منذ أن بلور حكماءُ الإغريق قديما فكرةَ الديمقراطية قبل ستّة وعشرين قرنا وعزّزها فلاسفةُ التنوير بضوابط الحداثة السياسية في القرن الثامن عشر، ظلّت الحِكامة السياسية تتحرّك داخل مثلّثٍ محتدمٍ يجمع بين الفضيلة السياسية وبقية أخواتها من الأخلاقيات والأهلية المعرفية من ناحية، ونفوذ المال والاقتصاد والمصلحة وبقية الأنساق الميكيافيلية من ناحية أخرى، بموازاة جدلية مفتوحة كرّست من نصطلح عليها حاليا "زواج المال والسلطة". وتمسّك أفلاطون مثلا بأن هدف الحكومة هو تعزيز التميز الإنساني وتكريس الفضيلة الإنسانية، ودعا لأن يتلقى الأمير تكوينَه الإدراكي على يد الفيلسوف. على هدي هذا الجدل اللامتناهي بين الفضيلة والمال في توجيه السياسات العامة، لا تزال الحداثةُ السياسية المعاصرة، أو ما نعتبره أنظمة ديمقراطية في دول الغرب، تجاري التنافس ذاته بين الديمقراطية (كنايةً عن حكم الشعب) والتيمقراطية (في إشارة إلى نفوذ أصحاب المال). ولا يدعنا أفلاطون ننسى أبدًا أن تصويتًا ديمقراطيًا كان هو الذي حَكَم على سقراط بشرب السّم لارتكابه "جريمة ممارسة الفلسفة". يعرّف أرسطو في كتابه "السياسة" التيموقراطية timocracy بأنها دولة لا يجوز فيها إلّا لأصحاب الأملاك المشاركة في الحكومة. وتقضي الأشكال الأكثر تقدمًا من التيموقراطية بأن تُستمَدَّ السلطة بالكامل من الثروة دون أي اعتبار للمسؤولية الاجتماعية أو المدنية، وتتحوّل في شكلها وتصبح حكم الأثرياء plutocracy عندما يهمين أصحاب المال على شؤون الدولة. وكان المشرّع والفيلسوف سولون Solon (630-560 قبل الميلاد) أوّل من بلور أفكار التيموقراطية باعتبارها أقلية متدرجة في دستوره السولوني لأثينا أوائل القرن السادس قبل الميلاد. فكان أول من هندس نسقًا عمليًا للتيموقراطية التي تم تنفيذها عمدًا بأن خصص الحقوق السياسية والمسؤولية الاقتصادية تبعًا لعضوية واحدة من أربع طبقات من السكان. فاقتربت التيموقراطية الأرسطية من دستور أثينا، على الرغم من أن أثينا جسدت النسخة الفاسدة من هذا الشكل، والتي توصف بالديمقراطية. في المجلد الثامن من كتاب "الجمهورية"، يصف أفلاطون خمسة من أنظمة الحكم، ويعتبر أربعة منها غير عادلة، بل وصنف النظام التيموقراطي بأنه نظام "ظالم" نظرا لأنّ الطبقة الأرستقراطية "تنحط إلى التيموقراطية عندما يتضمن الجيل القادم من الأوصياء والمساعدين، بسبب سوء التقدير من جانب الطبقة المحكوم عليها، أشخاصًا ذوي طبيعة أدنى، هم من ذوي النفوس المصنوعة من الحديد أو البرونز، على عكس الأوصياء والمساعدين المثاليين الذين تكون أرواحهم من ذهب وفضة." وتنطوي الأنظمة الظالمة في أعمال أفلاطون على أنساق الحكم التي تؤدّي إلى الفوضى، وفي النهاية، إلى الفساد. تكمن السياسة في جوهرها عبر العصور عن تعبير عن الاختيارات، والاختيارات تعبير عن القيم. لذا، فإن الأنواع الخمسة تتوافق مع الأنواع الخمسة المحتملة للقيمة. يمكن أن تكون القيم إما روحية أو جسدية، وإذا كانت جسدية، فقد تكون خارجية أو داخلية، أي جسدية. والفيلسوف يحب الخير الروحي. أم التيموقراطي فيحب الخير الخارجي والسمعة. علاوة على ذلك، يمكن أن تكون الخيرات الجسدية طبيعية أو غير طبيعية، ويمكن أن تكون الخيرات الطبيعية معتدلة أو مفرطة. ويحب الديمقراطي الخير الجسدي دون اعتدال. وأخيرًا، يحب الطاغية شيئًا لا يتجاوز حدود الطبيعة فحسب، بل يكرهها. في مقالة بعنوان No, Trump Is Not the End of US Democracy. It Never Existed "كلا، ترامب ليس نهاية الديمقراطية الأمريكية. هي لم تكن موجودة أبدا"، يقول أنطون شوبل Anton Schauble إن "النقاد أساءوا استخدام شخصية "الطاغية" كما وصفه كتاب "الجمهورية" لأفلاطون من خلال تحويلها إلى نبوءة بدونالد ترامب. ترامب ليس طاغية، بل هو مثال مؤسف آخر للمجموعة الكبيرة من الأثرياء في أمريكا. ومع ذلك، فإن تحفة أفلاطون الخالدة تعطينا تحذيرًا شديد اللهجة بشأن مستقبل الولاياتالمتحدة." يشير كتّاب غربيون آخرون ومنهم شون إلينج وأندرو سوليفان وديفيد لاي ويليامز إلى أنّ "شخصية ترامب وأسباب صعوده تم شرحها بعبارات واضحة المعالم من قبل أفلاطون منذ أكثر من ألفي عام"، و"أننا قادرون على فهم شخصية ترامب ودوافعه من خلال وضعه "في قالب من الطغيان" المشتق من كتاب "الجمهورية"." وخلص شوبل إلى أن "الأزمة المدنية الحالية في أميركا، على الرغم من كونها حقيقية إلى حدّ رهيب، ليست أزمة الديمقراطية كما فهمها أفلاطون، وأن ترامب ليس الطاغية في حوار أفلاطون، بل السبب في ذلك هو أن أمريكا ليست في الحقيقة ديمقراطية على الإطلاق." كتبت في مقالة سابقة قائلا إن مسعى دونالد ترمب في السياسة يهدف إلى "أمْوَلَة نظام الحكم من خلال تطويع السياسة لقوة المال وإقحام منطق الصفقة في كل أزمة أو بقية أوجه التعامل بين الدول." وهو اليوم لم يفز بالبيت الأبيض فحسب، بل يضيف مليار دولار إلى ثروته الشخصية في أول يوم بعد إعلانه "رئيسا منتخبا" President-Elect. وقد شهدت ثروته البالغة 6.49 مليار دولار انخفاضًا مؤخرًا قدره 45.9 مليون دولار، أو بناقص 1.5 في المئة. ومع ذلك، فإن التغيير الذي حققه منذ بداية العام حتى الآن لا يزال مثيرًا، مع زيادة قدرها 3.4 مليار دولار، وهو ما يمثل نموًا بنسبة 110 بالمئة، وفقًا لبلومبرج. في الوقت ذاته، تعهّد المياردير إيلون ماسك أحد مؤيدي ترامب، بأنه إذا انضم إلى حكومته المقبلة كجزء من وزارة جديدة للكفاءات الإدارية، فإنه سيحدد تخفيضات في الميزانية الفيدرالية بقيمة 2 تريليون دولار. وهذا يعني فرض سياسة تقشفية على الإنفاق العام وإلغاء عدد من البرامج الاجتماعية. وتبرع ماسك بما يقرب من 119 مليون دولار للجنة العمل السياسي PAC التي أنشأها لدعم ترامب، وفقًا للجنة الانتخابات الفيدرالية. وازدادت ثروة ماسك بمبلغ 12 مليار دولار في يوم واحد بعد إعلان نتائج الانتخابات! في مشهد معبر عن زواج المال والسياسة، جلس ماسك على بعد مقعدين من ترامب، وهو على استعداد لانتزاع الفضل على نطاق واسع في فوزه الرئاسي الحاسم. قال ماسك في مقابلة أجريت معه في مارالاغو مقر إقامة السيد ترامب في فلوريدا: "لقد حسّنتُ لجنةَ العمل السياسي الخاصة بأمريكا بشكل كبير من العمل الميداني للحزب الجمهوري في الولايات المتأرجحة". ونشر صورة شخصية لنفسه في المكتب البيضاوي لمتابعيه البالغ عددهم 203 ملايين على منصة X. كانت فترة انتصار ترمب تتويجًا لجهود بدأت قبل ستة أشهر فقط واعتمدت على مقامرة محفوفة بالمخاطر: لقد قادت لجنة العمل السياسي الجديدة التي شكّلها ماسك بشكل فعال عملية ترامب للحصول على الأصوات في الولايات التي تمثل ساحة المعركة بعد أن عهد السيد ترامب بوظيفة حملة حاسمة لمبتدئ سياسي. يقول جيسي أونروه Jesse Unruh، وهو سياسي أمريكي وأمين صندوق ولاية كاليفورنيا، إنّ "المال هو حليب الأم بالنسبة السياسة." توضح صحيفة نيويورك تايمز كيف أن ماسك "قام بمفرده تقريبًا بتمويل جهد كلّف أكثر من 175 مليون دولار. فطرق المتطوّعون في لجنته الميدانية ما يقرب من 11 مليون باب في الولايات التي تشهد منافسة رئاسية منذ شهر أغسطس، بما فيها حوالي 1.8 مليون منزل في ميشيغان و2.3 مليون في بنسلفانيا. وتم إنفاق 30 مليون دولار أخرى على برنامج ضخم للبريد المباشر، ونحو 22 مليون دولار على الإعلانات الرقمية، بما فيها الوسائط الصديقة لترامب مثل بارستول سبورتس. وعندما التقى ماسك للمرّة الأول مع المستشارين السياسيين في الربيع، ركز على جمع ما بين 800 ألف إلى مليون ناخب من البسطاء خاصة في المناطق الريفية، الذين قد يميلون إلى التصويت لصالح ترامب. ولكن الذين لديهم سجلات تصويت متقطعة." اقترح ترامب تعريفة عالمية بنسبة 10 أو 20 في المئة على جميع الواردات بمعدلات أعلى قد تصل إلى 60 بالمئة أو 100 بالمئة على البضائع القادمة من الصين والمكسيك. ووصف هذه الخطة بأنها وسيلة لانتزاع الأموال من الدول المنافسة. وقال في المناظرة الرئاسية التي جرت في سبتمبر/أيلول الماضي: "ستقوم الدول الأخرى، أخيراً، بعد 75 عاماً، بسداد ثمن كل ما فعلناه من أجل العالم". يتوقع المتنبئون في مؤسسة بانثيون للاقتصاد الكلي Pantheon Macroeconomics أن التعريفة الجمركية بنسبة 10٪ ستؤدي إلى زيادة التضخم بنحو 0.8 نقطة مئوية في العام المقبل وتفرض عبئًا إضافيًا على الشركات المصنعة الأمريكية. وبينما يقول ترامب إن التعريفات الجمركية ستشجع الشركات على إنشاء متاجر في الولاياتالمتحدة، فإن خبراء الاقتصاد متشككون. وقال صامويل تومبس، الخبير الاقتصادي في المؤسسة: "سيظل الحصول على السلع من الخارج أرخص بكثير، نظرا لارتفاع تكاليف العمالة الأمريكية نسبيا، مما يحد من تعزيز إعادة التوطين". وتقدر اللجنة من أجل ميزانية فيدرالية مسؤولة The Committee for a Responsible Federal Budget أن سياسات ترامب المالية ستضيف 7.75 تريليون دولار إضافية إلى الديون الحكومية على مدى الأعوام العشرة المقبلة. قبل أكثر من عشرين قرنا، قال المؤرخ الروماني بابليوس طاسيتوس إنه "في الدولة التي يكثر فيها الفساد، يجب أن تكون القوانين كثيرة جداً." واليوم، يعبّر مايك دوهايم، المسؤول السابق في اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، عن قلقه بشأن الدروس التي يمكن أن تستخلصها الحملات من فوز ترامب بمساعدة الملياردير ماسك. ويقول: "لقد مكّن هذا النوع من المانحين من أصحاب الأموال الكبيرة من أن يكون لهم تأثير هائل على السياسة… كلما زاد الإنفاق الذي يتم التحكّم فيه من خلال الحملات والأحزاب، كان ذلك أفضل، لأنهم هم الذين يتحملون المسؤولية في نهاية المطاف أمام الناخبين."