شهدت الحركة الأمازيغية منذ انبثاقها في المشهد الثقافي والسياسي الوطني بُعيْد لحظة الاستقلال، دون الخوض في بعض الاختلافات في الرأي والتقدير حول مسألة التأصيل للحركة، مجموعةً من التحولات والتطورات التي مسّت جملةً من العناصر المشكّلة لبنيتها. ومن أبرز هذه العناصر يوجد عنصر الخطاب، فعنصر التنظيم ثم عنصر تغيّر الأجيال وتأثيره على مسار الحركة. وسنحاول في هذه المقالة تقديم بعض رؤوس الأقلام في إطار المساهمة في قراءة ورصد بعض ملامح التحول الذي مسّ هذه المكونات. وبدت، بالتالي، بوادر تأثيرها على مجرى الملف الأمازيغي ومستقبله في القادم من الأيام تنكشف شيئاً فشيئاً. مع الإشارة إلى أن هذه العناصر والمعطيات لا تُشكّل سوى جزءاً يسيراً من ميكانيزمات المقاربة التحليلية لنشأة، مسار ومستقبل هذه الحركة المجتمعية الجديرة بالتتبع والتحليل. أولا: الخطاب من المعلوم أن خطاب الحركة الأمازيغية في وضعيتها التنظيمية الأولى قد انطلق من بعض المفاهيم الأساسية التي تعكس الاهتمام بجوهر وعمق الواقع الثقافي والحضاري المغربي، والذي عانى كثيراً، ولا يزال في كثيرٍ من مظاهره وأبعاده، من ويْلات الطّمس والتهميش والإبعاد بفعل الاختيارات السياسية والإيديولوجية المتبنّاة منذ فجر الاستقلال على الأقل. ومن بين هذه المفاهيم التي تشكل مفتاح قراءة هذا الخطاب نقف عند مفهوم "الثقافة والتراث الشعبيين" ومفهوم "التنوع والتعدد الثقافيين" ومفهوم"اللغة" ومفهوم "الهوية الوطنية".. إلخ، من الجهاز المفاهيمي الذي بُني عليه هذا الخطاب. وذلك في سياق تاريخي له خصوصياته السياسية والإيديولوجية والثقافية بين جلّ مكونات النخبة المغربية. ومع توالي السنوات وحصول تداخل وتفاعل بين أعضاء النخبة الأمازيغية في مجموعة من الأقطار لاسيّما المغرب والجزائر وليبيا وغيرها من الأقطار الأمازيغية وتطور الفعل الأمازيغي وانفتاحه على بعض التجارب الأخرى والاستفادة مما أتاحه السّياق الدولي بُعيد لحظة جدار برلين ونماء المنظومة الدولية لحقوق الإنسان وتطورها شكلاً ومضموناً وتراكم أجيال حقوق الإنسان. كل ذلك فرض تحولاً غير مسبوق في بنية الخطاب الأمازيغي بمفاهيمه المهيكلة ومطالبه الأساسية وطرق التعبير عنها والأشخاص المعبّرين عنه. ولذلك شهد هذا الخطاب تقلّباً مهماً، إذ شمل هذا التطور صكّ المطالب سواء فيما يتعلق بالكمّ أو ما يتعلق بالنوع أو حتى الرهانات المستقبلية. ففيما يتعلق بالجانب الكمي نجد بأن اللائحة المطلبية لدى الحركة الأمازيغية طويلة وتتضخم مع مرور الزمن وتراكم التحولات، في الوقت الذي تم فيه إغناء هذه اللائحة بمطالب جديدة من حيث النوعية والمجالات مثل مطلب عدالة الاستفادة من عائدات الثروات المحلية المعدنية والبحرية والشاطئية والرملية والحجرية والغابوية وغيرها كثير، وكذلك عدالة الحق في المشاركة في الحياة السياسية. وموازاة مع كل ذلك بدأت الحركة الأمازيغية في بلورة ووضع الأسس القاعدية للمشروع المجتمعي المتكامل الأبعاد باعتبارها كتلة مجتمعية من اللازم عليها امتلاك رؤية للدولة وللمجتمع وللثقافة، وذلك من منطلق كون التهميش اللغوي والثقافي لا يشكّل سوى مظهراً من مظاهر الإقصاء العام والجوهري المتمثّل في استحكام إستراتيجية الإبعاد السياسي للفاعل الأمازيغي وإقصاءه من ممارسة العمل السياسي المُنظّم انطلاقاً من مرجعيته الأمازيغية على حدّ تعبير الباحث محمد بودهان، والعمل على دفعه، في أحسن الأحوال، إلى الانخراط في الفعل السياسي المباشر تحت مظلة الآخرين. لكن المعطيات الجديدة التي استجدّ بها الملف الأمازيغي، ليس فقط بالمغرب بل بالمغارب كليةً، ستساهم ، ما في ذلك شك، في الدفع بالفاعلين الأمازيغيين إلى التفكير في الآليات التنظيمية المواكبة للمرحلة والكفيلة بتبوء الأمازيغية مكانتها التي تعكس موقعها في الماضي والحاضر. ثانيا: التنظيم لقد شكّل النسيج الجمعوي، ولا يزال، آليةً أساسيةً في التّرافع حول الملف الأمازيغي في كل المستويات المحلية منها والجهوية والوطنية والدولية، وبُذلت جهود محمودة دوماً للرقيّ به وتقويته وتكثيف قدراته من خلال خلق تنسيقيات محلية وجهوية ووطنية قصد تثبيت الفعل والحسّ الجماعيين في التخطيط والتنظيم والعمل. وفي ذلك استلهام لقيم التعاون والتآزر والتضامن الكفيلة بالتغلّب على كل الصعوبات والتحديات المطروحة. وبالإضافة إلى ذلك هناك حركة طلابية أمازيغية قوية ونشيطة وجدّ يقظة داخل مختلف الجامعات والمعاهد العليا ومراكز التكوين الأكاديمي والمهني، وأن كل المؤسرات تنحو منحى الثقة في المستقبل بحكم الطابع الشبابي للحركة. وبشكل عام يمكن أن نقول على أن هناك ثلاث توجهات أساسية تخترق اليوم جسم الحركة الأمازيغية، مع التذكير بكون هذا التحليل مجرد قراءة لا غير. يتجلى التوجه الأول في الرأي الذي يرى أن بلوغ أهداف الحركة يمرّ بالضرورة عبر الميكانيزم التنظيمي وكل ما يعينه هذا الميكانيزم من هيكلة وضبط وفق أجندة محددة في الزمان ومحاولة بلورة مشروع سياسي-مجتمعي غايته المثلى الوصول إلى دفة الحكم وتدبير شؤونه عبر استلهام الجوانب المشرقة من التجارب المتراكمة على مرّ العصور في المغارب. وينطلق هذا التوجه من فكرة جوهرية قِوامها كون القضية الأمازيغية قضيةً سياسة بالأساس، في المبتدأ وفي المنتهى قبل أن تكون غير ذلك، وأن معالجتها يمرّ بالضرورة عبر قنوات الفعل والتدبير السياسيين، أي الأداة الحزبية التي تتيح ممكنات ولوج مواقع هذا التدبير والمشاركة فيه مثل البرلمان والحكومة والمجالس المحلية والجهوية المنتخبة وغيرها من المؤسسات الحكومية، وهو ما يعني كفايةً امتلاك تصور حول طبيعة الدولة والمجتمع والثقافة. كما يستعين هذا التوجه باقتباس فلسفته في التنظيم والطموح وأسلوب العمل من تجارب بعض الحركات والشعوب التي كانت تعيش أوضاعاً شبيهة نسبياً بتلك التي نعيشها الآن. وقد بدت وجَاهة رأي هذا التيار تتقّوى وتتغلغل بين صفوف المجتمع وحركاته المختلفة لأسباب كثيرة نكتفي بذكر واحدة منها، والمتمثلة في أخذ العبرة من طرق العمل والتنظيم لدى الحركات الدينية والاشتغال كثيراً في عمق المجتمع وتأطير فئاته المختلفة والاهتمام بشؤونها اليومية. وأصبح لزاماً بحكم نجاح القيادات الأمازيغية في التحول السّلس للمطالب الأمازيغية من النزعة الهوياتية الضيقة نحو استلهامها لمبادئ وقيم وفلسفة حقوق الإنسان وفضائلها على البشرية ضمن إطار مواكبتها لدينامية تطور أجيال حقوق الإنسان رغم كل ما يعترض مسارهم من صعوبات وإكراهات. أما التوجه الثاني فهو لا يُعير أي اهتمام لمسألة التنظيم عموماً والسياسي منه على وجه الخصوص ولا يرى من أهمية في حشد الجمهور الأمازيغي داخل تنظيم سياسي محدد معلوم الأهداف والبرنامج والخطط ويتدارس القضايا ويتتبعها بشكل منتظم حيث يكون الالتزام التنظيمي والمذهبي هما العمود الفقري في مسار الصراع الأبدي من أجل انتزاع الحقوق والتمتّع بها داخل المجتمع الديموقراطي ومن بينها الحق في التنظيم السياسي نفسه وهيكلة المجتمع والتعبير الحرّ عن أفكار مذهبه الإيديولوجي. وغالباً ما ينطلق هذا التوجه من التجربة السياسية المغربية وما عرفته من احتواء التنظيمات الحزبية من قبل سلطة المخزن ونجاح عملية الإخصاء على كافة الأصعدة والمستويات المنتهجة تجاهها حتى أصبحت غير قادرة على الإنتاج والحركة داخل صفوف الشعب باستثناء الامتداد الذي يحدث خلال الزمن الانتخابي تماماً كما هو الأمر بالنسبة لوضعية الحلزون في فصل الشتاء سرعان ما يعود إلى قوقعته. وهذا جزء مما دفع بهذا التوجه ليحكم مسبقاً على كل تجربة تنظيمية جديدة بالفشل وإسداء النصح والإرشاد ببقاء الوضع على ما هو عليه رغم اقتناع الجميع، بحكم السياق الوطني والإقليمي والدولي المتغيّر، بصعوبة، إن لم نقل استحالة، بقاء الحركة الأمازيغية رهينة الفلسفة التنظيمية لما قبل هذا السياق الجديد. وأصبح الشباب الأمازيغي يتطلع اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى المشاركة في الحياة السياسية محاولاً ترتيب أولوياته من المطالبة إلى الفعل. وأن بلوغ ما تصبو إليه الحركة رهينٌ بالآلية/الآليات التنظيمية والسياسية الكفيلة بتحقيق ذلك من خلال برنامج/برامج سياسية واضحة وتحالفات مبنية على مصالح هذا البرنامج. أما التوجه الثالث، وإن كان غير منسجم فيما بينه ويصعب تحديد ملامحه الكبرى، إلا أنه في أغلب الأحوال يميلُ إلى حصر الشأن الأمازيغي في تقديم وإسداء مختلف الخدمات والمعطيات والخبرات لكل من له رغبة في تطوير معارفه وإغناء رصيده في مجال الأمازيغية. وحتى إن كان لهذا التوجه طموحات معينة ما فهو لا يعبّر عنها بكل وضوح مرحليا ويميلُ إلى الاستثمار اللحظي لممكناتها. لكن مقابل ذلك يمكن القول على أن هنالك منافسة وصراع حامي الوطيس بين الفاعلين الإجتماعيين حول ضمان موطئ قدم في مجال المجتمع المدني الأمازيغي بكافة مكوناته ومحاولة اتخاذه خلفية للصراع الإيديولوجي والسياسي بين النخب والقيادات بحثاً عن القيادة والريادة والزعامة. هذا ما جعل واجهة الجمعيات الثقافية وبعض الهيئات الحقوقية هي الركيزة الأساسية للمطالب الأمازيغية في بلورة المنظور التقدمي للأمازيغية كما صاغه المفكرين والباحثين والمثقفين. مع تسجيل كون هذا النسيج الجمعوي يعيش حالياً تجربة مخاض المزاوجة بين المطالب اللغوية-الثقافية وبين المطالب الاجتماعية والاقتصادية والانفتاح على المشاريع السياسية التي تتبلور مع مرور الوقت. ثالثا: تعاقب الأجيال وتأثيره على مسار الحركة لقد تميّز جيل الرّواد والمؤسّسين الأوائل للحركة بمجموعة من الخصائص لا شك أنها تختلف مع تلك التي تتميّز بها الأجيال الحالية، لكن كلما تمعّنا في كنه تلك التباينات نستخلص أن ذلك يعدّ نتيجة طبيعية محكومة بقوانين التطور وتغيّر السياقات وتبدّل الأحوال. فإذا كان المؤسسون قد ساهموا في وضع اللّبنات الأساسية للحركة خطابا وتنظيماً، وناضلوا بمختلف الوسائل الممكنة والمتاحة حتى يصلنا اليوم ملفٌ يُعنى بالشأن الأمازيغي في كل أبعاده، فإن الأجيال الشّابة الراهنة والمستقبلية مطالبةٌ بمواصلة مسيرة النضال الديموقراطي من أجل التقدم بالملف نحو الأفضل حتى تتبوأ الأمازيغية مكانتها الطبيعية داخل المؤسسات الدولتّية بحجمٍ يساوي موقعها داخل عمق المجتمع والتاريخ. ومن الأدوات المتاحة اليوم بين أيدي الشباب الأمازيغي يوجد الإعلام الالكتروني بالأولوية من مواقع التثبيت والإخبار ومدونات التثقيف والتقاسم والشبكات الاجتماعية المختلفة لنشر المعلومات وتبادلها ومناقشتها بالسهولة الممكنة. بحيث ظل هذا النوع من الإعلام هو المتنفس الوحيد تقريباً والأكثر تداولاً لدى الشباب الأمازيغي. وتتمثّل عناصر الجذب نحو استثمار هذه الوسائل في خصوصية هذا النوع/الجنس الإعلامي بما يتيحه من هامش التعبير والحرية وممكنات التواصل والسرعة في الآداء فضلاً عن الامتلاك والتصرّف الذاتي له. وفي مقابل ذلك هناك تخوفات من احتجاز الملف في العالم الافتراضي والبدء بتلاشي التلاقي الاجتماعي وتراجع الروابط والعلائق الاجتماعية مما سينعكس سلباً على ديناميكية المطالب، بالرغم من أن المؤشرات المتوفرة لحدّ الآن لم تصبّ في هذا الاتجاه. وأكبر دليل على ذلك قوة وفعالية الحشد والحضور في مسيرتي الرباط والدار البيضاء خلال النصف الأول من السنة المنصرمة. وقد غطّى هذا الجنس الإعلامي جزءاً من الفراغ الحاصل رغم أن هناك انفتاح نسبي جداً لقنوات القطب الإعلامي العمومي على الأمازيغية من خلال برامج ترفيهية وأخرى تثقيفية ونشرات إخبارية وكذا دور الإذاعات الجهوية في نشر الثقافة الأمازيغية فضلاً عن تعزيز هذا القطب بقناة أمازيغية منذ أكثر من سنتين. لكن كل ذلك على لم يقلّص كثراً من استمرار جزء كبير من الصور النمطيّة حول الأمازيغ باللجوء فقط إلى تقديمها على أنها تهم مجالات جغرافية محددة وفئات اجتماعية معينة وتكريس البعد الثقافي-الفني-اللغوي للأمازيغية في كثير من الاحيان. بالنتيجة يمكن أن نستشفّ على أن الاستجابة للمطالب الأمازيغية في الظرفية الراهنة لابد وأن يستند إلى رؤية واضحة المعالم سواء من قبل السلطة أو من قبل الفاعلين المجتمعيين والمشتغلين بشكل خاص في الحقل الأمازيغي، وليس فقط الاكتفاء بإجراءات التدبير التقني بغرض تلبية رغبات مرحلية تمليها اكرهات ظرفية قاهرة دونما اللجوء إلى منهجية التحليل الماكرو مجتمعي والقاضي بمعرفة كنه تطور البنيات الذهنية والمعرفية والديموغرافية والمجالية للمجتمع المغربي والمغاربي. ويقتضي الأمر، من جملة ما يقتضيه، الأخذ بعين الاعتبار كون إدراك أوان البحث عن السُّبل التنظيمية الكفيلة بضمان الحقوق واستمراريتها قد حان، لاسيّما وأن الشروط الذاتية والموضوعية التي كانت سائدة قبل هذه المرحلة والتي أنتجت جزءاً من هذا الواقع لم تكن متوفرة، أو على الأقل متضائلة، بالمقارنة مع سير الأحداث وتطورها إن على المستوى الوطني أو على المستوى الإقليمي. وطنياً، أصبحت الأمازيغية تسكن قلب الوثيقة الدستورية باعتبارها صكّ التعاقدات الاجتماعية والسياسية من جهة، وتطور القاعدة الشعبية المؤمنة بعدالة القضية الأمازيغية فضلاً .... وإقليماً، بروز تيار أمازيغي وازن على مسرح الأحداث في ليبيا بعد الإطاحة بالنظام الشمولي لمعمر القذافي الذي ذهبت الكثير من الشكوك في الأدوار التي لعبها سياسياً واقتصادياً في شلّ فكرة التنظيم السياسي الأمازيغي في شكله الحديث والعمل ما أمكن ذلك على عرقلة مساره ونموه. هذا بالإضافة إلى موقع حركة الطوارق ذات المرجعية الأمازيغية وتأثيرها البيّن على مجرى الأحداث في الأجزاء الجنوبية لبلدان منطقة شمال إفريقيا.