الوسائل والمنابر المستعملة في المجال السياسي، من صحافة وقنوات تلفزية والإذاعات والتجمعات والتظاهرات. ونفس الوسائل متاحة لمن يقاطع أو يقول لا. لذلك فإن منزلق خطبة الجمعة الماضية يعد من الأخطاء التي تربك الحياة السياسية. والمعروف أن مثل هذه الأخطاء إنما تشكل ذريعة وتشجيعا للجماعات والتيارات التي تتربص بالمساجد بعد أن حولت بعضها إلى (مجال حيوي) لأنشطتها ومشاريعها السياسية الداعية إلى الدولة الإيديولوجية المنغلقة. وحتى خارج المساجد فمن هذه التيارات من يحارب الديمقراطية باسم الديمقراطية، وهناك من يعمد إلى الظهور بمظهر المدافع الوحيد والأوحد عن (الإسلام)، ومن تفتقت عبقريته عن (الديمقراطية المستندة على الشريعة الاسلامية)، ومن حارب وتحالف موضوعيا للتصدي لمقومات الدولة المدنية في الوثيقة الدستورية. وان كانت أجزاء من صورة الصراع الخفي، في مجال التقاطع بين السياسي والديني، تنسب لتراكمات أخطاء الماضي، فان واقع اليوم ومعطياته تنبئ بأن تلتجئ جماعات الاستغلال السياسي للدين إلى أشكال وأساليب جديدة في سلوكها وتوجهها المعروف والى استغلال كل خلط أو (غموض) في هذا التقاطع. وفي كل الحالات فان الدولة مطالبة بان تعطي المثل وان تحرص على جعل منابر المساجد في منأى عن إشكالات القضايا السياسية. وفي هذا أيضا ما يذكر أو يحيل على موضوع استكمال إصلاح الشأن الديني بما يصون المساجد من الاستغلال السياسي ومن جعلها فضاء لصراع المواقف والإيديولوجيات.