حين يُستبدَل العقل بالعضلة، والحوار بالبودكاست، والمعنى بقبضة، تولد البروليغارشية: لحظة تاريخية تتماهى فيها التكنولوجيا مع الرجولة الزائفة، وتصبح السلطة نسخة مُحدثة من الصالة الرياضية... ولكن بخوادم وأموال وخوذات واقع افتراضي. في زمنٍ كانت الحداثة تعدنا فيه بالتحرّر من الأوهام القديمة، يظهر من قلب وادي السيليكون طيف رجولة جديدة/قديمة، تطلّ برأسها من خلف السترات الواقية للذكاء الاصطناعي. مارك زوكربيرغ، الذي بنى إمبراطورية تواصل على وهم الشفافية والانفتاح، قرر في لحظة بودكاستية عالية التستوستيرون، أن العالم ينقصه شيء واحد: الطاقة الذكورية. في مقابلة مطوّلة مع جو روغان، أيقونة الرجولة المحافظة والوعي البديل، لم يُخف زوكربيرغ حنينه إلى العدوانية، ولا إعجابه بالجوجيتسو كأداة لبناء الذات. العضلة، لا الفكرة، هي مفتاح القيادة. والحسم، لا الشك، هو مبدأ التسيير. كلمات بسيطة، لكنها تنتمي إلى بنية ثقافية معقدة، هي ما يمكن أن نسميه: البروليغارشية. ما هي البروليغارشية؟ هي تركيب لغوي هجائي، يمزج بين "bro" نمط الذكر المتفاخر بقوته، المغلق على نفسه في دوائر من الشبه و"oligarchy" حكم القلة. لكنها ليست قلة رأسمالية أو تكنولوجية فحسب، بل قلة رجالية، تُعيد إنتاج السلطة من خلال عضلات، وصراخ، و"بودي لانغويج" مُنمّق. في البروليغارشية، لا يكفي أن تكون ناجحًا، يجب أن تكون ذكرًا ناجحًا. لا يُحتفى بالضعف، ولا بالتعدد، ولا بالعاطفة. كل ما لا يشبهك يُقصى، وكل من لا يشاركك عضلات رقبتك يُهمّش. أما المرأة، فمكانها محفوظ إن هي ارتدت قناع الذكر، أو اختفت في الظل. تحوّل زوكربيرغ من مبرمج انطوائي إلى مقاتل هاوٍ، يحمل قوسًا، ويمارس القتال، ويضع عضلاته في الواجهة كما يضع لوغو ميتا. ليست هذه رحلة تنمية شخصية، بل إعادة برمجة للرجولة، خضوع طوعي لصورة نمطية من الرجولة الصلبة، وكأن النجاح في عصرنا لم يعد يكفيه الذكاء ، بل يحتاج إلى رقبة سميكة ليُؤخذ على محمل الجد. في المقابلة، بدا زوكربيرغ كمن يجتاز امتحان رجولة شفهي أمام روغان. لا يُقاطع، لا يُعارض، يُبرّر خياراته الصحية وكأنها خطايا يجب التكفير عنها. وهذا بذاته مشهد رمزي: حتى أحد أقوى رجال العالم، يُجبر على إثبات ذكورته كي يُصدّق. البروليغارشية لا ترحم، حتى أبناءها. ما يحدث داخل ميتا ليس حدثًا معزولًا، بل موجة ثقافية أوسع. في هذا النموذج، تُصبح العدوانية سلوكًا تنظيميًا، وتُمارَس القيادة بوصفها تمرينًا على السيطرة لا على الإقناع. الصراعات داخل بيئة العمل لا تُحل بالنقاش، بل بمنطق من يصمد أطول في المعركة. أما اللغة، فتحوّلت إلى قاموس عسكري: خطط، هجمات، تكتيك، ساحة، اقتحام... لا حديث عن الإصغاء، أو الرعاية، أو الضعف، تلك المفردات المخجلة. إنها فلسفة ما بعد إنسانية، ولكن على الطريقة الخطأ: ليست ثورة على الجسد لصالح العقل، بل تضخيم للجسد على حساب الكينونة. وهكذا، تمضي البروليغارشية في طريقها، مزهوة بعضلاتها، واثقة بخطواتها فوق جثث الأفكار البطيئة. تنفخ صدرها في وجه التعقيد، وتلكم الأسئلة حتى تصمت، وتُعلّق مفاتيح المكاتب في رقابٍ مفتولة، كأن السلطة لا تُمنح إلا لمن يستطيع كسر بابها. لكن كل هذه الهيمنة المتعرّقة لا تُخيفنا. لأننا نعرف، بالفطرة أو بالفكر، أن من يحتاج إلى استعراض قوّته يوميًا، هو في عمقه أضعف من أن يصمت. نعرف أن الحضارة لا تُبنى بالأوزان الحديدية، بل بالأفكار الثقيلة. وأن المعنى، حين يُقصى، لا يموت، بل يختبئ، يراقب، ويضحك بصوت خافت من خلف الستار... في انتظار سقوط الستيرويد.