المنتظم الدولي عالجت في الجزأين الأول والثاني للمقال، الوضعية التي عليها الأطراف الرئيسية من نزاع الصحراء المغربية، وكيف تحكمت صيرورة الصراع في دفع كل من الجزائر وجبهة البوليساريو إلى حتمية البحث عن التخلص من الآخر، والدور الذي لعبه المغرب للتمكن من خصومه. ويتناول الجزء الثالث من هذا المقال مجريات قضيتنا الوطنية على الساحة الدولية. طافت قضية الصحراء المغربية مختلف المنتديات الدولية والقارية، وسط صراع محموم بين المغرب والجزائر، نزاع بين مبدأين الوحدة أو الانفصال، توزعت الأدوار والمواقف الدولية بين المصالح والايدولوجيا والتحالفات. من الأمس إلى اليوم تغير كل شيء في هذا الصراع وتبدلت موازين القوة بين أطرافه، فكيف ذلك…؟ يعود السبب الرئيسي في تدويل نزاع الصحراء إلى الجزائر، التي تمكنت بفضل المناخ الدولي السائد حقبة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، من الدفع بقضية الصحراء المغربية إلى الواجهة كبؤرة صراع تستوجب تدخل المنتظم الدولي، لتطبيق مبدأ تقرير المصير وإجراء الاستفتاء بغاية تجريد المغرب من صحرائه. وقد ساعدها كثيرا فيذلك المعسكر الثوري التابع للاتحاد السوفياتي، الذي كانت لديه خبرة كبيرة في استغلال الرأي العالمي، لاسيما في محيط دول العالم الثالث، والذي كان حينها معبأ بشكل أعمى ضد المغرب، بداعي مواجهة نظام ملكي تقليدي رجعي محافظ موالي للإمبريالية، مناهض للأفكار الثورية والتحررية السائدة في دول العالم الثالث. على الطرف المقابل وقفت الولاياتالمتحدةالأمريكية ومن يدور في فلكها من دول أوروبية وعربية وإفريقية إلى جانب المغرب، وعملت على كبح جماح التوجه العالم ثالثي المناوئ. تحصنت الجزائر بمنظمة الوحدة الإفريقية وحركة عدم الانحياز وتغلغلت داخل اللجنة الرابعة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، فصدرت العديد من القرارات المؤذية للمغرب. في هذا السياق، انتقدت حركة عدم الانحياز في مؤتمرها بهافانا كوبا / فبراير 1979، المغرب وطالبته ب " الانسحاب من الصحراء الغربية لتمكين الشعب الصحراوي من تقرير مصيره على أرضه"، وسارت على هذا النهج لعدة سنوات. أما منظمة الوحدة الإفريقية، فقد اختلط عليها الأمر منذ البداية، بين مبدأ تصفية الاستعمار من القارة الإفريقية وبين مبدأ استعادة دولة قائمة بذاتها لوحدتها الترابية. غير أن هذه المنظمة مضت في الاتجاه المعاكس للمغرب، فتمكنت في البداية من انتزاع ملف الصحراء من الأممالمتحدة لتختص بمعالجته، وقد ساعدتها، أطراف أوروبية بمجلس الأمن، على نقل المشكل إلى النطاق الإفريقي خوفا من تحول المشكل إلى نزاع بين الشرق والغرب. أمام تراكم القرارات الإفريقية المناوئة للمغرب، اضطر المغفور له الملك الحسن الثاني إلى قبول إجراء الاستفتاء في الصحراء. ورغم ذلك ظلت معظم القرارات تطالبه ب: "ضرورة تمكين الشعب الصحراوي من ممارسة حقوقه المشروعة في الحرية والاستقلال انطلاقا من مبدأ تقرير المصير". ومما سيزيد الطين بلة إعلان جبهة البوليساريو( فبراير 1976) عن قيام ما سمي " جمهورية صحراوية" بتدبير وتخطيط ودعم جزائري ليبي فاضح. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل نجحت الجزائر بمساعدة زعماء دول إفريقية في ضم هذه الجمهورية الوهمية إلى عضوية منظمة الوحدة الإفريقية في مؤتمر أديس أبابا نوفمبر 1984، جراء الموقف المغربي الذي كان وقتها محاصرا وضعيفا داخل المجموعة الإفريقية. بعدما تبين للمغرب أن الموقف الإفريقي انحاز كليا إلى الأطروحة الجزائرية، اعتبر أن منظمة الوحدة الإفريقية فقدت مصداقيتها بل ومشروعيتها في الوساطة، فأخذ بزمام المبادرة وتصرف بما تمليه عليه مصالحه الوطنية. آنذاك، قرر المغفور له الملك الحسن الثاني بحكمته ودهائه السياسي، الرد على مطالب منظمة الوحدة الإفريقية، بتقديم هدية ملغومة، تمثلت في إعطائها ظهره بدل الصحراء، فجاء قرار الانسحاب المغربي من المنظمة، ضاربا قراراتها بعرض الحائط، وصوب وجهته نحو الأممالمتحدة للاحتكام إلى الشرعية والقانون الدوليين. يمكن القول أن الجزائر وقتها، وإن كانت منتشية بانسحاب المغرب، فقد ارتكبت خطأ سياسيا قاتلا صب في صالح المملكة، بالإعلان عن قيام جمهورية على الورق بتندوف، والتسرع حد الاندفاع بضمها إلى عضوية المنظمة الإفريقية. فكان هذا التصرف الجزائري بمثابة قارب نجاة للملك الحسن الثاني، الذي اغتنم الفرصة بالتحلل من كل التزاماته تجاه القرارات الإفريقية، التي سبق وأن أظهر مرونة في التعامل معها. فتحرر بذلك المغرب من كل القيود التي كبلته بها المنظمة الإفريقية، والتي كانت تمضي في اتجاه انتزاع الصحراء من المغرب. كان الملك الحسن الثاني حينها في أمس الحاجة إلى الوقت لتثبيت دعائم الدولة بالأقاليم الجنوبية المسترجعة، تأمين الحدود، محو آثار الاستعمار الاسباني ومخلفاته، وإعادة ترتيب أوراق ملف الصحراء المغربية دوليا. لم تكسب الجزائر والبوليساريو شيئا من المنظمة الإفريقية التي ظلت قراراتها حبيسة قاعات أديس أبابا، لتتسلم الأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي بحكم دوره الرئيسي في حفظ الأمن والسلم الدوليين، قضية الصحراء وتنفرد بتدبير شأنها، بعدما فشل الأفارقة في مهمتهم. هذا التحول الاستراتيجي في قضيتنا الوطنية، ساعد على تثبيت قرار وقف إطلاق النار وإرسال بعثة "المينورسو" وتعيين مبعوثين خاصين للأمين العام للأمم المتحدة للقيام بجولات للتشاور بين عواصم أطراف النزاع، تعززت بجملة من مخططات للتسوية آخرها تقديم المغرب لمبادرة الحكم الذاتي سنة 2007. توالت القرارات الأممية السنوية التي تتابع الوضع عن كثب، كان آخرها القرار 2602 أكتوبر 2021، الداعي إلى تسوية النزاع الإقليمي حول الصحراء وفق حل سياسي واقعي عملي قائم على روح التوافق. وهو موقف صريح يعبر عن الاقتراب من تجاوز المنتظم الدولي للأطروحة الجزائرية، وتبني المبادرة المغربية. وفي إطار التوجه الدولي الداعم للمغرب، فاجأت الولاياتالمتحدةالأمريكية العالم باعترافها الصريح والواضح بمغربية الصحراء، ربطها بعض المشككين بلعبة إلكترونية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عبر تغريدته المدوية، لكنه ثبت أن الأمر يتعلق بقرار أمريكي سيادي مبني على أسس دستورية لا رجعة فيه. وقد تعزز ذلك بالتسجيل الرسمي لهذا الاعتراف لدى الأممالمتحدة، وبتزكية الإدارة الأمريكيةالجديدة تحت رئاسة جو بايدن. كان الأوروبيون أولى بالتدخل للوساطة ومساعدة أطراف النزاع على التوصل إلى حل، بحكم عدة عوامل: القرب الجغرافي، المصالح المشتركة والمعرفة الحقيقية بخلفيات الصراع إبان الحقبة الاستعمارية التي قضاها الفرنسيون والإسبان بشمال إفريقيا، والكم الهائل الذي يختزنه أرشيفهم من وثائق تاريخية وتقارير سياسية وعسكرية نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والتي تحتوي على حقائق تاريخية وجغرافية هامة كفيلة بإنصاف ذوي الحقوق، تسمح بالتعرف عن الهوية الثقافية والحضارية والسياسية لأصحاب الأرض، والتي تمثل عامل قوة للمغرب بينما تشكل قاعدة ضعف البوليساريو. وهذه حقائق مثبتة لديهم لكنهم يتجاهلونها. هذا الموقف البارد تمليه الأجندة السياسية الأوربية التي تندرج في سياق الاستفادة من انشغال المغرب والجزائر بهذا النزاع، والحرص على عدم الإخلال بالتوازن الإقليمي، هذا فضلا عن الرغبة في الإبقاء على التميز الأوروبي والحفاظ على التأثير والهيمنة السياسية على منطقة شمال إفريقيا لكن مع ذلك، يجب أن لا نغفل عن بعض الأصوات الأوربية التي ترتفع كفرنسا بريطانيا وألمانيا مؤخرا، التي تشيد بجهود المغرب ذات المصداقية الرامية إلى تسوية هذا النزاع، وتدعم مبادرة الحكم الذاتي. في انتظار أن تقدم دول أوروبية أخرى على خطوات شجاعة مماثلة في هذا الاتجاه لاسيما الإسبان. وقد سبق للسيد ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية، أن دعا الاتحاد الأوروبي إلى الخروج من المنطقة الرمادية. من جانبها ظلت الصين وفية لخطها الحيادي الذكي في التعامل مع العديد من القضايا والأزمات الدولية، فرغم كونها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، فإن بكين تركز اهتمامها على الدبلوماسية الاقتصادية والحفاظ على مصالحها التجارية في مختلف بقاع العالم، لذلك نجدها تكتفي بمسايرة المنتظم الدولي في التعاطي مع أزماته، دون أن تفرض نفسها كقوة عظمى، وقضية الصحراء المغربية تدخل في صلب هذا التوجه الصيني، وهي سياسة تركز على الأسواق المغربية والجزائرية لكي تظل فضاء مفتوحا أمام المنتوجات والاستثمارات الصينية في إطار سياستها الإستراتيجية الشاملة بالقارة الإفريقية. أما روسيا، فرغم أن جميع الآراء تصنفها كقوة عظمى مؤيدة للأطروحة الجزائرية، فإن الروس لم يذهبوا بعيدا في هذا الدعم، بل حافظوا على علاقاتهم الإستراتيجية مع المغرب ومصالحهم الاقتصادية. ومجمل القرارات التي صيغت داخل مجلس الأمن اكتفت روسيا بالاعتراض عليها دون أن تقف حائلا ضدها بواسطة سلطة "الفيتو". لذلك يظل الموقف الروسي لا يزعج المغرب، والمغرب لن يطلب من الروس أكثر من ذلك، طالما أن القرارات الأخيرة داخل مجلس الأمن تمضي دون عقبات تذكر. ولا شك في أن النظام الجزائري يشعر بالحنق من هذه الازدواجية في التعامل الروسي مع قضية الصحراء، لكنه غير قادر على الضغط على الدب الروسي. تبقى الإشارة إلى أن مسألة اعتراف عدد من الدول ب "الجمهورية الصحراوية"، خضعت لاعتبارات سياسة وإيديولوجية ومالية مكلفة للجزائر. والملاحظ أن مواقف هذه الدول تتقلب بين الاعتراف وسحبه وتجميده وأعدادها في تناقص. أما دول أوروبا وأمريكا الشمالية وأجزاء من آسيا، فلم تعترف بتاتا بهذه الجمهورية لاعتبارات قانونية صرفة تعود لافتقادها لكل مقومات الدولة وفق مقتضيات القانون الدولي. الجزائر اليوم تدحرجت إلى المربع الأخير، فباتت مطالبة من قبل الأممالمتحدة بإجراء إحصاء اللاجئين بمخيمات تندوف، وبالمشاركة كطرف رئيسي في طاولة الحوار، ولم يعد يناسبها الجو العام داخل مجلس الأمن وقراراته، وعجزت عن إرباك الموقف المغربي الصلب الذي تعزز بمبادرة الحكم الذاتي وبالاستعداد للحوار. هي مرحلة حاسمة في مجريات الصراع تخشى الجزائر من عواقبها ومما ستؤول إليه نتائج المفاوضات، لاسيما بعد أن وصل المنتظم الدولي إلى قناعة بأن هذه المنطقة غير مؤهلة لإجراء الاستفتاء حسب القوانين الدولية، وأن مفهوم تقرير المصير قد تغير بدوره، بعدما تبين أن هذا المبدأ بات يشكل خطرا على وحدة الشعوب وأصبح عامل عدم استقرار، فأخذ منحا جديدا يرمي إلى احترام الوحدة الوطنية للدول، حرصا من أن تتحول النزعات الانفصالية إلى بؤرة للحروب والصراعات. فماذا تبقى للنظام الجزائري أن يفاوض عليه؟ وكيف سيتخلص من جريرة تأسيس جمهورية وهمية على أرضه…؟. دبلوماسي سابق