صفعة جديدة للجزائر.. بنما تقرر سحب الاعتراف بالبوليساريو    تنسيق أمني مغربي إسباني يطيح بخلية إرهابية موالية ل"داعش"        لقجع يؤكد "واقعية" الفرضيات التي يرتكز عليها مشروع قانون المالية الجديد    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        كيوسك الجمعة | إيطاليا تبسط إجراءات استقدام العمالة من المغرب    السلطات الجزائرية توقف الكاتب بوعلام صنصال إثر تصريحات تمس بالوحدة الترابية لبلده    بنما تعلق الاعتراف ب "الجمهورية الوهمية"    البحرين تشيد بالدور الرئيسي للمغرب في تعزيز حقوق الإنسان    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    جنايات طنجة تدين المتهمين في ملف فتاة الكورنيش ب 12 سنة سجنا نافذا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'            المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معيرة اللغة الأمازيغية أو معركة بناء الذات المتشظية
نشر في لكم يوم 02 - 03 - 2013

انطلقت في الأيام الأخيرة بعض الأقلام تُسَوِّدُ صفحات الجرائد الورقية والإلكترونية بمقالات تعيد فيها النقاش القديم الذي خاضته الحركة الثقافية الأمازيغية في المغرب منذ السبعينيات حول إشكالية معيرة اللغة الأمازيغية. وللأسف، فإنه في الوقت الذي أكدت فيه كل الدراسات اللسانية منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم على الوحدة العميقة التي تجمع بين مختلف متغيرات لسان الأمازيغ، بل وفي الوقت الذي كانت فيه الحركة الثقافية الأمازيغية قد انتهت من هذا الموضوع، واقتنعت بهذه الوحدة وخرجت بالعشرات من البيانات والبلاغات والتوصيات التي تؤكد فيها على ضرورة تدريس اللغة الأمازيغية بوصفها لغة ممعيرة وإلزامية وبحرفها تيفيناغ؛ في هذا الوقت بالذات بدأت هذه الأقلام تظهر لكي تعيدنا إلى النقاش الصفر الذي انتهينا منه، محاولة تارة بث التفرقة بين أمازيغ الجهات؛ وهي لعبة أقل ما يمكن أن نقول عنها أنها حقيرة؛ ومحاولة، من جهة ثانية، تحميل الأمازيغية وحرفها تيفيناغ كل الفشل الذي تعرفه المنظومة التربوية المغربية؛ وهي لعبة ثانية أحقر من الأولى.
والأدهى من كل هذا، هو أن هذه الأقلام لم تتحرك هذا التحرك العنيف إلا لما تأكدت أن وزارة التربية الوطنية قد تبنّت المبادئ الأربعة التي ناضلت الحركة الثقافية الأمازيغية من أجلها، وقدمت الغالي والنفيس لتحقيقها؛ تحركت، في هذا الظرف الدقيق، عندما تيقنت أن اللغة الأمازيغية، على مستوى المرجعيات والمبادئ الكبرى، قد أصبحت تُدرَّس بوصفها لغة ممعيرة، وبحرفها تيفيناغ، وباعتبارها لغة إلزامية؛ بل وأصدرت الوزارة المعنية العديد من المذكرات التنظيمية من أجل تعميمها الأفقي والعمودي. والطامة الكبرى في كل هذا هي أن هذه الأقلام التي لم يكن يظهر لها أي أثر أيام الرصاص حينما كانت الحركة الثقافية الأمازيغية تواجه عناد الدولة اليعقوبية، انطلقت اليوم من عقالها تخبط خبط عشواء، فتارة تشكك في الوحدة العميقة للغة الأمازيغية، وتارة تشكك في كل المكتسبات المرجعية التي تحققت لحد الآن، وتارة ثالثة تقف ضد الدستور نفسه الذي رسَّم اللغة الأمازيغية بالمفرد وليس بالجمع.
وكم كنا سنكون سُعداء لو أن مدبجي هذه المقالات قدموا لنا نموذجاً واحداً من النماذج التي يستندون عليها لتبرير مواقفهم الأيديولوجية. إذ كل أدلتهم التي يُتْقنونها هي تلك التي يسْتَعْدون بها المكونات الأمازيغية بعضها ضد بعض؛ أو التي يسْتَعْدون بها الحركة الأمازيغية ضد باحثي المعهد الملكي؛ أو تلك التي يعلنون فيها رفضهم لكل ما يأتي من "المخزن" وفي بعض الحالات أيضاً تلك التي تتهم الأمازيغ بأنهم يعيدون إنتاج نفس الذهنية القومية التي أنتجها القوميون العرب. وهكذا، فالمعيرة مرفوضة لديهم لأنها لغة مختبرية مفصولة عن الواقع؛ وتعليم لغة موحدة جريمة لأنها تقتل اللهجات (كذا!) وتؤسس لقومية على غرار القومية العربية؛ وتيفيناغ غير مرغوب فيها لأن الشعب لم يُستفت لأجل إقرارها؛ أو لأن فرضها يعرقل اكتساب التعلمات إلخ.
ونحن عندما نسأل هؤلاء: وهل اطلعتم على كتاب مدرسي واحد لكي تعلنوا عن مواقفكم هذه؟ وهل قمتم بدراسة ميدانية واحدة تقيمون فيها مستوى التلاميذ في اللغة وتيفيناغ كي تحكموا بهذه الأحكام؟ وهل استفدتم من تكوين واحد في اللغة الأمازيغية وديداكتيكها لكي تقارنوا بين ما يقع في أقسام الأمازيغية وما يقع في أقسام العربية، مثلاً؟ بل وهل تعرفون أصلاً القراءة والكتابة بحرف تيفيناغ حتى تحكموا عليه؟ ثم هل درستم نموذجاً عالمياً واحداً في المعيرة كي تحكموا على معيرة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ؟ وقبل كل هذا وذاك ما هي تخصصاتكم؟ هاتوا، إذن، ببرهانكم العلمي والعملي إن كنتم صادقين؛ هاتوا بشواهدكم الأكاديمية التي تجعل منكم مراجع علمية في المعيرة والتنميط والتهيئة اللسانية. إنكم، إذن، لو فعلتم أطعنا لكم واستغفرنا من خطايانا "التوحيدية" وطلبنا منكم أن تواصلوا المسيرة والمسار.
اسمحوا لي ياسادتي أن أجزم بأن أكثر من 99.99 في المائة منكم لم يساهم يوماً في تقديم أي دراسة ميدانية حول التهيئة اللغوية، ولا قدّم معجماً أمازيغياً واحداً أو مؤلفاً في النحو الأمازيغي؛ واسمحوا لي إن بالغت في الجزم وأكدت أن أكثركم إن لم يكن كلكم لم يسبق له أن اطلع على كتاب مدرسي أمازيغي واحد فأحرى أن يؤلفه، وأن جميعكم لم يطلع من قريب أو بعيد على أي نموذج من النماذج العالمية في مجال المعيرة اللسانية وفي مجال التهيئة أو السياسة اللسانية؛ بل وإن أكثركم ليخلط بين التهيئة اللسانية والدعوات القومية والعرقية والإتنية؛ والأفدح من كل هذا هو أن الكثير منكم لم يجرب ولو لمرة واحدة أن يكتب نصاً واحداً بالأمازيغية، مقالاً أو دراسة، لكي يتعرف قليلاً على بعض ميكانيزمات الكتابة الأمازيغية إلخ. ومع ذلك نراكم تدّعون أن أمازيغيتكم –إن كنتم تتحدثون بها فعلاً- هي المعيار الذي يجب أن تُقاس به أمازيغية المدرسة؛ ولكأن فرنسية الشارع وعربية الشارع وإنجليزية الشارع وصينية الشارع هي المعيار الوحيد الذي يجب أن تُقاس به فرنسية وعربية وإنجليزية وصينية المدرسة؟ إن معرفتكم ياساداتي بهذه اللغة الأمازيغية ضعيفة جداً- ونعترف لكم بذلك- لأنكم لم تدرسوها، ولأنكم لم تتعلموها إلا في القبيلة الضيقة أو في سياق مدرسة تعريبية ومفرنسة أثرت سلباً على كفاياتكم فيها. ومع ذلك فإنكم تعتبرون أنفسكم "مرجعيات" في الأمازيغية وتدّعون التنظير لكل شيء عندما يتعلق الأمر بالأمازيغية. لماذا لا تفعلون نفس الشيء عندما يتعلق الأمر بالعربية أو بالفرنسية أو بالإنجليزية، وذلك بالرغم من أن الكثير منكم يتحدث بهذه اللغات ويستعملها؟. لماذا تقولون لنا هذا ليس تخصصنا؛ في حين تتجرأون على الأمازيغية. هل تفعلون ذلك خوفاً على الأمازيغية أم أنكم تخافون على شيء آخر؟ تخافون أن تُصبح اللغة الأمازيغية لغة مبثوثة في كل المؤسسات الوطنية وفي كل الإدارات والمرافق التعليمية والإعلامية إلخ بكل ربوع الوطن. تخافون أن تحمل هذه اللغة صفة "الوطنية"؛ الخوفُ الذي جعلكم تُصارعون، باستماتة، عن سوء نية أو عن حُسنها، كي تظل أمازيغيتُكم "لهجة" محلية محتقرة ورديفاً للتشتت واللاوطنية تماماً كما كان يدعو إلى ذلك سدنة العروبة القومية؟
على رسلكم سادتي؛ فأنا لم أرَ لدعواتكم مرجعاً علمياً أو مرتكزاً تجريبياً واحداً للاستناد عليه؛ وهذا بالرغم من كل "المشروعيات الحقوقية" التي تحاولون بثها فينا هنا أو هناك؛ فكل الدول المتقدمة والسائرة في طريق النمو، منذ القرن التاسع عشر، قد معيرت لغاتها، ايها السادة، لما قررت أن تُمأسسها وتجعل منها لغات رسمية. هذا ما قام به الكطلانيون عندما تخلصوا من ديكتاتورية فرانكو؛ فهم لم يرسموا لهجات الشمال والجنوب والشرق والغرب وجزر البليار؛ لم يرسموا كطلانية roussillonnais و capsirois، ولا كطلانيات المركز (كطلانية خيرونة وبرشلونة وشمال طراكونا (Tarragona) وكطلانية سلات (Salat) ومختلف التنويعات الأخرى)؛ كما أنهم لم يرسموا الكطلانيات الغربية الشمالية التي تضم تنويعة ليريدان(léridan) وتنويعة بالاريس (Pallarais) وتنويعة ريباكورساين (ribagorçain)؛ ولا هُم رسموا الكطلانيات الجنوبية التي تضم أيضاً منطقة طورطيسين (طورطوسا، كانديسا، أمبوستا، جنوب منطقة طاراكونا).
إنهم رسموا فقط اللغة الكطلانية بالمفرد (وليس بالجمع)، ومعيروا اللغة الكطلانية التي هي اللغة الرسمية للإقليم؛ ثم إنهم لتحيين هذا الترسيم وهذه المعيرة انفتحوا على كل الكطلانيات خارج حدودهم، فاستعاروا من كطلانيات فرنسا وكطلانيات جزر البليار وكطلانية مدينة ألخيرو (Alghero) بسردينيا؛ بل ووقفوا في وجه كل الدعوات التي أطلقها خصومهم الذين كانوا يريدون تشتيت لغتهم ليسهل استيعابها من طرف الكستلانية؛ ولم يلتفتوا أبداً إلى التحرشات ولا إلى التهديدات ولا إلى العراقيل الموروثة عن حكم فرانكو؛ لقد واصلوا العمل الذي كان قد قطع فيه أجدادهم بعض الأشواط منذ بدايات القرن التاسع عشر؛ ولذلك استعادوا كل أبحاث معهد الدراسات الكطلاني (1907)، وكل المعاجم الشاملة والقواعد الإملائية الموحدة والأنحاء الكطلانية التي نُشرت سنوات 1917 و 1918 و1931 و 1932 وسنوات الستينات. لقد كان عملهم هذا استمراراً للأعمال التأسيسية التي نظّر لها الفيلسوف الكطلاني الكبير رامون لول (Llull) منذ القرن الثالث عشر؛ ولما جاءت مرحلة الانفتاح والديموقراطية باشروا أعمال المعيرة المنظمة مستندين إلى كل هذا التراث العلمي وإلى كل الإنتاجات الأكاديمية المهمة التي تركتها "الإدارة العامة للسياسة اللسانية" والتي كانت مرتبطة ب "شعبة الثقافة" التابعة للمؤسسة الأكاديمية "خينيراليتات" (Generalitat)؛ هاته التي ستلعب دور المرجع العلمي اللساني الأساسي لكل الكطالانيين في مجالات المعيرة وضبط اللغة وقواعدها الإملائية. وبطبيعة الحال، فإن التعليم هنا سيلعب دوراً مركزياً في تحيين هذه المعيرة وفي منحها عمقها الرسمي؛ إذ أن الحكومات الكطلانية ستمأسس لتعليم مؤسس على هذه اللغة، ينطلق من استعمال اللغة الأم الأقرب إلى لغة الأسرة والجهة والمحيط المباشر في سن الثالثة لينتهي بسرعة في المراحل الدراسية الموالية إلى التعلم في لغة كطلانية ممعيرة.
ولم تكن التجربة الباسكية، يا ساداتي، لتختلف كثيراً عن التجربة الكطلانية. فقد جاءت هذه التجربة بدورها لتؤكد على ضرورة بناء نموذج لساني ممعير موجه إلى كل الباسكيين الأسبان، بل ويشرئب لكي يكون نموذجاً لسانياً لكل باسكيي العالم الغربي. إنهم لم يمعيروا كل لهجة من لهجاتهم على حدة، ليمنحوها وضعيتها الرسمية؛ بل معيروا اللغة الباسكية بالمفرد. صحيح أن هذه التجربة لم تبدأ إلا سنة 1968، إلا أن الباسكيين كانوا مقتنعين أشد ما يكون الاقتناع بضرورة معيرة لغتهم وتوحيدها؛ فوقفوا بدورهم في وجه كل الدعوات التشتيتية التي كان يواجههم بها خصومهم؛ وقرروا أن تكون لغتهم المعيار هي لغة الأوسكارا L'euskara. ومنذ سنة 1982، ستعمد الحكومة الباسكية في إطار قانون توحيد normalisation اللغة الباسكية وإلزاميتها إلى تعميم هذه اللغة الممعيرة في كل المدارس العمومية للإقليم. ونظراً للنتائج المهمة التي حققتها أكاديمية اللغة الباسكية في هذا المجال، فإن وسائل الإعلام ستسير، بدورها، على نفس النهج الذي اختطته هذه المؤسسة؛ وفي غضون30 سنة فقط، ستصبح لغة الأوسكارا لغة قائمة الذات، وستصبح اللغة المرجع التي تمنح اللهجات إمكانيات التفاعل فيما بينها، إلى الدرجة التي أصبحت فيها الأجيال الجديدة خلال هذه الفترة القصيرة لا تتقن فقط اللغة المعيار بشكل كامل، بل وأيضاً تتمكن من التواصل عبر –اللهجي رغم تباين متغيراتها الفرعية؛ وهو التواصل الذي كان مستحيلاً قبل ذلك بين جيل الآباء والأجداد. ولاحظوا معي، أيها السادة، أنه منذ سنوات 1970- 1980، سيؤسس الباسكيون تنسيقية محو الأمية وتعلم اللغة الباسكية في جميع المناطقالإقليم؛ وبهذا فإن لغة الأوسكارا لم تعد فقط موجهة إلى الأطفال الصغار، وإلى المدارس النظامية الثانوية، ولكن أصبحت كذلك موجهة إلى الكبار وأداة لإخراج هؤلاء من الأمية الوظيفية.
وأما في سويسرا يا ساداتي، فإن "الكانتون" السويسري الألماني الذي يمثل أكثر من 65 % من ساكنة سويسرا، والذي تميز تاريخياً بتعدد لهجاته غير المكتوبة والمختلفة بشكل كبير عن اللغة المعيار في ألمانيا، وذلك إلى الدرجة التي يتفاجأ فيها المسافر الألماني إلى هذا الكانتون بكونه لا يقدر أن يتواصل بشكل سهل وانسيابي مع سويسري يتحدث إحدى متغيرات اللهجات الألمانية السويسرية... إن هذا الكانتون، أيها السادة، قد تمكن من التحكم في وضعيته اللسانية نتيجة للمعيرة التي باشرتها السلطات المحلية منذ عقود؛ إذ من الثابت أن هذه السلطات قد منحت الباحثين كل الإمكانيات للاشتغال على معيرة اللغة الألمانية السويسرية من خلال تحييد الخصوصيات اللهجية الموسومة محلياً، وهو ما أمكن من إمداد المدرسة والإعلام بنموذج لساني معياري هو الذي سيصبح مرسماً بقوة الاستعمال في الإدارة والبرلمان وكل مرافق الدولة. لقد كانت السياسة اللسانية السويسرية مبنية في مجال التعليم على استعمال اللغة الأم في السنة الأولى من التعليم الابتدائي، أي باستعمال تلك اللغة القريبة من المحيط العائلي للطفل؛ إلا أنه انطلاقاً من السنة الثانية، أيها السادة، سيتم الانتقال مباشرة إلى استعمال اللغة الألمانية المعيار باعتماد نصوص للقراءة ممعيرة؛ ولكي تنتقل بعد ذلك إلى استعمال نفس اللغة للتدريس بها؛ ولم نسمع في سويسرا لمرة واحدة أنهم رفضوا هذا المعيار أو أنهم أعلنوا عصياناً كما يريد البعض أن يعلنه عندنا؛ وهكذا سيذعن برلمانيو البرلمان الفدرالي لقرار أن يتحدثوا بالألمانية المعيار، لكنه سيُسمح لهم في برلمانات المقاطعات والمجالس التشريعية والتنفيذية باستعمال اللهجات إلى جانب الألمانية المعيار، تماماً كما سيُسمح للإعلاميين باستعمال هذه اللهجات في كل وسائل الإعلام. ونتيجة لهذه السياسة التي لعبت فيها المؤسسات الأكاديمية الدور الرئيس، وليس سياسة مدبجي المقالات المناهضة، فإنه أصبحت اللغة الألمانية السويسرية، على غرار الكطلانية والأوسكارا، تلعب دور اللغة الجامع بين مختلف لهجات الكانتون، مما خلق نوعاً من التفاعل الإيجابي بين هذه اللهجات، بل وسهل من مأمورية التواصل والتفاهم اللذين كانا غائبيْن من قبل.
وفي كل من هولاندا وبلجيكا، سنلاحظ، يا سادة، أن نفس التجربة ستتكرر بشكل مثير أيضاً. إذ من المعلوم أن اللغة النيدرلندية ذات المتغيرات اللهجية المختلفة قد بوشر في عملية معيرتها منذ أن تمت ترجمة الكتاب المقدس سنة1638 من نصوصه الأصلية: الإغريقية والعبرية إلى لغة نيدرلاندية وسيطة وتستعيد المشترك اللغوي للهجات؛ وهي ترجمة بقدر ما كانت تستشرف، في ذلك الزمن البعيد، منح هذه اللغة وضعاً رسمياً، كانت تتوخى عبرها أيضاً وضع لبنة لبناء لغة معيارية مؤسسة على المشترك اللساني لجميع اللهجات التي كانت منتشرة حينئذ. وبطبيعة الحال فإن الأبحاث الأكاديمية التي بوشرت بعد ذلك للتقريب بين مختلف اللهجات (قاموس اللغة النيدرلندية 1864، وقاموس توحيد طريقة الكتابة النيدرلندية الصحيحة في ستينيات القرن التاسع عشر إلخ) سوف تشكل في غضون القرن العشرين، مرتكزاً تعتمد عليه اللجن العلمية للبحث في صيغ التقريب بين نيدرلند وفلاندرن. وهو ما سيؤدي سنة 1954 إلى ظهور القائمة الرسمية للكتابة الصحيحة أي الكتابة المعيار؛ تلك القائمة التي ستتوج، بعد عقود من العمل، بتوقيع معاهدة الاتحاد اللغوي النيدرلندية بين بلجيكا ونيدرلند (هولاندا) سنة 1980 والذي ستكون ثمرته هو نشر كتاب "القواعد العامة للغة النيدرلندية" في 1984. ونتيجة لكل المجهودات التي بُذلت للتقريب بين مختلف اللهجات خاصة من خلال المدرسة والإعلام، فإنه سيتم تجاوز الاختلافات اللسانية المحلية إلى الدرجة التي أصبح فيها الهولانديون والفلامنيون اليوم يرفضون أي حديث عن لغتين نيدرلندية وأخرى فلامنكية، وذلك بالرغم من الاختلافات الواضحة التي سادت والتي كانت تعوق التواصل. فبالنسبة لهم، كما يذهب إلى ذلك فانديبتة / فرمولن، أنه "من الخطأ على أي حال، أن نتكلم عن لغتين: نيدرلندية (هولندية) وفلامنكية". ومرة أخرى فإن كفايات عدم الفهم البين-لهجي بين النيدرلندية والفلامنكية والذي كان يقف حجر عثرة في التواصل سيبدأ في الاختفاء شيئاً فشياً، بسبب المدرسة والراديو والتلفزة إلخ.
ولا أريد أن أعدد الأمثلة، فهي كثيرة ياسادة. إذ يمكن أن أتوقف أيضاً عند التجربة الصينية التي معيرت لغة "الهان" باعتمادها على أكثر من 13 لهجة وليس على ثلاثة فقط كما هو الحال في المغرب؛ ومع ذلك فهي الآن تُعتبر إحدى اللغات العالمية ذات الصيت الواسع؛ كما يمكن لي أن أتوقف عند التجربة الفريدة للعبرية التي تمكن أصحابها من أن يمعيروها استناداً إلى معجم ديني هزيل جداً لا يتجاوز 8000 كلمة، ولكنهم بفعل الاستعارة المكثفة من لغة الييديش واللغة العربية والألمانية والإنجليزية إلخ واعتمادا، كذلك، على بنيات لسانية أجنبية للغات الهندو-أوروبية، ها أنتم أولاء ترون أين وصلت هذه اللغة التي تحولت، في غضون فترة قصيرة، من لغة الترانيم المقدسة إلى لغة التكنولوجيا والبحث العلمي، والتي استحقت عليها أكثر من جائزة نوبل. ثم هناك أيضاً تجربة معيرة اللغة الألمانية وتجربة معيرة اللغة الفرنسية وتجربة معيرة اللغة الإنجليزية إلخ وتجارب أخرى لو توقفنا عندها كلها لتبين لنا أننا نعيش هنا في المغرب حالة انفصام قصوى عن كل ما وقع ويقع حوالينا؛ ولكنها الضغينة والحسد أحياناً وحسن النية وسوئها أحياناً أخرى والجهل أو الإيديولوجيا تارات أخرى. إذ في الوقت الذي اعتبرت فيه كل الشعوب الأخرى فعل المعيرة إغناء للهجاتها وتثويراً لها وإمداداً لها بما ينقصها من مصطلحات وصيغ وتعابير وسجلات معجمية تعكس الحاجة الملحة إليها؛ وفي الوقت الذي انفتحت فيها لهجات هذه الشعوب على بعضها البعض لكونها تنتمي إلى نفس العائلة اللسانية، انطلقنا نحن نلعن الظلام، متهمين المؤسسة الوحيدة التي لا عمل لها إلا هذا بكل أنواع الاتهامات وكأنها أتت بِدعاً بين كل التجارب العالمية.
لا ياسادة، واسمحوا لي إن قلت لكم: إنكم أخطأتم الطريق والهدف. فإن كان ذلك عن حسن نية فلا بأس، ولكن إن كان ذلك عن سبق إصرار إيديولوجي، فاعلموا أننا لن نستجيب لكم وأننا سنمانع إلى آخر رمق. نعم، قد يقع أحياناً أن تهيمن بعض كلمات هذا الفرع أو ذاك، ولكن هذا ليس مبرراً كافياً لننزل من القطار نهائياً كي يواصل كل واحد منا سفره وحده. إن التنافس شيء إيجابي بين الفروع اللسانية، ولكن التنافس الذي يتحول إلى تنازع وتباعد وليس إلى بناء المشترك وخلق كل شروط التقارب لن يؤسس إلا للموت المحقق لكل تنوعاتنا اللسانية التي يُدّعى الدفاع عنها. ولنا في التجربة الرومانشية السويسرية الدليل والحجة؛ فهذه اللغة التي عاشت وتعيش وضعية اللاستقرار داخل الجهة نتيجة لكثافة الهجرة (التي هي أيضاً حالتنا) أدى بها ذلك إلى أن تفقد قوتها وتتراجع بشكل مثير رغم كل المجهودات التي بُذلت في هذا السبيل.
ولنكن صرحاء؛ إنكم بدلاً من أن تتوجهوا بالنقد إلى السياسة اللسانية والتعليمية الأمازيغية للحكومات المتعاقبة التي تتباطأ وتتلكأ بل وتُعارض بشكل يثير الامتعاض في تعميم اللغة الأمازيغية وجعلها لغة إلزامية في جميع الأسلاك والمستويات، تتجهون –للأسف- إلى إثارة قضايا تقنية هي من اختصاص اللسانيين والبيداغوجيين، وتحملون المعيرة وتيفيناغ كل أوصاب منظومتنا التربوية، ولكأن تخلف العربية والفرنسية أيضاً بسببه المعيرة وتيفيناغ. وعلى ذكر هذه الأخيرة، فإني أود هنا أن أُطمئنكم بأن تيفيناغ هو أسهل حرف لتعلم لغة؛ هذا ما أكدته الدراسة التي قام بها المعهد الملكي بتعاون مع الوزارة الوصية، والتي شملت أكثر من 1200 تلميذ يدرسون الأمازيغية، وينتمون إلى سبع أكاديميات في الشمال والوسط والجنوب؛ فقد أثبتت هذه الدراسة التي سلّم المعهد نسخة منها إلى الوزارة، والتي ستخرج أيضاً في كتاب، أنه بالرغم من أن أطفالنا لا يدرسون إلا ثلاث ساعات متقطعة أسبوعياً، وبالرغم من أن الفئة المستهدفة هي فئة التلاميذ الذين درسوها إلى المستوى الثاني ابتدائي فقط، فإن نسبة نجاحهم عالية جداً، لا فرق في ذلك بين الناطقين بالأمازيغية والناطقين بالعربية؛ بحيث أن هذه النسبة تجاوزت 90 في المائة وفي مختلف الأنشطة. وأما فيما يتعلق بالمعيرة، فإن دراسة ثانية على وشك الانتهاء منها والتي شارك في إنجازها أكثر من 70 مؤطراً تربوياً وأستاذاً وباحثاً، قد أبرزت بدورها أن اللغة الأمازيغية المدرَّسة لا تَطرح، مرة أخرى أي مشكل، إلا فيما يتعلق بإشكاليات مرتبطة بما هو ديداكتيكي أو لوجيستيكي أو بالظروف التي تتم فيها العملية التربوية وهي إشكاليات تعاني منها كل اللغات المدرَّسة. وأما فيما يتعلق بدرجة تمكن هؤلاء التلاميذ وإتقانهم لهذه اللغة على مستوى القراءة والفهم والكتابة فإن غالبيتهم قد حققوا نتائج مبهرة، بل وأحسن كثيراً من النتائج التي تتحقق في اللغات الأخرى.
فهل أنتم منتهون؟! اللهم إني قد بلغت!. اللهم فاشهد!. اللهم إني قد بلغت!. اللهم فاشهد!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.