(1) بعد مضي كل هذه العقود، بادرت هذه السنة كي أتذكر كتابة للمرة الأولى على طريقة الثقافة النمطية الخاملة، ذكرى انتمائي إلى هذا الوجود.اعتقدت دائما بأن تخليد الولادة أو الموت، غير مرتبط بلحظتين ذات أبعاد كلاسيكية مقيدة بسياق زماني؛ أو أن الشخص تتحدد هويته تبعا لمكان معين، بل تبقى المسألة نسبية ومحض ذاتية وخاصة للغاية، قد يحتفل بها الشخص على طريقته كل آن وكل يوم، وقد لايعبأ قط بأمر فولكلوري من هذا القبيل. أيضا، رغم الاحتفال من عدمه، وكذا الإحساس حقا بمضمون حدث قدوم الفرد إلى الحياة، فلا يمكنه التحقق سوى داخل الذات ضمن انسيابها المتعدد، وليس بتوثيق بيروقراطي أو إعلان إداريين. المسألة وجودية لحظية،عالقة بمختلف اللحظات؛ ينبغي على الشخص إدراك كيفية تحويل حياته إلى لحظة خلاَّقة، تجسد جلّ إمكانياته المنفتحة بالطبع على اللانهائي : الفرد طاقة لامتناهية. (2) جراء كل إعلان رسمي بولادتي صبيحة 20 يونيو، أستحضر حينها ربما مثل الجميع، التجاذب الجدلي الحاد لحدود الحياة والموت وما يدخل ضمن نطاقهما حسب ثنائيات لحظية : الفرح/الحزن ، السعادة /الوجع، الامتلاء/التلاشي، النسيان/الحنين، التفاؤل/التشاؤم، الارتداد/التطلع ،الانهيار/الانتشاء، القطيعة/الاكتمال... تكتنفني على الدوام، حزمة مشاعر مركَّبة ومتداخلة في ذات الوقت. أهم خلاصتها، صعوبة العثور على جواب بخصوص التساؤل التالي : أيهما أولى كذات، الوجود المنقضي أم الوجود الموصول بالممكن؟ بما أن لحظة الوعي المرتبطة بزخم يوم التخليد،تمنحكَ تماما خيال التسامي فوق حيثيات التوثيق المتعارف عليه. (3) ماهي الفترات التي بخستُ قيمة عطائها مع أنها ثرية، وكان بوسعها التحليق بي نحو وجهة أخرى غير الوجهة؟ هل أنا مسؤول تماما عن مصيري بخيره وشره، أم تكمن عوامل أخرى تتجاوز قدراتي على الصراع، ولعبت دورا كبيرا بخصوص تغيير الوجهة نحو ثانية غير الوجهة؟ ماذا لو استعاد كل هذا الماضي البدايات، وطوى بلمسة واحدة مجمل هذا التراث كأنه فقط حلم ليلة عابر مثل سحابة صيفية، فماذا أنا فاعل نحو تغيير الوجهة بكيفية مغايرة للوجهة ؟ هل أعيد تفاصيل الأرخبيلات الوعرة ذاتها، بنفس آفاق الوجهة، أم أسلك وجهة غير السابقة؟ ماهي الانعراجات السلبية، التي شكلت ضمنيا اختلاسا لممكنات بديلة عن ذات الوجهة الحالية؟ دون إدراك قط لمعاول الهدم والتقويض، الناجمة عن دوافع لاشعورية موصولة بترسبات سوداوية كآبة مبطَّنتين داخل أعماق ذاتي، المرتبطة بدورها بهزات نفسية راكمت مفعول صدمات وإخفاقات غير محسوبة، أو مزاجيتي المترنِّحة أو مبدئيتي الثابتة. معطيات، غمرت أطر بنيتي النفسية بحساسية مرهفة؛ جعلتني عاجزا عن استيعاب أسِّ طبيعتي الشخصية. مع ذلك، رغم هذا النقد المزدوج صوب تحققات ولادتي غاية الآن، فأنا مقتنع تماما الاقتناع بمبادئ حياتي الكبرى،دون احتساب الخيبات والانكسارات. بالتالي،لايثقل كاهلي ندم معين أو مأتم أو عض للأصابع ندما على سعيي طيلة هذه العقود. (4) على امتداد كل هذه الحياة،وبقدر ما كنت في أغلب محطاتها ساذج التفاؤل؛ خاضعا بدوري لتصور خطي مباشر للحياة،معتقدا بأنها تسير تصاعديا بوفاء تبعا لجدول حسابي، تحقق تراكمات كمية تغدو نوعية. سأدرك في نهاية المطاف، بأن خساراتي ولحسن الحظ لم تكن فادحة أو عكست سقطات مدوية ،بحيث أظهرتُ مع ذلك ذكاء وجوديا، واستوعبتُ إلى حد ما اللعبة مع أن الظاهر لم يكن يشي بجلاء، مدى تصلب دواخلي لخوض تجربة أنطولوجية من هذا النوع،الشبيهة بمغامرة وسط دوَّامة إعصار بلا منتهى. مامعنى التجرد من كل شيء؟مامعنى التخلص من الجاهز؟كي تخوض مجرَّدا غمار تجربة محض ذاتية، ماسكة ببدايتها ونهايتها، ثم تنطلق دائما من فهمكَ المبدئي لبداية البدايات، مراهنا فقط، أولا وأخيرا، على بوصلة صوتك الباطني. اختبار في الحقيقة، اقتضى تيقظا مستمرا وتأهُّبا بخصوص خوض المواجهة مع ذاتي واختراق دروب الطريق التي أحاطتني منذ البداية. أردت أم رفضت، اقتضى الوضع الإيمان فقط بتنضيد خطوات سيري، ملاحقا حلم أن لا أخسر ذاتي، مراعيا شفافية علاقتي بضميري وأحلامي، وأن لا أخسر معالم الإصغاء إلى هواجسي، رغم الآخر والمصير. (5) حياة سهلة أو صعبة، منسابة أو متعثرة، منقادة أو متنطعة، متصلة أو منفصلة... ليس مهما؟ المهم كيف عشتُ هذه الحياة حسب إيقاع جوهرها الأساسي، أن أكون حيا دون زيف تورية أو إرجاء مؤجل .أكشف عن حالاتي الحياتية مثلما تأتى لها الانكشاف،خلال كل آن وفق التعدد الذي يكتنف الذات. أن أتبدى باعتباري حالة إنسانية وفق شتى ممكنات بساطة عمقها. (6) حينما تتلاشى عقود من العمر، ثم يلج الفرد عتبات مرحلة متقدمة .وقد اختبر معاني مختلفة ليوميات البحث عن معنى ما يكمن في منطقة ما،طبعا داخل الذات وليس خارجها، أدركتُ في نهاية المطاف، بأن قوام الحياة متأرجح بين ثلاث متواليات،متداخلة تداخلا يستحيل الفصل بين حدوده : * الحياة حيوات لحظات؛ * الحياة جدليات لامتناهية بين القائم والممكن؛ * الحياة والعدم، تجليان للحقيقة نفسها؛ عدم الحياة، لايعني الموت، بل ضمور احتمالاتها، وتحتاج إلى ذات واعية بحدود وجودها كي تنعشها.لذلك، تشكل الموت في نهاية المطاف، حالة واحدة ضمن مشاريع الحياة.الموت تجربة أخرى للحياة. (7) رغم الهوة الزمانية، التي أضحت بعيدة قياسا للمسافة المنقضية : أذكر كما لو أني ولدت اليوم، نظرات أبي الموجعة حقا؛ ملوحا صمتا برغبته في الرحيل نحو عالم ثان؛ غير عالمنا هذا. أذكر كما لو أني ولدت اليوم، أصدقاء الطفولة وأنتروبولوجية مدينتي القديمة بكل تفاصيلها الرحيمة. أذكر كما لو أني ولدت اليوم، أشخاصا ألهموني دون قصد عشق القراءة :أختي، كمال، عبد الفتاح... أذكر كما لو أني ولدت اليوم، أصدقاء أعزاء على قلبي غادروا هذا العالم دون رجعة، وآخرين تواروا قصدا عن جديد مايقع تحت الشمس. أذكر كما لو أني ولدت اللحظة، أحداثا جسيمة غيرتني تغييرا،مثلما أجهز كوبرنيكوس على رتابة العالم القديم. أذكر كما لو أني ولدت اللحظة، سياقات أسماء عرفتها، استوطنت عقلي ومخيلتي. أذكر كما لو أني ولدت اللحظة، أوراش العصامية الطويلة، التي ترتقي بصاحبها لامحالة غاية حالة إنسانية غير آبهة بأيِّ شيء في الحياة، سوى أن تكون ذاتكَ.