تابعت تعليقات القراء و الزملاء الأفاضل على مقال " لماذا أرى أن التطبيع مع الكيان الصهيوني يقود بالتبعية إلى كل أشكال التطبيع مع الظواهر و الممارسات الشاذة و المنحرفة؟" ولا يسعني إلا أن أوجه لكم جميعا تحية مودة و تقدير ، ، و بدوري أرى أن غياب الدكتور عميمور على أعمدة الصحف العربية خسارة للقارئ العربي..و كم أود أن نستكمل حوارنا الهادف إلى ضخ دماء جديدة في الاتحاد المغاربي..وحمدا لله على عودته من خلال مقال رسالة مفتوحة للمؤتمر القومي العربي"، و نتمنى ان نرى تطبيع للعلاقات بين البلدين الشقيقين، فلا مستقبل للمغرب بدون جزائر و لا مستقبل للجزائر بدون مغرب... وليسمح لي القارئ الكريم أن أعود لمجال تخصصي الأصلي الصين و لعبة الشطرنج الدولية الدائرة بين الكبار ، و كيف أنهم يتصارعون ويتنافسون لاقتسام مناطق النفود و يوسعون خيارات شعويهم و مصالح بلدانهم و يعظمون مكاسبهم الأنية و المستقبلية ، في حين أن بلدان "سايكس بيكو" لا تزال منذ لحظة تأسيسها ، ترفع شعارات القوة الضاربة و الدولة المحورية ، وتوهم القوة و التأثير و نحن نرى أن المؤشرات الكمية و النوعية تؤكد عكس ذلك، فأغلب البلدان العربية لا زالت تفتقر للحرية و للديموقراطية و للتنمية الفعلية و السيادة الفعلية لا الشكلية، فلا تنمية و لا سيادة و لا تقدم دون توسيع خيارات الشعوب و تحرير طاقاتها.. وسأحاول من خلال هذا المقال تناول العلاقات الصينية- الأمريكية، وخاصة بعد الزيارة التي قام بها ثعلب السياسة الخارجية الأمريكية إلى الصين و استقباله " الاستثنائي" من قبل القيادات الصينية و في مقدمة المستقبلين الرئيس الصيني " شي" ..هذا و قد أعلنت وزارة الدفاع الصينية أن وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر زار بكين يوم الثلاثاء 25-07-2023 للقاء وزير الدفاع الصيني لي شانغفو. وتمثل الزيارة المفاجئة أول زيارة للدبلوماسي المخضرم إلى بكين منذ ما قبل جائحة COVID-19 حيث جاءت مع تصاعد التوترات بين الولاياتالمتحدةوالصين وسط مناقشات بشأن العقوبات بين البلدين…وقال لي في بيان إن العلاقات بين الولاياتالمتحدةوالصين هي في أدنى نقطة منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية "لأن بعض الناس في الولاياتالمتحدة لم يلتقوا بالصين في منتصف الطريق". و قد سبق و أشرت في أكثر من مقال و محاضرة و مداخلة تلفزيونية إلى أن الحرب الباردة بين البلدين و قصف البيانات و البيانات المضادة لا يخفي أن هناك مصالح مشتركة و تحالف إستراتيجي بين البلدين، فأمريكا تحاول من خلال هذا التوجه فرملة الإندفاع الصيني و تأجيل السقوط العظيم من عرش الهيمنة على النظام الاقتصادي و المالي الدولي، ومؤشرات التراجع الأمريكي واضحة و غير خافية على أحد، و لعل أبرزها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بذلك الشكل المدل، و بنفس المنحى فإن صعود الصين أمر واضح و اندفاعها باتجاه لعب دور إقليمي و دولي لا ينكره عاقل…لكن مع ذلك هناك تحالف استراتيجي بينهما.. وتعد العلاقات الصينيةالأمريكية هي الأهم في القرن 21 سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي فهناك تحالف استراتيجي بين البلدين، فبالرغم من تضارب المصالح إلا أن كلا الطرفين يحتاج إلى الأخر و يتمسك به، وإن لم يكن على المدى الطويل فعلى الأقل في المدى المنظور.. وبشكل عام ، ففي العلاقات الصينيةالأمريكية لابد من التمييز بين مرحلتين قبل نجاح الثورة الماوية و بعدها ، فقبل قيام الجمهورية الصينية الشعبية بزعامة "ماوتسي تونغ" كانت العلاقات بين البلدين علاقات تعاون و تحالف عسكري و استراتيجي لا سيما في مرحلة الحرب العالمية الثانية، و شكل الاحتلال اليابانيلتايوان و البر الصيني نقطة الارتكاز لهذه العلاقات الصينيةالأمريكية فالعدو مشترك، لا سيما بعد دخول الولاياتالمتحدة الحرب إلى جانب الحلفاء… لكن بعد انتصار الثورة الماوية و قيام جمهورية الصين الشعبية سنة 1949 ، و اختيارها الإيديولوجية الشيوعية و اصطفافها إلى جانب الاتحاد السوفيتي، و تراجع سلطات "الكومنتانغ" من بر الصين إلى "تايوان"، بدأت الصين تمثل عدوا للولايات المتحدة و أخدت ، الخصومة تتصاعد ، و توج هذا الخصام بنزاع مسلح مباشر في الحرب الكورية عام 1950 فقد حاربت الصينالولاياتالمتحدة على أراضي شبه الجزيرة الكورية وقدمت دعما عسكريا مباشرا للشيوعيين، و قامت الولاياتالمتحدة بإرسال أسطولها السابع لغزو تايوان و مضيق تايوان، ووقعت مع سلطات تايوان معاهدة دفاع مشترك سنة 1954 مما أدى إلى انفصال تايوان عن البر الصيني، كما تدخلت الصين بشكل غير مباشر في حرب فيتنام، و من تم شكلت الصين ثاني أكبر عدو للولايات المتحدة بعد الاتحاد السوفيتي… غير أن الخلاف بين الاتحاد السوفيتي و الصين الشعبية، و هو خلاف حدودي بين بلدين جارين، تحول لصراع نفوذ بين بلدين شيوعيين، قاد إلى تقارب و انفراج في العلاقات الصينيةالأمريكية ، و شكل العامل الاقتصادي المحرك الأساس لهذا التحول الراديكالي في العلاقات الصينيةالأمريكية من جهة، والعلاقات الصينيةاليابانية من جهة أخرى، فالنتائج الاقتصادية والاجتماعية السلبية، الناجمة عن سياسة "القفزة الكبرى إلى الأمام" و "الثورة الثقافية"، أفرزت سلسلة من الانتكاسات الخطيرة من ضمنها المجاعات، و ضعف الأداء الاقتصادي و الانزلاق لحرب أهلية مما كاد ينهي سيطرة الحزب الشيوعي خاصة مع تراجع شعبية "ماوتسي تونع"، فكان لابد من بدائل و شكلت اليابان العدو التاريخي للصين البديل… فالمصالحة مع اليابان بدأت بداية بتسوية الخلاف مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقد قام وزير خارجية الولاياتالمتحدة "كسينجر" بزيارتين سريتين لبكين التقى فيهما"ماوتسي تونع" و" شو إن لاي" عام 1971، قبل الزيارة التاريخية للرئيس نيكسون للصين الشعبية عام 1972 وأعلن الجانبان الصيني و الأمريكي " بيان شانغهاي"، وفي أول 1979 أقامت الصين و الولاياتالمتحدةالأمريكية علاقات دبلوماسية، واعترفت الولاياتالمتحدة بأن حكومة الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة للصين وأن التايوان جزء من البر الصيني.. المصالحة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية فتحت الباب على مصراعيه لتحقيق تقارب بين اليابانوالصين، وتسوية الخلاقات التاريخية الناتجة عن احتلال اليابان للصين، هذه المصالحة شكلت من دون شك أحد أهم روافد الانتقال السياسي و الاقتصادي في الصين بعد 1978، ففي اليابان أعلن الرئيس "دونغ شوبينغ" عن رغبة بلاده في تبني مسار تنموي يحاكي النموذج التنموي الياباني، و أعلن عن ترحيبه برؤوس الأموال اليابانية للاستثمار في البر الصيني و في مقدمة هؤلاء المستثمرين صينيي ما وراء البحار.. فالتحول الاقتصادي في الصين بعد 1978 و الانتقال من الاقتصاد المنغلق إلى الاقتصاد المنفتح، تم عبر بوابة المصالحة مع الولاياتالمتحدة، ومنذ ذلك الحين توطدت العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين ، ولعل المؤشرات الدالة على حجم المبادلات التجارية البينية بين البلدين، و الاستثمارات الأجنبية تؤكد مدى تشابك المصالح و تعقدها، ويكفي أن نستوعب أن الصين من أكبر دائني الولاياتالمتحدة، فهي لها استثمارات جد مهولة في سندات الدين الأمريكي، ويكفي أن تتخذ الصين قرارا سياديا واحدا بدفع ثمن ما تستورده من مواد طاقية و أولية بعملتها الوطنية أو أي عملة دولية غير الدولار الأمريكي، فقرار مثل هذا كفيل بتدمير التوازنات الماكرو-اقتصادية ليس للاقتصاد الأمريكي فقط، و لكن للاقتصاد العالمي.. فالعلاقات بين البلدين بلغت درجة من التشابك يصعب فصلها، فالصين تخدم مصلحة الولاياتالمتحدة و العكس بالعكس، فالتوافق توافق مصالح و الخلافات البينية لا ترقى إلى مستوى الصدام المباشر ، وإنما الغرض منها توسيع المكاسب فكل طرف يحاول تعظيم مكاسبه من الطرف الأخر، فالصين في حاجة للاقتصاد الأمريكي، فالسوق الأمريكية أهم سوق للصادرات الصينية طيلة الثلاث العقود الماضية، كما أن الولاياتالمتحدة أهم مستثمر في الصين و أهم مصدر للتكنولوجيا المتقدمة..و بالعكس فالولاياتالمتحدة مستفيدة من الطفرة الاقتصادية الصينية فحجم الأرباح التي تحققها الشركات الأمريكية من استيراد السلع الصينية يفوق بكثير هامش الربح، الذي تحققه المؤسسات الصينية المصنعة، ويفوق هامش الربح الذي تحققه المؤسسات الصناعية الأمريكية، لو أنها اختارت تصنيع المنتج الصيني محليا، فانخفاض تكلفة وأسعار المنتجات الصينية شكل من دون شك، أحد الآليات لخفض نسب التضخم في الولاياتالمتحدة، ووسع من خيارات المستهلك الأمريكي، أما ما يتم الترويج له من أن الصادرات الصينية تؤدي إلى هجرة الصناعة و الوظائف للصين، فالغرض منه ضمان استمرار دعم الصين للدولار الأمريكي، فالصين تلعب نفس الدور الذي لعبته اليابان من قبل.. علينا كعرب أن ندرك حقيقة هذه الأمور "فليس بين القنافد أملس"، فالصين أو أمريكا الكل يبحث عن تحقيق مصالحه القومية و توسيع مكاسبه الإستراتيجية، و ما يروج له حكامنا بعبارة الاتجاه شرقا و التحالف مع الصين أو الهند هو نوع من الخرافة و التسويف وإطالة أمد التخلف، فالتوجه العملي و المنطقي يقتضي تعزيز الجبهة الداخلية و نبذ الخلافات البنية، فالتحدي هو تحقيق مصالحة بين الحكومات العربية وشعوبها من جهة، وبين البلدان العربية من جهة ثانية، و نقطة الارتكاز تحقيق التنمية الفعلية، و التعاون و التكامل الاقتصادي العربي-عربي بوابة الخروج من الحلقة المفرغة التي تعانيها المنطقة العربية، أما المراهنة على الحضن الأمريكي أو الروسي أو الصيني فلن يغير من واقعنا شيئا ، مالم نمتلك إرادة حرة و مستقلة و قيادات رشيدة و رؤية استراتيجية تحاول استغلال التناقضات الدولية لتحقيق مكاسب للشعوب و الأوطان .. و تفاديا للإطالة سأحاول في مقال موالي إن شاء الله تفصيل ذلك…و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.. أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..